لأنني على تواصل دائم مع المعارف داخل سوريا فقد روعني انكسار أرواحهم وذبولها إلى حد الشك أن هذا الذبول هو موت حقيقي لكرامة الروح وأناقتها وأنه – غالبا – غير قابل للإصلاح. ولو استعرت تعبير الدكتور مصطفى حجازي المختص في علم الاجتماع “التماهي مع المعتدي” وهو أحد أهم فصول كتابه سيكولوجية الإنسان المقهور حيث يقلد الضحية تصرفات الجلاد فإن بعض السوريين في الداخل يعانون من حالة نفسية يمكن تشخيصها لعبارة: التماهي مع الذل. وسأذكر بعض المظاهر.
أبدى الكثير من سكان اللاذقية (أتواصل معهم أكثر من غيرهم لأنني ابنة اللاذقية) فرحا عارما، فرحا أقرب للامتنان والرضى بأن تقنين الكهرباء أصبح ساعة كاملة كهرباء مقابل خمس ساعات قطع (طبعا هذا ممكن يتغير بعد أيام) وردد الكثيرون عبارة: يكثر خير الله، يعني كانت الكهرباء تأتي نصف ساعة أو ثلث ساعة أو عشر دقائق. هو فرح الاستسلام للذل كما لو أن الروح في حاله عطالة أو شلل أصاب كرامتها من هول وطول التحمل.
روعني الذل الكبير الذي يعاني منه كبار السن (الذين أعمارهم من 75 فما فوق) وسأذكر بعض الحالات. أحد المسنين عمره ثمانون عاما أعرفه وأعرف أولاده. لديه ثلاثة أولاد كلهم جامعيون وموظفون (راتب كل منهم مئة ألف ليرة) ولا يرتشون.
حال المسنين
الأب المسكين تعرض لكسر في عنق الفخذ (يسمى كسر المسنين) وهذا الكسر يعالج حصريا بعمل جراحي هو تبديل عنق الفخذ بوضع عنق فخذ صناعي بدلا منه. اتصل بي أحد أولاده طالبا مني أن أخدمه وأوجهه إلى طبيب جراح عظمية إنساني. اتصلت بصديق طبيب عظمية خلوق وإنساني وبارع يعمل في المشفى الوطني في اللاذقية. طلبت منه أن يجري بنفسه العمليه للمريض إياه وفي مشفى الدولة، المشفى الوطني، (المفترض يعمل مجانا). كان رد الطبيب لطيفا وأكد لي أنه سيجري العملية بنفسه للرجل، وشكرني على ثقتي به. لكنه أخبرني أن على أهل المصاب العجوز أن يشتروا عنق الفخذ الإصطناعي لأنه غير متوفر في المشفى الوطني، وأن كل مرضى كسر عنق الفخذ يشترون عنق الفخذ الاصطناعي حتى تتم العملية. أخبرت ابن المريض بما قاله الطبيب فسأل بغضب حاول كبحه: على أساس المشفى الوطني مجاني! فقلت له هذا هو الحال. بعد يومين اتصل بي وقال إن سعر عنق الفخذ الإصطناعي أكثر من مليون ليرة وإن هناك أنواعا أكثر جودة سعرها أكثر بكثير من مليون، وأنهم (الأولاد وأسرهم) بالكاد يأكلون الخبز براتب الاحتقار مئة ألف ليرة. حاولت التواصل مع بعض الجمعيات الخيرية في اللاذقية كان ردهم: نحن بالكاد نوزع مساعدات غذائية للناس ودفع مبلغ مليون أو أكثر لرجل في الثمانين مستحيل، والعبارة المهينة التي قالوها والتي قالها لي أولاده بعد أيام: يعني هالرجل عجوز عمره 80 سنة وأكل عمره وأكثر من 85 في المئة من السوريين تحت خط الفقر فأي ترف أن تجري عملية لرجل عجوز يكلف عنق الفخذ الإصطناعي بين مليون إلى مليوني ليرة سورية. ما آلمني أن أولاده قالوا نفس العبارة فابنه الذي أتواصل معه قال لي: أبي عاش عمره ونحن عايشين من قله الموت، أطفالي يذهبون إلى المدرسة برغيف خبز لا يؤكل، وفي أحسن الأحوال يكون داخل الرغيف نقطة لبنه. وقال لي ليعش أبي متصالحا مع كسر عنق فخذه متعكزا على عصا وحين يشعر بآلام نعطيه مسكنات. هذا المنطق اللاإنساني تجاه العجائز معيب كأن على العجوز وأمثاله أن يعتذروا من أولادهم لأنهم لا يزالون على قيد الحياة، وكأن الأولاد ناقمون على الموت لأنه لم يقبض أرواح أهلهم العجائز وهم عاجزون كليا عن علاجهم وربما إطعامهم ودفع ثمن أدويتهم . لا ألوم الأبناء على مشاعرهم تجاه أب سيعيش ما تبقى من عمره يعاني آلاما لا تحتمل من كسر عنق فخذه، واحتمال إصابته بخثرة شحمية تعبر به إلى الموت. لا يمكن أن نلوم مواطنا يعيش تحت خط الفقر ويقول عن نفسه: عايش من قلة الموت وكرامة روحه معفرة بالذل وبالكاد يطعم أولاده الخبز ويعيش وأسرته في عتمه شاملة وشح المياه والصمت – ممنوع الشكوى لأنها ببساطة جريمة إلكترونية يعاقب عليها – الأب وأولاده ضحايا مؤسسات دولة لا تقدم خدمات لمواطنيها. ما وظيفة وزارة الصحة إذا لم تؤمن رأس عنق فخذ اصطناعية لهؤلاء المساكين الذين يحتاجون لهذه العملية؟ بالمناسبة أيضا من يجري عملية ساد (ماء أزرق) في مشافي الدولة (المفترض مجانية) عليه أن يشتري العدسة التي ستزرع في عينه وهي عدسة باهظة الثمن غير متوفرة في مشافي الدولة. أما الحالة التي لا يمكن أن أنساها فهي حالة فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها تعاني من مرض القرنية المخروطية حيث تكون قرنية عينها بشكل مخروطي وكانت حالتها متقدمة جدا إذ حدثت كثافة كبيرة في المخروط واحتمال انثقاب القرنية واردا في كل لحظة. كانت مريضتي وأتابعها، وكم كانت مكسورة القلب ويائسة لدرجة خفت فعلا أن تنتحر! مرضها في حالته المتطورة يستدعي إجراء عمليه ترقيع قرنية (ولأن القانون السوري يمنع أخذ أي عضو من جسم الميت فإن الحصول على قرنية متوفى حديثا ممنوع فالأهل لا يوافقون أن يتبرع ابنهم بقرنية عينه رغم موته لينقذ عين مصابة بالعمى وأغلب الأهل يفكرون أن الأحبة الذين ماتوا يجب أن يقابلوا ربهم بكامل جسدهم). لذا لا حل سوى شراء قرنية مستوردة من أمريكا وسعرها ألف دولار . لحسن حظ الفتاة لديها قريب كريم في أمريكا دفع ثمن القرنية وأجريت العملية للفتاة. حالات القرنية المخروطية كثيرة خاصة الحالات التي تحتاج إلى عملية ووزارة الصحة لا توفر القرنيات التي يمكن تأمينها ببساطة بالإصرار على إقناع الناس أن يتبرعوا بقرنياتهم (السليمة طبعا) بعد الوفاة. وزارة الصحة لا تبالي حتى أنني أذكر بكل خجل وأسى كيف كنا (نحن أطباء العيون في المشفى الوطني وغيره) نطلب من المريض أن يشتري خيطا لخياطة قرنية عينه من نوع (إيتيكون) أجود الأنواع وكان باهظ الثمن لكنا نضطر أن نطلب من المريض شراء الخيط لخياطة جروح العين لأن لجان الشراء المتعاونة مع مدير المشفى ومدير الصحة كانت تزور طلبات أطباء العيون بشراء خيوط (إيتيكون) رغم أننا نكتبها ونوقع على الأوراق لنفاجأ أنها اشترت خيوطا قمة في الرداءة من باكستان. وكان سعر الخيط حوالي عشرين ليرة سورية (أتكلم عن مرحلة 2001 وقبل انهيار الليرة السورية)، كان مدير الصحة يطلب من الممرضة في غرفة عمليات العينون أن تفتح عدة خيوط جراحية صناعة باكستان كي يصرف تلك الخيوط التي وضعت لجان الشراء كلفتها باهظة على أنها خيوط من نوع (إيتيكون). هذا أبسط مثال عن الفساد. هناك الكثير من العجائز الذين يحتاجون لإجراء عملية ساد (ماء أزرق) لا طاقة لأولادهم على شراء عدسة لتزرع داخل العين فكانوا يقولون: لا داعي لزرع العدسة فالعجوز أكل عمره فليعش ما تبقى من حياته مكتفيا باستئصال الماء الأزرق فالعدسة ترف لرجل في الثمانين. أي ذل أكبر يقع على كهول وعجائز سوريا!! صدقا كأن كل من حولهم ينتظرون موتهم، كأن عليهم أن يعتذروا لأنهم أحياء. المسؤول الأكبر عن هذا الانحطاط الأخلاقي وتشويه الحس الإنساني والضمير ليس الأولاد فهم ضحايا بدورهم وهم غرقى في القهر والذل هو عدم وجود ضمان صحي حقيقي في سوريا ووزارة الصحة لا أعرف ماذا تقدم للشعب السوري!! أتساءل لقاحات الأطفال التي يجب حفظها في برادات وفي درجة حرارة منخفضة جدا هل حقا يتم حفظها في حاله عتمة شبه تامة! وأصبحت البرادات مثل “النملية”!
