السودان: الطغمة العسكرية سنة بعد الانقلاب

مرّت سنة كاملة على الانقلاب العسكري الذي نفّذته القيادة العسكرية السودانية بزعامة عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو في الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وقد كان انقلاباً من العسكر على شركائهم المدنيين في إدارة المرحلة الانتقالية التي سبق أن اتفق عليها الطرفان في صيف 2019. أي أن الانقلاب لم يستهدف استيلاء العسكر على السلطة مثلما هي عادة الانقلابات، بل استهدف إزاحة من شاركهم بها ولو بصورة دونية وخاضعة، بغية الاستئثار بالحكم والشروع في ترميم أعمدة نظام عمر البشير السياسية من خلال إرجاع عدد هام من رجالات ذلك النظام، وعلى الأخص المتاجرين بالدين، إلى مناصب الحكم.
والحصيلة بعد عام هي فشل ذريع للحكم العسكري في إدارة شؤون البلاد، إذا ما قيس بانهيار الاقتصاد السوداني ومعه مستوى معيشة الغالبية العظمى من شعب السودان، وانفلات الوضع الأمني، بما في ذلك مواصلة المجازر في دارفور والنيل الأزرق بما أودى بحياة المئات، وإخفاق العسكر في اتكالهم على المحور الرجعي الداعم لهم، والذي يشمل مصر السيسي والإمارات المتحدة والمملكة السعودية وروسيا، كي يكسبوا شرعية دولية، وإخفاقهم كذلك في شقّ صفوف القوى المدنية التي تسبّبت بالإطاحة بنظام البشير بما يتيح لهم ادّعاء العودة إلى مسار ديمقراطي زائف، وفوق كل ذلك بالطبع رفض غالبية الشعب السوداني للانقلابيين واستمرار النضالات الجماهيرية التي تقف لجان المقاومة في طليعتها.
وإنه لفشلٌ ساطعٌ سطوع الشمس في سماء صافية، إلى حدّ أن عضو الطغمة العسكرية دقلو نفسه أقرّ به في تصريح ملفت أدلى به قبل ما يناهز ثلاثة شهور. وكان ذلك التصريح مناسبة لتصعيد مسرحية توزيع الأدوار بين ركني الحكم العسكري، وهما يتشكّلان من الجيش النظامي الذي يمثّله البرهان ومن «قوات (القمع) السريع» التي يتزعّمها دقلو. لكنّ المسرحية لم تنطلِ على قوى الثورة الحيّة ولا يمكن أن تنطلي عليها، إذ تعلم أن البرهان ودقلو شاركا سوية في زجّ القوات المسلّحة السودانية في دور المرتزقة في حرب اليمن وأن المؤسستين منخرطتان في نهب ثروات السودان الطبيعية كما والاقتصادية، وأن البشير رفع مقام قوات دقلو من ميليشيات متخصّصة في حرب الإبادة في دارفور (جنجويد) إلى قوات أنيطت بها مهمة «دعم» الحكم العسكري بتنفيذ أقذر المهمات في عموم البلاد وخارجها، وهو دور لم تتوقف قط عن ممارسته بعد إطاحة الطغمة العسكرية بالبشير.

الحقيقة أن العسكر ما كانوا ليتجرّؤوا على إزاحة شركائهم المدنيين قبل عام لولا اتكالهم على تغطية المحور العربي الرجعي لهم لدى العواصم الغربية، وقدرتهم على تهديد واشنطن بانضمامهم الكامل إلى المحور الروسي ـ الصيني

