جاءت وفاة بهاء طاهر لتفتح باب المحبة على صفحات السوشيال ميديا والصحف. بهاء طاهر يستحق الكثير جدا من المحبة والتقدير، فرحلته مع الكتابة كانت ولعا بالتجديد والمغامرة، ورحلته مع الناس كانت فضاء من الود والرضا، وأنا لم أنتظر وفاته لأقول رأيي أو شهادتي عنه، فقد كتبت ذلك كثيرا في مقالاتي وذكرياتي من قبل، وكتبت عن روايته «الحب في المنفى» حين صدورها في منتصف التسعينيات. لكن الوفاة أثارت عندي سؤالا قديما عن رحلة الحياة والأدب. لا أنسى حديثا تلفزيونيا قديما مع توفيق الحكيم، وهو مريض في آخر أيام حياته، ومعه طبيبه الخاص يشجعه على التحمل، بينما توفيق الحكيم يقول ساخرا «كفاية كدا.. إيه لازمة الحياة يعني « ولا أنسى أيضا الأيام الأخيرة لصديق العمر سعيد الكفراوي، حين زرته أكثر من مرة في منزله، وهو يقول لي» كفاية كدا يا إبراهيم، حنعمل إيه يعني» كان توفيق الحكيم في التاسعة والثمانين من العمر، بينما كان سعيد الكفراوي في الواحدة والثمانين من العمر. بهاء طاهر رحل منذ أيام في هذا العام 2022 في السابعة والثمانين، فهو من مواليد 1935.
السؤال القديم الذي استيقظ في روحي هو هل مع التقدم في العمر لا يزال عند الكاتب ما يكتبه؟ وهل يشعر بالرضا عما كتب؟ لقد وجدت الشاعرة والكاتبة ظبية خميس تثير السؤال على صفحتها في فيسبوك وتويتر، فذكرتني برغبتي القديمة في أن أكتب في الأمر. ما أخرني في الكتابة هو أني كنت دائما مشغولا بما أكتب، وحين يكتب الكاتب مهما تقدم في العمر، يشعر بشبابه فيضيع السؤال مهما انشغل بالتفكير فيه. ما حفزني للكتابة الآن هو للأسف رحيل بهاء طاهر، فليسامحني لأنه كان عليّ أن انصاع لحزني عليه، ولا أكتب حرفا فلست مبتهجا، لكني أحاول أن أعيش في الفضاء ما دامت الأرض لا تتسع. كتبت الشاعرة ظبية خميس تتساءل قائلة:
«أولئك الذين عاشوا طويلا حتى الثمانينيات والتسعينيات من المبدعين والكتاب وغيرهم، هل شعروا بأنهم قالوا وعملوا كل ما أرادوه في امتداد زمنهم؟ دائما أتذكر نهاية غابرييل غارسيا ماركيز العظيم الحزينة، الذي انتهى بالنسيان الكامل من هو وحياته ومعارفه».
بالطبع ليست هناك إجابة قاطعة في المسألة، فالأمر نسبي بين الكتاب، وظبية خميس تعرف، لكن ولعها بالروحانيات حتى في رحلاتها إلى آسيا حيث المعابد المختلفة، ومؤكد لما رأته في حياتها من فقد للأحباء كما رأينا ونرى. مؤكد أن الأغلبية حتى إذا لم يصبها الزهايمر الذي أصاب غابرييل ماركيز، ستشعر بأنه لا معنى لهذا العالم. وقد تشعر بعبث ما قدموه من أعمال، في عالم يزداد كراهية لحقوق الناس في الحياة، والسبب ليس التقدم في العمر، لكنه النسيان صديق الشيخوخة الذي يضحك في الفضاء، كذلك المرض ومقتضياته من أدوية ونظام ومواعيد لها. سجن غير معروف لا يدخله إلا كبار السن، مهما كان حراسه من أطباء وممرضين وأبناء وأهل طيبين، يكون الأمل في الخروج منه بالرحيل عنه. في كل بلاد العالم المتقدمة والمتخلفة يريد الأديب أو المبدع عالما أفضل، وإلا ما كتب كتّاب أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا غيرها ما كتبوه. هل كان همنغواي في حاجة إلى شهرة أكثر مما حظي بها وجائزة أكبر من نوبل حتى لا ينتحر في سن الستين تقريبا؟
حياة الكاتب كلها هي أحلام فترة النقاهة مما حوله، من عالم مريض يدخل في حروب قد تصل إلى استخدام القنبلة الذرية، ليُقتل الملايين لا علاقة لهم بالصراعات السياسية، أو يركب الحكم فيه ديكتاتور يفني نصف شعبه تحت شعار الإصلاح والتغيير ووطن أفضل!