من مشفى إلى مسبح
الحالة الأخرى التي أريد التحدث عنها هي تحويل المشفى العسكري في اللاذقية إلى مشفى لتركيب الأطراف الإصطناعية فكم من شباب فقدوا يدا أو رجلا أو عينا. وتحول مشفى الأسد الجامعي إلى المشفى العسكري بإشراف الروس (بالمناسبة تم تدشين مشروع عملاق في اللاذقية من قبل شركة روسية ستحول مسبح جول جمال الراسخ في ذاكرة أهل اللاذقية، إلى مشروع سياحي ضخم). منذ سنتين ونصف كنت ما أزال في اللاذقية أشرب القهوة عند صديقة صيدلانيه فمرت شاحنه عملاقة تحمل أكداسا من كل أنواع الأطراف الإصطناعية، شاحنه متخمة كجبل بالأطراف الاصطناعية، روعني المنظر وتخيلت عدد المعوقين في سوريا بسبب الحرب؟ وتنميت لو أعرف إحصائيات دقيقة عن عدد المعوقين وكلهم شباب بعمر الورد وأعرف أحد الشبان في الجيش السوري فقد يده وفقد عينا أراد أهله أن يعالج في الجامعة الأمريكية في بيروت وعلى نفقتهم لكن النظام العسكري يمنع أي مجند أن يعالج خارج مشافي سوريا. وكم كان مهينا الفيديو الذي يظهر فيه شاب فقد رجله يرقص حاملا رجلا اصطناعية يقفز على رجل واحدة يضحك ومبتهج وسط جمهور من المصفقين بأنه حصل على غنيمة (رجل إصطناعية).
ما ذكرته هو نقطة من بحر الإهمال والفساد والخدمات الصحية البائسة وها هي الكوليرا تتفشى. أعود إلى أولئك المسنين الذين أفنوا أعمارهم في العمل في مؤسسات الدولة ، ولا تقدم لهم أي خدمات علاجية أو جراحية لأنهم عاشوا أكثر مما يجب!
*
كاتبة من سوريا
من المقال ” .. هو فرح الاستسلام للذل كما لو أن الروح في حاله عطالة أو شلل أصاب كرامتها من هول وطول التحمل. .. ”
أراك في تعبيرك هذا جد قاسية سيدتي الكاتبة .. ورأيي الشخصي أن الاحساس قد غلب على تحليل الوضع بهدوء.
.
أولا هذا ليس استسلاما بل براغماتية .. ثانيا هو ليس ذلا بل استراتيجية البقاء survival strategy .. و من ترينهم في ذل هم بالضبط
قد يتحفونك بأرقى تجليات النخوة و العزة .. في نسق آخر طبعا. لكن الآن النسق يقتضي محاولة البقاء بصحة بدنية جيدة اولا.
.
هذه برامج في جينات الهوموزابين .. حين يجد الجد .. و يدهب النعبم .. ننتج معايير اخرى لجودة النسق .. كي تستمر الحياة.
.
مع كامل الشكر على مقالك القيم.
مقال حزين مؤلم , ويعصر القلب !
اللهم : من للضعفاء سواك !!
ولا حول ولا قوة الا بالله
قاتل الله من كان السبب في إيصال سوريا إلى هذا الوضع.
أخي Arabic أظن أنك تقصد بكلامك تبرير جرائم النظام الفاشي البسع، قاتل الله من فعل هذا ومازال يفعل ومن قبل الثورة كان يفعل وعلى مدى نصف قرن، ولولا أن أمريكا وإسرائيل ترضى عنه لما بقي في السلطة وربما لما وصل إليها. هل تذكر ألبرايت عندما قلدت الأسد الصغير منصب الرئاسة.
شكرًا أختي هيفاء بيطار. أنا أيضًا من اللاذقية (من قرى الحفة) وأتواصل مع الأهل والأقارب والأصدقاء في سوريا وفي تركيا أيضًا. أعتقد أن الناس لاتملك خيار آخر إلا التعايش مع هذا الوضع المأساوي حيث أن إمكانية التغيير أصبحت بعيدة المنال في الوقت الحاضر. لا أحد أيضًا ينتظر أن تتحسن الأمور والرضى بالواقع أمر لامفر منه! ولا أمل في مايسمى الحكومة أصلًا. أنا نفسي لا أعرف هل أستطيع أن أسافر ذات يوم إلى سوريا. والمشكلة كم أتمنى أن أستطيع مساعدتهم لكن وضعنا في ألمانيا بعد الحرب على أكرانيا أصبح لايسمح بذلك. فما العمل! لا أجد إلا تعبير واحد انتشر قبل نهاية الثورة يجمع شعورنا معًا، لنا الله ومالنا غيرك ياالله.