والحقيقة أن العسكر ما كانوا ليتجرّؤوا على إزاحة شركائهم المدنيين قبل عام لولا اتكالهم على تغطية المحور العربي الرجعي لهم لدى العواصم الغربية، وقدرتهم على تهديد واشنطن بانضمامهم الكامل إلى المحور الروسي ـ الصيني، بما يشمل منح روسيا قاعدة بحرية على البحر الأحمر تنضاف إلى القاعدة البحرية الصينية في جيبوتي بما يشكّل تغييراً خطيراً في الخريطة الاستراتيجية الإقليمية. فإن العسكر يستفيدون من الصراع بين المحورين العالميين، مثلما تستفيد منه دول المحور العربي الرجعي، كي يوسّعوا مجال مناورتهم ويتقّوا ضغط العواصم الغربية عليهم.
فإن الحالة السودانية لا تزال كما وصفنا على هذه الصفحات قبل أشهر حيث «إن القيادة العسكرية أعجز حتى الآن من أن تجازف بفقدان السيطرة على قواعدها من خلال عصيان أفرادها» في حال أمرتهم بتصعيد القمع الدموي للمتظاهرين على غرار ما تشهده إيران حالياً وما شهدته سوريا بدءاً من عام 2011، «والقيادة الجماهيرية أعجز حتى الآن من أن تقنع أفراد القوات المسلّحة بالتمرّد على قادتهم والانحياز إلى الثورة تحقيقاً لمطلبها الأول، ألا وهو تسليم الحكم لسلطة مدنية ديمقراطية وعودة القوات المسلّحة إلى ثكناتها» («عسكر السودان: أخلاق مسالمة أم خوف من الشعب؟»، 5/7/2022).
والحقيقة أن لا طريق ثالث بين الطريقين، فما دامت القوات المسلّحة مُشرفة على ما تُشرف عليه اليوم من مؤسسات وامتيازات، سوف تبقى مهيمنة على النظام السياسي السوداني حتى ولو تظاهرت بالوقوف على الرصيف، على غرار الحالات الكثيرة، ومنها في منطقتنا العربية حالتي مصر والجزائر، حيث رعت القوات المسلحة حكومات «مدنية» خاضعة لرقابتها ولا سيادة فعلية لها، بل تبقى السيادة بيد الحائزين على السلاح. وهو السبب الذي جعل بعض أركان النظام القائم، من دقلو نفسه إلى بعض الجماعات المتاجرة بالدين، يرحّبون بمشروع الدستور الانتقالي الذي طرحته اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، إذ يرون فيه خشبة خلاص قد تسمح للطغمة العسكرية عند الحاجة إخراج حلّ وهمي للأزمة المستعصية، يتيح للعسكر تسليم الحكم شكلياً لمدنيين يعملون وسيف القوات المسلحة مسلّطٌ فوق رقابهم.
فلا سبيل إلى نزع الهيمنة العسكرية عن النظام السياسي السوداني سوى بتقليص القوات المسلّحة إلى الدور المنوط بها في إطار نظام ديمقراطي، ألا وهو الذود عن الوطن وخدمة الدولة المدنية، بلا انخراط في أعمال اقتصادية تجني منها القيادات العسكرية أرباحاً وامتيازات تجعلها متشبّثة بالسلطة. ولن يحصل ذلك من غير تمكّن الحراك الشعبي السوداني من شقّ صفوف العسكر، ليس بين البرهان ودقلو، وهما وجهان لعملة واحدة، بل بين أبناء الشعب الفقير في قاعدة القوات النظامية ورتبها الدنيا، من جهة، والطغمة العسكرية الحاكمة بكافة أركانها في الجهة المقابلة.

كاتب وأكاديمي من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي:

    مقال رائع وتحليل واقعي بعيد عن العاطفية والشعارات الفارغة التي ابتليت بها منطقتنا، ما يحدث في السودان وغيره من الدول التي تقاوم فيها الشعوب الطغم العسكرية وحكم الفرد يتاثر مباشرةً بالصراع العالمي بين الدولة الشمولية والتعددية الحزبية وتداول السلطة سلمياً، وقد يقول قائل ان الغرب الديمقراطي والصين وروسيا الشموليتين كلهم واحد ولا يدعمون التحول الديمقراطي في منطقتنا، وهذا تحليل خاطئ تماما، وهو ان دل علي شي انما دل علي جهل المحلل بطريقة عمل الديمقراطية والنظام الديمقراطي، فاولاً النظم الديمقراطية نظم بشرية انسانية، تعمل لمصلحتها واستمراريتها كما يفعل الحكم الشمولي ولكن بطريقة مختلفة تماما، والنظم الديمقراطية في الغرب والجنوب وجنوب شرق اسيا واليابان يدعمون بقوة التحول الديمقراطي ولكن بشرط مهم للغاية وهو تمسك الشعوب بضرورة التغيير وتقديم التضحيات الغالية والثبات علي ذلك، اما اذا تخاذلت الشعوب وسكنت للطغاة، فليس امام النظم الديمقراطية حل اخر غير اعادت علاقاتها مع الطغاية وعمل ما يمكن للتقيل من طغيانه، باختصار لا تستطيع النظم الديمقراطية مقاطعة كل الطغاة والشعوب ساكنة خاضعة’ والا فشلت النظم الديمقراطية وعزلت نفسها بنفسها.

