كتب الروائي الجزائري مالك حداد الذي كانت الفرنسية منفاه فاتحة في روايته «سأهبك غزالة» ما تزال عالقة في ذاكرتي: «لا تطرق الباب كلّ هذا الطرق، فأنّي لم أعد أسكن هنا». هذه جملة عجيبة فيها كثير من اللعب اللغوي على الفضاءات، وعلى الأزمنة وفيها كسر للمنطق الثنائي التقابلي وبناء لفكرة المسترسل.
الإيقونية في الدراسات العلامية هو أن يكون بين العالم وما يمثله علاقة تشابه، أو تماثل، وهذا ما نجده في العلاقة بين وجهي الذي في الواقع، ووجهي الذي في الصورة، والخرائط والامتداد الجغرافي للمدن التي تمثلها. اللسانيّات العرفانية استخدمت فكرة الإيقونية في دراسة العلاقة بين التمثيلات الذهنية والأبنية اللغوية التي نستعملها في بناء تصوّرنا للكون. توجد إيقونية في كلامنا حين نرتب عناصره وفق الترتيب المرجعي الذي حدثت فيه الأشياء ففي قولنا (طرقت الباب، ففتح لي ودخلت ثمّ توجهت إلى قاعة الجلوس، وجلست أنتظر الطبيب أن يأتي) مراعاة لترتيب الأحداث مثلما جرت في الواقع، ولهذا تكون العلاقة بين اللغة والتصوّر علاقة إيقونية، لأنّ ما يحدث على صعيد اللغة يشبه ما يحدث في الكون. لكنّ المتكلم وهو يبني الوضعيات التي يبنيها ليس مطالبا أن يتقيّد بمحاكاة تسلسل الأحداث، كما حدثت في الواقع، لذلك يمكن أن يقول (فتح لي الباب وقد طرقته مرارا جلست على كنبة في قاعة الانتظار بعد أن دخلت لا ألوي على شيء إلا الجلوس فيها).
ليس تكسير النظام ونحن نبني الوضعيات من عمل الإبداع الأدبي ولا هو تجنيح في الخيال، بل طريقة في ترتيب العناصر في الذهن تخالف ترتيبها في الواقع. وليست اللغة بنتا للواقع حتى ترتب عناصره كما يقتضيه منطق الوقائع، إنما يمكن لطريقة إدراكنا أن ترتب العناصر كما تريد، وينعكس ذلك على طريقة بنائنا للأحداث التي نسردها ونحن نحكي مثلا.
حين قال كاتب ياسين في فاتحته ما قاله كان يكسر الإيقونية التي تفصل بين من يوجد في الداخل ويسمع الطرق ومن يطرق وهو في الخارج. وتكسير الإيقونية وبناء منطق جديد بربط بين الطارق ومن يجيبه، ومن هو داخل داره ويعلم أنّ هناك طارقا يطرق، وبين من يكون خارج داره ولا يعلم أنّ هناك طارقا يطرق. في الواقع ترتب الأمور بهذا الشكل الذي قد يزهدني في نقلها إذ يجعلني باعتباري مطروقا عليه جاهلا بمن يطرق، في وضعية تطلع وساع إلى فتح الباب، أو أن أطل من كوة لاكتشف من يكون.. طبعا لا نتحدث في جو كاتب ياسين عن مطروق عليه في بيت مجهز بكاميرات مراقبة. تمكنك اللغة من أن تبني كونا كما تريد، مثل أن تكون خارج البيت وتسمع طارقا يطرق، بل تخبره أنّك لست هناك وتسمعه الرسالة التي في فاتحة نصّ ياسين.
المرسل إليه الطارق
سيسمعك رغم أنّ حاجب المكان وحاجز الزمان يفصلان طارق الباب وطارق السمع. هذا تأويل من تأويلات ممكنة لمقطع كاتب ياسين، لكن لا مانع من أن يبني تأويل آخر بناء يفترض أنّ هناك ورقة معلقة في الداخل كتب عليها ما كتبه ياسين: كأنّه إعلام بالغياب لكنّه لم يعلق، حيث يقرأ، بل علق حيث لا يقرأ. وماذا لو أنّ الورقة علقت غير بعيد عن يد طارق الباب وهو لم يقرأها؛ هذا افتراض ثالث في بناء الوضعية. غير أنّي وأنا أقرأ الوضعية لا أبنيها، بل أعيد بناءها من جديد بما توفّر لديّ من العناصر التي تساعدني على بناء هذا الكلام، الذي يكسر حاجز المألوف ولا ينضبط للإيقونية أثناء التعبير. شيء ما جعل الكاتب يكتب هذه الفاتحة في عتبة الكتاب، لكنّك حين تقرأ الكتاب لن تقرأ أنّ من كتبه هو كاتب ياسين، فذلك شخص تاريخي، ولن يفعل كاتب تاريخي ذلك، بل من يفعل هو شخصية متحرّرة من قيود الواقع والثقافة النمطية وليس لها ما لغيرها من حسّ مشترك.
