يبدو أن التاريخ المعاصر لا يريد أن يمر إلى ما بعده، فمنذ الحرب العالمية الأولى التي كانت عالمية ليس بمعنى ما، بل بكل معاني الكلمة، بما حملته من دلالة اللحظة المعاصرة، وما انطوت عليه من احتمالات لاحقة، بل، في مطلع القرن العشرين وفي سياق الحرب العظمى التي صارت لاحقا توصف بالحرب العالمية الأولى، جاءت مقولة المفكر والمؤرخ الإيطالي بينديتو كرواتشه: كل تاريخ هو تاريخ معاصر. وهكذا، تاريخيا، كانت الحرب العظمى 1914-1918، بما مهدت وما جاء في سياقها وما أعقبته، بمثابة علامة فارقة بين مرحلتين، مرحلة نهاية التاريخ الحديث، الذي بدأ مع النهضة الأوروبية وبداية مرحلة التاريخ المعاصر، الذي لا يريد أن يمضي إلى ما بعده، ويعاند بإصرار شديد على التمسك ليس باللحظة الراهنة التي يُعْرف بها، بل بالماضي والمستقبل أيضا ليستوعبها كأبعاد تاريخية تعرف باللحظة الأبدية، على ما يسري كبار المبدعين والعلماء والفنّانين الذين يدخلون في حالة تماه تام مع إبداعاتهم وعوالمهم.
لحظات التاريخ المعاصر كما نحاول أن نعيشها لا تفارقنا إطلاقا، فالواقعة أو الحادثة مع صاحبها، وأن المعلومات والمعارف لا تكف عن التدفق معلنة دائما الجديد، وكأنه تعريف بآخر إبداعات الإنسانية المتوالية والمُطَّردة، أشبه بالتعبير عن لحظة ليست المعاصرة وحسب، بل لحظة أبدية تستقطب كل التاريخ بما هو شامل، وما هو مفصَّل، العالمي منه والقطاعي، المحلي منه والعالمي. ومن هنا نركن إلى القول إن تاريخنا المعاصر هو تاريخنا بالمعنى الذي يحيل إلى أننا لا نفارقه، أو لا يفارقنا مع شيء كبير من شعور وإحساس بامتلاكه ومسؤوليتنا عنه. فقد اكتفينا وامتلأنا بالقدر الذي صرنا نبحث عمن يستحق الخدمة والواجب والتكريم.
لحظة واحدة تجمع الواقعة التاريخية، وكل الوقائع هي تاريخية، لأنها تسجل وتُحفظ في جهة ما، يعود إليها الباحث والمؤرخ وقت الحاجة إليها
التاريخ المعاصر هو تاريخنا المعاصر لأنه شديد الصلة بالإنسان المعاصر نفسه. لحظة واحدة تجمع الواقعة التاريخية، وكل الوقائع هي تاريخية، لأنها تسجل وتُحفظ في جهة ما، يعود إليها الباحث والمؤرخ وقت الحاجة إليها.. ولعلّ قوة الحفظ والتخزين والأرشفة والتوثيق على أنواعها وتعددها، هي التي تضفي قيمة الأبدية واختزال الأبعاد الزمنية في الوثيقة نفسها، وحمايتها من الانتماء إلى التاريخ السابق، بل دائما اللحظة الراهنة في حالة تدفق، تتميز دائما بالجديد عبر قنوات حيوية رائعة تفرض على الوعي والضمير كليهما الفطنة واليقظة ومُجَايلة الواقعة والفكرة والموقف في الآن، وليس بعد الأوان. مقولة بينيدتو كرتوشه التي صاغها ضمن تعريفه للتاريخ المعاصر، مقولة لتعريف تاريخ جديد كل الجدّة، لأنه جاء في سياق مختلف تماما عمّا سبقه من قرون ودهور، فقد استعصى التاريخ المعاصر عن التصنيف والتحقيب، بل بقي يراكم التجارب والأحداث والخبرات من حياة الأمم والشعوب والأفراد، مع الزيادة