  2. يقول جبارعبدالزهرةالعبودي من العراق:

    فساد السلطة الحاكمة العسكرية في السودان لا فرق بينه وبين فساد السلطة المدنية الحاكمة في العراق وهذا يعني ان الفساد لا يتعلق برقبة شكل الحاكم المدني او العسكري وانما يتعلق بالضمائر والاخلاق فالحاكم الذي يتحلى بمكارم الاخلاق العامة والمهنية يلقي بمصالحه جانبا ويهتم بالمصلحة العامة اما الحاكم الطماع الباحث عن الامتيازات والمكاسب غير المشروعة فهو يهمل مصالح الشعب ويتعلق بخدمة مصالحه واهدافه

  3. يقول جبارعبدالزهرةالعبودي من العراق:

    فساد السلطة الحاكمة العسكرية في السودان لا فرق بينه وبين فساد السلطة المدنية الحاكمة في العراق وهذا يعني ان الفساد لا يتعلق برقبة شكل الحاكم المدني او العسكري وانما يتعلق بالضمائر والاخلاق فالحاكم الذي يتحلى بمكارم الاخلاق العامة والمهنية يلقي بمصالحه جانبا ويهتم بالمصلحة العامة اما الحاكم الطماع الباحث عن الامتيازات والمكاسب غير المشروعة فهو يهمل مصالح الشعب ويتعلق بخدمة مصالحه واهدافه وهذه معاناة جميع شعوب البلدان العربية بسبب تعلق الحكام فيها مع حاشيتهم بمصالحهم الخاصة والفئوية

  4. يقول د.احمد الجلي:

    يشكر للكاتب اهتمامه بالشأن السوداني ومتابغته لاحواله،
    .وتعليقا على مقالته الاخيرة: السودان: الطغمة العسكرية سنة بعد الانقلاب،ذهب الاشقر ، شأن كثير من الكتاب، الى اعتبار ما قام به البرهان ،في 25 اكتوبر 2021م انقلابا ، وحقيقة لم يكن ما تم في ذلك التاريخ انقلابا ،بل الانقلاب العسكري الحقيقي حدث في ابريل 2019 ، حين قامت اللجنة الامنية التي ائتمنها النظام البائد للحفاظ على امنه ،فخانت تلك اللجنة، برئاسة ابن عوف الامانة ،وانقلبت على البشير،واودعته الحبس او مكانا آمنا كما عبر ابن عوف حينها،
    ومن سوء تقدير تجمع المهنيين المتصدر لقيادة الجماهير آنذاك ، ان لجأ الى تلك اللجنة ووضع الثورة بين يديها، وعقد معها شراكة ،وقعت على اثرها ما عرف في ادبيات الثورة السودانية ب”الوثيقة الدستورية،”وبناء على تلك الثيقة تكونت شراكة بين العسكر( او لجنة البشير الامنية) ، وقوى الحرية والتغيير ( قحت) ومن ثم ما قام به البرهان ليس انقلابا عسكرياً، بل حركة تصحيحية ،حاول من خلالها ان يصلح ما افسدته قحت من خلال سوء ادراتها للفترة الانتقالية، خلال ما يقرب من ثلاث سنوات من استئثارها بالحكم والسلطة على البلاد والعباد.