الباب هو الحد الفاصل بين الفضاء المفتوح والفضاء المغلق، طرق الباب هو طلب انفتاح فضاء مغلق يظلّ مغلقا لكنّه يمكن أن يطلّ على الفضاء المفتوح. جعلت الأبواب لا لتحرر الفضاءات من غلقها، بل لتجعل الفضاء مجازا يعبر بأصحابه من الداخل المغلق إلى الخارج.
من أهمّ ما يفيد في تكسير الإيقونية، ونحن نبني الكون أنّنا نخلق علاقات جديدة تبنى على أرضيات إدراكية جديدة. نحن على سبيل المثال وحين نكسر رتابة الارتباط بالواقع عندما نبني الكون، يمكن أن نتخلص من العقلية الثنائية التي تجعل الخير نقيضا للشر لا غير، وتجعل الليل نقيضا للنهار لا غير، وتجعل الخارج نقيضا للداخل لا غير وتجعل من يطرق مقابلا لمن يطرق عليه. في قولة كاتب ياسين خرجنا من الثنائية التقابلية إلى المسترسل. المسترسل يجعل الكون مبنيّا على أساس تدرج يشبه تدرج الألوان في قوس قزح، يجعل المتصورات في اتساع وامتداد أكبر من تضاد طرفين. المسترسل طرفان بينهما اتساع مترامي الأطراف، وفيه لا يوجد ليل ينقلب إلى نهار ولا خير طرفه القريب شرّ؛ في المسترسل يكون الخير درجات منه ما هو أقرب إلى المثالية في الخيرية، ومنها ما هو أقرب إلى أقصى درجات الشر، والشر منه ما هو شرّ رحيم يبقيك ولا ينفيك يقويك ولا يهدمك ويرميك، كذلك الأمر في كلام الفاتحة في كتاب «سأهبك غزالة». الفضاء المغلق والمفتوح مسترسل في كلامه، وليس ثنائية متقابلة الفضاء المغلق هو منزل قد أغلقت أبوابه وسُوّر ومنع الطارق من أن يجد الباب مفتوحا ليدخل، والفضاء المفتوح هو حيث يوجد الطارق. المسترسل يعني أنّ هناك فضاء مفتوحا قريبا من المغلق، وفضاء مغلقا قريبا من المفتوح، أيّ أنّ انفتاح الفضاء فيه تدرّج وكذلك انغلاقه.
الباب هو الحد الفاصل بين الفضاء المفتوح والفضاء المغلق، طرق الباب هو طلب انفتاح فضاء مغلق يظلّ مغلقا لكنّه يمكن أن يطلّ على الفضاء المفتوح. جعلت الأبواب لا لتحرر الفضاءات من غلقها، بل لتجعل الفضاء مجازا يعبر بأصحابه من الداخل المغلق إلى الخارج. الأبواب يمكن أن توجد في فضاءات مغلقة لتنفتح على فضاءات داخلية أكثر عزلة عن الداخل. الداخل المغلق يمكن أن يكون غرفة في منزل، ويمكن أن يكون الباب الذي يفتح في تلك الغرفة بوابة تفضي إلى دولاب ثياب: نحن إذن إزاء مسترسل من الفضاءات المتدرجة بين الانفتاح والغلق.. والطارق أين موقعه؟ هل هو في شقة وانتقل إلى أخرى بالسكنى هل هو يطرق منزلا مستقلا بابه ينفتح مباشرة على الخارج؟ في العادة يسكن الناس المنازل ولا يسكنون البيوت؛ البيوت هي جزء من السكن لكن لا يسكن فيها، بل يجلس فيها أو ينام فيها. المكان المنغلق يحدّد هويّة من فيه ساكنا كان أو ثاويا. حين أكون في غرفة الاستحمام، وتطرق الباب فإنّ هويتي فيه لن تكون ساكنا، لكنّك حين تطرق الباب الخارجي باعتباره المنفذ الأقرب إلى الفضاء الخارجي فعندئذ أصبح أنا ساكنا وتصبح أنت غريبا عن البيت وطارقا له.
من كان يسكن ومن كان يطرق تغيرت العلاقة بينهما؛ فمن كان يسكن هنا لم يعد يسكن هنا، ومن الممكن أنّه ما زال يحتفظ بصفة الساكن وما زال كلّ من يطرق عليه طارقا، لكن إن طرقت عليّ وفي نيّتك أنّي أنا في الداخل فماذا يفيد طرقك إن كنت تطلبني ولا تجدني: ستظل طارقا شكليا طالما أنّ الساكن الجديد يمكن أن يفتح لك الباب ويكتشف وتكتشف أنك ما كنت تطرق على باب من أردت أن تطرق بابه بل كنت تطرق على باب ساكن غريب سكن جديدا هنا، وانتقل الحبيب الذي كنت تطلبه بالطرق إلى حيث يمكن أن يطرق على بابه طارق آخر ويمكن أن يفتح له.
لا تُطرق الأبواب لمجرد الطرق؛ هي لا تطرق إلاّ لأنّ من يسكن في المنازل التي نطرقها ما زال فيها فإن انتقل ظلّ الطارق والطرق والمطروق واحدا لكن بلا معنى.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية