صراع السماء بين إيران وتركيا… ومشكلات الأرض القلقة في المنطقة العربية

واجهت مصر أزمتان تاريخيتان تتعلقان بسلاح الجو، ففي 1956 و1973 كانت مصر تعاني من نقص في أعداد الطيارين المؤهلين، ولعل الجانب البطولي الحقيقي المتعلق بالرئيس الأسبق حسني مبارك أثناء خدمته العسكرية لم تكن في قيادته للضربة الجوية الأولى في حرب أكتوبر، بقدر ما كانت في تعهده للرئاسة المصرية بتأهيل الطيارين في وقت قياسي وبكفاءة مناسبة، وهو ما فعله في السنوات التي سبقت الحرب.
الطائرات باهظة التكلفة لا تمثل كل شيء في معادلة حرب الأجواء، فالطيار هو العنصر الجوهري ويمثل أحد تجليات قدرة الدول على بناء القوى البشرية،  وتأهيل الطيار عملية معقدة ومكلفة، ومثلت عاملاً حاسماً في العديد من الحروب، ولكن المعادلة تغيرت مؤخراً، فالسماء أصبحت تستضيف الطيور الحديدية المرعبة، التي تمثل جانباً آخر وجديداً من قصة تأهيل البنية البشرية والتقنية في الدول، لتنقلب معادلات الحرب بصورة غير متوقعة، ولتدخل إلى خريطة التأثير دول جديدة وغير متوقعة، استطاعت أن تمتلك الميزة التنافسية بصورة مبكرة، وتطور صناعة الطائرات المسيرة لتحدث انقلاباً في طريقة إدارة حروب السماء.

ما يحدث من تحولات في العالم، يثبت من جديد أن العرب يمتلكون أنظمة قوية ودولاً ضعيفة، وأن قوة النظام مستمدة من ضعف باقي مكونات الدولة

الحرب بين روسيا وأوكرانيا لا تقتصر على الأطراف المتصارعة، فدول كثيرة تدخلت من خلال التمويل وتسهيل سفر الخبراء العسكريين والأسلحة الحديثة، وبين ذلك كله، دخلت تركيا وإيران الحرب من خلال الطائرات المسيرة، التي تقتنيها روسيا من الإيرانيين وأوكرانيا من الأتراك، وأمام النجاح التركي الإيراني في تصنيع هذه الطائرات، يُتوقع مستقبلاً أن تدخل الهند وباكستان ودول أخرى إلى تطوير هذه التكنولوجيا ونقلها إلى آفاق جديدة. السؤال الذي يطرح نفسه بصورة مريرة، أين كانت الدول العربية في هذه المرحلة وهي الدول الأكثر هوساً بسباق التسلح، مع وجود ست دول عربية بين أكثر عشر دول في العالم إنفاقاً عسكرياً، قياساً بالناتج المحلي الإجمالي، وثلاث دول بين الدول العشر الكبرى في استيراد الأسلحة. صناعة الأسلحة هي ميزة استراتيجية بشكل عام، بمعنى أنها تقف على بنية متكاملة من التطوير في الأداء العسكري والمؤسسات المتكاملة التي يمكن أن توفر الحاجات الضرورية لهذه الصناعة، أي الجامعات والمراكز البحثية، فشراء الأسلحة مسألة وصناعتها مسألة أخرى مختلفة بالكامل، وهو ما يمكن أن يجعل أي شخص يتأسى على وضعية الدول العربية وحساباتها الاستراتيجية. وسط مشكلاتها الضاغطة تتمكن إيران من بناء ترسانة من الطائرات المسيرة، وبينما ينصرف العالم للتركيز على إشكالية المشروع النووي فإنه لا يلتفت إلى وجود نية حقيقية في إيران لإحداث التفوق في جميع المجالات الممكنة، والأمر ذاته بالنسبة لتركيا، التي تدرك أن عصراً جديداً من ترتيب المنطقة يداهمها، وتعايشت في رأسها أشباح الافتئات التي حدثت سابقاً مع تفكك الامبراطورية العثمانية، وتركت آثارها على أمور كثيرة منها المياه الإقليمية وجزر بحر إيجة، ليأتي غاز المتوسط ويثير الحنق المكبوت في أنقرة. ما الذي تفكر فيه الدول العربية وسط ذلك كله، والانقلابات المتعددة في الحرب التقليدية، خاصة بعد أن جربت في مرحلة سابقة في جنوب لبنان وغزة، أن الصراع لم يعد ينحصر في فكرة التسليح التقليدية، ومتى ستنفتح الجيوش العربية على فكرة دعم البحث العلمي وتطويره، بدلاً من البحث عن المزايا التي تقدم للضباط والسلطة التي يحوزونها، وهل ستبدأ الدول العربية في رصد موازنات لشراء المسيرات وإدخالها الخدمة وبناء هياكل تنظيمية داخل جيوشها لتحتضنها بوصفها واقعاً عسكرياً جديداً؟ أم تستيقظ وتنتبه إلى أن بعضاً من مجالات الحرب الجديدة مثل حروب الطائرات المسيرة والحرب السيبرانية ليست حروب جبهات بقدر ما هي حروب في الجبهات الخلفية، في المؤسسات والجامعات، وفي بيئة الحرية والثقة في الأجيال الجديدة.
اللحظة الكاشفة التي تبدي كثيراً من التوثب في العالم تجاه تغيير توازنات القوى، تفلت أيضاً من الدول العربية التي تعيش فكرة خدمة الأمن واستقرار الأوضاع، بما يخدم استمرار الأنماط السائدة نفسها، ويحول دون أي حراكات اجتماعية نشيطة أو مؤثرة، فالدخول إلى عالم التقنية وتوظيفها في سباق التسلح يستلزم بالضرورة انفتاحاً داخلياً واسعاً، كما يحدث في تركيا، أو مشروعاً جمعياً لمواجهة التهديدات كما هو الحال في إيران، ولكن الحالة الإيرانية التي تستخدم ضمنياً تعبير لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، لا توظفه بالطريقة الناصرية نفسها التي كانت تعني وحصراً لا صوت يعلو فوق صوتي لأنني المعركة، ولذلك كم اعتبرت الدول العربية هزائمها على أنها انتصارات أو نكسات لأنها لم تسفر عن سقوط الأنظمة. ما يحدث من تحولات في العالم، يثبت من جديد أن العرب يمتلكون أنظمة قوية ودولاً ضعيفة، وأن قوة النظام مستمدة من ضعف باقي مكونات الدولة، والنظام لا يعيد تشكيل أو تعريف نفسه، ولا يسمح ولو بديمقراطية شكلية داخله، لأنه يعاني من أزمة تأسيس الشرعية والمشروعية، وعادة لا يمثل وصوله إلى السلطة تفاعلات اجتماعية يمكن أن تبقى بوصفها مرجعية لبعض الوقت، يمكن أن تستوعب مشروعات أخرى للتحديث والتقدم، فالثورة الإيرانية مثلاً، تمثل مرجعية مشروعية يمكن الاختلاف حول تأثيرها وعمقها بعد عقود من السيطرة، ولكن لحظة تأسيسها كانت ثورة شعبية مليونية في الشوارع، وفي تركيا ما يحدث هو نتيجة تفاعلات استمرت منذ الثمانينيات وفككت دولة العسكر العميقة لتضعهم في خانة الفشل المبرم مع الانقلاب الفاشل في 2016، وذلك كله وبالقطع تختلف عن انقلابات عسكرية صعدت لتحتكر الإرادة الشعبية وتؤممها وتختصرها في النظام الجديد ومصالحه.
أمام ما يحدث في إيران وتركيا ودخولهما إلى الساحة العالمية، بعد تثبيت أقدامهما إقليميا، يبقى المشروع العربي نفسه بحاجة لمراجعة في لحظات دراماتيكية تظهر مدى بؤس خياراته، عندما سحبت التمويلات من المدارس والمستشفيات والمصانع لتتحول إلى طائرات ودبابات لم تستطع أن تمثل أي فرق، لأنها كانت من غير ظهير شعبي يؤمن بمشروعيتها، ويستطيع أن يرفدها بصورة مستمرة، فالشعب عليه أن يبقى متفرجاً على بطولات غير موجودة إلا في مخيلة أثبتت الأيام فقرها ورجعيتها.

كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الخبير/ عبد الرحمن بن جدو:

    علمتنا التجارب أن الحاكم العربي التقليدي تابع ولا يهمه إلا الكرسي والمصفقين وغير مبدع ولا يثق في نفسفه وشعبه وامته . وإذا تجاوز هذه الحدود تتم تصفيته من طرف إخوانه بالتعاون مع الاعداء الاجانب

  2. يقول عدنان من العراق:

    التسليح سيف ذو حدين ..يجب أن لاتنسى ان روسيا ومن قبلها الاتحاد السوفياتي اعتمدا بشكل أساسي على التسليح العسكري لمواجهة الغرب بالحرب الباردة وحاليا بالحرب مع أوكرانيا.. دون وضع اي اعتبار لتأسيس بنية تحتية من صناعات مدنية كما هو الحال ماتقوم به تركيا تط ر رهيب في الإنتاج الصناعي ..متمثلة بالصناعات المدنية بشكل أساسي لينبعث من رحمها الصناعات العسكرية..اعتقد ان تجربة إيران ستلقي نفس المصير الذي آلت اليه صناعة الترسانة الروسية التي واجهت شبه الفشل بصراعها الحالي…التسليح فقط خطير جدا وقد ينقلب سحره على ساحره..كما جرى الحال بالعراق وليبيا وسوريا..تسلحت هذه البلدان لحد العنق ..تحت شعار تحرير فلسطين والان يجري استخدام هذه الأسلحة بقمع شعوبها …وتجربة رمي البراميل المتفجرة على رؤوس للمواطنيين حاضرة بالذاكرة..وهكذا سيكن مصير إيران حينما تصل الانتفاضة الى طريق مسدود..وسيجري استخدام المسيرات في قتل المتظاهرين.
    اثبت واقعيا ان اكثر البلدان ازدهارا هي البلدان التي أوقفت التسلح وقننت الجيوش.
    المثال سويسرا والبلدان الاوربية الشمالية.

إشترك في قائمتنا البريدية