الأمثلة كثيرة ودفتر الانتحار كبير، عشرات الكتب كتبت عنه، ولا يزال مفتوحا. شعور الكاتب بأن ما يكتبه هو العالم الأفضل، هو محنة الكاتب التي يعيش سعيدا بها وهو يكتب ولا يدري. سوء الحظ يأتي عند إدراك الجانب الخفي منها، وهو هذا العالم وهل هو جدير بأن يُعاش؟ المبدعون دائما في برزخ بين السماء والأرض، تعينهم الفلسفة حتى لو لم يدركوها، على الشعور بالاغتراب والحياة به. لكنها في لحظة قد تخذلهم، وبقدر إيمانهم بالرضا يكون البقاء. ما كتبته الصديقة الغالية ظبية خميس، وهي التي قدمت للثقافة والحياة أعمالا رائعة في الشعر والترجمة والرحلات وغيره، يحمل من الأسى أكثر مما يحمل من أسئلة، لأنه لا تغيب عنها الأسئلة ولا ما أكتب الآن. ربما كان الزهايمر الذي أصاب ماركيز نجاة رغم بشاعته، فهو لم يعد يتذكر ما حوله ولا ما كتب. ماركيز الذي قال يوما إن العمر مهما طال لا يكفي الكاتب، لا بد كان يريد أن يكتب الكثير. الحالة تختلف مع نجيب محفوظ الذي عاش وتجاوز التسعين من العمر، وكما عرفت من بعض المقربين منه أنه كان يتمنى أن يصل إلى المئة. نجيب محفوظ في حياته كان منظما جدا وهذه طريقة لا تُتاح لكل الناس. يعرف مثلا منذ أصيب بمرض السكر في الخمسينيات ماذا يأكل وماذا يشرب، ولا يترك نفسه لرغباته قط، بل أكثر من ذلك، لم يغادر البلاد لأي حضور ثقافي طوال حياته غير مرة واحدة أيام جمال عبد الناصر، حين أرسلوا وفدا من الكتاب إلى اليمن أيام حرب اليمن، وكان في ذلك يطيع رغبة الحكام لا رغبته. ولم يكتب عن هذه الزيارة في رواية أو قصة له. سافر مرة أخرى بعد جائزة نوبل للعلاج من مرض في شرايين القلب ولم يكتب عنها كأنه لا يريد أن يتذكر. قلل من السجائر ولم ينقطع عنها، وهبطت إلى سيجارة أو اثنتين في اليوم. قلل من القهوة وكان كل شيء بميعاد. أعطى للشباب حقه من المغامرة، وللكهولة والشيخوخة، في ما بعد، حقها من الاستقرار. نموذج مختلف عن معظم الكتاب. مع التقدم في العمر وضع سورا بين الكتابة والجنون في الحياة. هكذا هو حالة استثنائية. ويظل أسى العزيزة ظبية خميس في السؤال باقيا. لا نستطيع أن نعرف ماذا قال كل الأدباء في أيامهم الأخيرة، بل قد يجعلهم المرض مع التقدم في العمر ينسون أنهم كتبوا شيئا، وإذا أحضرت لهم كتابا مما كتبوه أمامهم قد يندهشون ويبعدونه بيدهم، ولا تعرف هل هذا إنكار أم لا يعرفون المؤلف! هل في هذا استغناء ورغبة في النسيان؟ أم سؤال ما معنى هذا؟ للأسف المرض هو المؤثر وليس العقل ولا الإرادة، والمرض قد لا يرتبط بالتقدم في العمر فقط. المرض يأخذ الإنسان إلى فراغ وعدم، ولا تكون أمام المريض إلا السماء يتمنى الصعود إليها. العمر والتقدم فيه قد يدركه الكاتب فيكتب مثل نجيب محفوظ «أحلام فترة النقاهة». نصوص صغيرة لأن العقل لا يستطيع أن يحتشد لكتابة أكبر في صفحاتها وبنائها. مؤكد أن نجيب محفوظ رغم هذا العنوان، كان يعرف أن كل ما كتبه في قوته وهو في صحته، هو أيضا أحلام فترة النقاهة.