    1. يقول الرَّائِي:

      (ما قام به البرهان ليس انقلابا عسكرياً، بل حركة تصحيحية ) !!!!!!!
      لا بد من أنك تمزح حتى لو كنتَ جادًّا يا عزيزي ، إلا إذا كنتَ تقصد من “الحركة التصحيحية” هذه ما يشبه تلك “الحركة التصحيحية” التي قام بها سفاح الشام حافظ الأسد !!!؟؟

  5. يقول د.احمد الجلي:

    قد صدق الكاتب في قوله ان الانقلاب استهدف ازاحة من شاركهم السلطة من منتسبي (قحت)،ولكن لم يذكر ان البرهان اعلن عن خظوات تصحيحة لو نفذها لا صلح ما افسدته قحت من استيثار بالسلطة واقصاء كل من عداهم ،و لنجح فيما عجزت قوى الحرية والتغيير عن انجازة، فقوى الحرية والتغيير ،اضافة الى انهم فشلوا في ادارة الفترة الانتقالية و عجزهم عن تقديم رؤية واضحة وبرنامج مجمع عليه ، كان اهتمامهم ،موجه الى الصراع حول كراسي الحكم والنفوذ،والى تنفيذ اجندة ايدولوجية،واثارة قضايا خلافية ليست من صلاحيات الفترة الانتقالية، وبذل كل حهدهم في تغيير المناهج التعليمية،وتحديد هوية الدولة، واثارة بعض القضايا حول حقوق المرأة ،الى غير ذلك من القضايا الخلافية التي تصادم قيم المجتمع السوداني وتمس هويته،والتي لا يمكن حسمها من خلال الفترة الانتقالية، لا سيما في غياب هيئة تشريعية، واجهزة عدلية تعالج المسائل الدستورية.بينما اهملت القضايا المرتبطة بمعاش الناس وتهم حياتهم،وفي نفس الوقت لم يبدأ حتى النظر في القضايا المرتبطة بالعدالة والحريات والسلام.
    يتبع

  6. يقول د.احمد الجلي:

    والكاتب محق في قوله بفشل العسكر في ادارة شؤون البلاد ـ،المتمثل في انهيار الاقتصاد ،وتدني مستوى معيشة الغالبية العظمى من السودانيين،والانفلات الامني، حتى داخل العاصمة فضلا عن المجازر التي تجددت وتمددت في دارفور والنيل الازرق وغيرها من الولايات ،ويلمح الكاتب الى ان العسكر اخفقوا في كسب شرعية دولية بسبب اتكالهم على المحور الرجعي الداعم لهم، والذي يشمل-كما قال- ، مصر السيسي والإمارات المتحدة والمملكة السعودية وروسيا ،كما اخفقوا في شقّ صفوف القوى المدنية التي تسبّبت بالإطاحة بنظام البشير ، ولكن نسي ان القوى المدنية اتكلت في تحركها الاخير بل قبل ذلك على نفس ما اسماه بالمحور الرجعي،كما انهم لم يحتاجوا الى العسكر لشق صفهم بل ان بوادر الانشقاق في صفوفهم ظهرت مبكرا بسبب صراعاتهم الايديولجية ومطامعهم الشخصية في السلطة والنفوذ.
    يتبع

  7. يقول د.احمد الجلي:

    ولو التزم البرهان بقراراته التصحيحية التي اعلنها فيما عرف بالانقلاب في 25/10/2021م،والمتمثلة في: اعلان حالة الطواريء،وحل المؤسسات السيادية والتنفيذية وغيرها من الاجراءات التي تصب في تعويق المسيرة الديمقراطية،فانه-بالاضافة الى ذلك- اعلن تشكيل حكومة من كفاءات مدنية مستقلة،وتعهد بتشكيل محلس تشريعي ،من فيئات تمثل كل الولايات وتضم مختلف انواع الطيف السوداني،من غير اقصاء سوى للمؤتمر الوطني،كما تعهد بإعلان هياكل المؤسسات القضائية بما في ذلك مجلس القضاء العالي والمحكمة الدستورية بحلول نهاية الشهر،وجدد الالتزام باستكمال الانتقال بالتعاون مع القوى المدنية،بالتحول الديمقراطي وإقامة الانتخابات عام 2023 . وقد استبشر كثير من الناس_آنذاك- بتلك الخطوة التصحيحية،وظنوا انها ستحقق ما عجزت عن القيام به قوى الحرية والتغيير المدنية،ولكن سرعان ما خيب البرهان ظن الناس فيه، وبمرور الايام تبخرت الآمال ودخلت المشكلة السودانية في نفق مظلم لم تستطع كل المبادرات -التي اشار اليها الكاتب- في بعث الامال ،وها نحن بعد عام لا توجد حكومةن ولا عدالة، والاقتصاد في حالة يرثى لها.

إشترك في قائمتنا البريدية