حياة الكاتب كلها هي أحلام فترة النقاهة مما حوله، من عالم مريض يدخل في حروب قد تصل إلى استخدام القنبلة الذرية، ليُقتل الملايين لا علاقة لهم بالصراعات السياسية، أو يركب الحكم فيه ديكتاتور يفني نصف شعبه تحت شعار الإصلاح والتغيير ووطن أفضل! محنة التقدم في العمر للكاتب ليست محنة كتابة، لكنها محنة نسيان الكتابة. هي محنة لا يشعر بها، لكن من حوله من محبين لا بد يشعرون، ومحبتهم له تكللهم بالأسى، وقد تجد الكثيرين غير مبالين استسلاما لما هم فيه، أو لشعورهم أنها نهاية غير مفاجئة، فللتقدم في العمر أثمان لا بد من دفعها.
في النهاية يبقى إنتاج الكاتب عابرا لكل الأعمار، وفي بلادنا الله أعلم! ومن يدري فقد يكون الكاتب العجوز في ساعاته الأخيرة يدرك ذلك، ويريد أن يأخذ كتبه معه.
أستاذ إبراهيم متعك الله بالصحة والعافية …
أنت تعلم أن العقد الثامن والتاسع من العمر يسمى أرذل العمر ،وفي هذه السن المتقدمة وبسبب الوهن والعلل يزهد المرء في الكلام وفيما يحيط به ، وربما يظل في حالة ذهول واغتراب مما حوله ، ويظل تفكيره مشغولا في كل لحظة بانتظار موعد الرحيل .
شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد وأطال الله بعمرك بالصحة والعافية. لفتني هذا الفارق بين نجيب محفوظ وهمنغواي وربما ماركيز يقع بينهما. لكن في الحقيقة أكثر ماأفكر فيه اليوم ليس قضية الموت، بل هذه الفكرة التي جاءت في المقال عن عالمنا المريض. ماذا حقق كل هذا الإبداع البشري منذ ألاف السنين ونحن نرى أن العالم يمر بمخاض عسير أصبح فيه التوحش (كما يبدو لي) هو الأمر سائد. نظرة بسيطة حولنا وإلى هذا العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا تجعلنا نرى بوضوح كيف أصبح في هذا العالم (وهذا التعبير الرومانسي القرية الصغيرة الذي أصبح منسيًا)، التطرف والإجرام والحروب وقتل الأخر وتزايد عدد الحمقى، يبدو وكأنه أمر لابد منه في مسيرتنا نحو الأفضل أو (حضارة) أفضل!. أمر يدعو إلى الحنون لكن ليس الأحمق بل العميق لكي نستطيع أن نفهم ماذا يدور في هذا العالم حقًا وكيف ولماذا. وربما أن السؤال عن الموت وأمراض العمر وما حققه المبدعين والإبداع هي جزء من هذا البحث عن ما يدور هذا العالم اليوم.