المفرطة والمبالغ فيها في العدد والنوع.. أي البحث الدائم عن الجديد ليس في المواد والموضوعات، بل أيضا في الوسائل والآليات، إلى درجة أنه امتلك الحصانة القوية، لكي يرتع في اللحظة الدائمة، ولا يتزحزح عنها إلى ما بعدها.. تاريخ هو ذاته.. حالة من التماهي بين التاريخ وما يعرف عنه أو به، فالتاريخ كما نفهمه اليوم هو التاريخ الأخير الذي نقف عند آخر عتباته، يوفر لنا الرؤية الشاملة والعامة، أي التاريخ الشامل والعالمي، كما يوفر لنا إمكانية الوقوف على تفاصيل الماضي من أجل إدراجه في اللحظة الراهنة التي أوحت بقيمة وقائع ماضية في ضوء وقائعها الحاضرة. فالماضي في الحاضر على ما يوصينا دائما التاريخ المعاصر. في تاريخنا المعاصر نقف أيضا على لحظة الكونية والعالمية، ونسعى إلى نوع من الأبدية على ما جاء في الشرح السابق. ولمزيد من التوضيح نقول أيضا إننا نعيش ونحن نلم بكل ما احتوت الكرة الأرضية، ليس هناك مكان مطمور أو مجهول على خلاف ما كانت الإنسانية في السابق التي عاشت وهي لا تدري ماذا يجري في بقية الأمكنة، بل ما قبل النهضة الأوروبية، في القرن السادس عشر لم يكن الأوروبيون أنفسهم يدركون أن هناك قارة كاملة أكبر أضعافا مضاعفة عن القارة الأوروبية يطلق عليها لاحقا القارة الأمريكية، وعلينا أن نتصور نحن في تاريخنا المعاصر مدى النقص والخطأ والجهل في تقييم الأمور، وتقدير المسائل والحكم على الأشياء عندما يغيب عنّا نصف العالم تقريبا. فإمكانية التحقيب وترتيب المراحل التاريخية هي سمة من سمات التاريخ القائم على النقص والغياب والجهل، على ما حصل للتاريخ القديم والوسيط والحديث، أما التاريخ المعاصر فَتَأَبَّى عن إمكانية التَّحْقيب لأنه أدرك منذ البداية، بداية القرن العشرين أن الواقعة مع صاحبها، وأن الموقف يسجل، وأن الحديث تاريخي بالضرورة، لأننا يمكننا العودة إليه ساعة الحاجة إليه.
التاريخ المعاصر يلِحُّ على الفلسفة، على ما هي التصورات الكبرى والرؤى الشاملة التي توصي دائما بالتفكير الفلسفي كأفضل سبيل إلى تقدير الأمور حق قدرها، فما يقتضيه التاريخ المعاصر هو فكرة الديمومة، أي الزمن المجايل والمحايث للإنسان الذي يعيش الحدث والواقعة والمنظومة بِرُمّتها، يعرف مَحَلُّه من المجال ويعي نفسه كذلك، أي كإنسان مع تاريخه في كل لحظاته ووحداته الزمنية، فالإنسان المعاصر لا يكف عن الاستحمام في نهر التاريخ ولا يرغب إطلاقا في الخروج منه.. لأن مرور الوقت من دون فائدة فيه إهدار لقيمة وكرامة ومكانة للإنسان نفسه، الذي في حالة انتظار دائم لمعلومات تصدر عن عالم لا يغادر كبيرة أو صغيرة إلا أحصاها، وهذا النوع من التفكير والمعايشة يقتضي أيضا نوعا آخر من الوسائط والأنماط لاستجلاء الحقيقة أو الحقائق ونقصد الحَدَس، الذي يعدم أي وسائط ووسائل، حتى لو كانت عقلية، ليترك المجال إلى الاتصال المباشر مع التاريخ في لحظته الأبدية وسيرورته الزمنية وأفاقه المقبلة.
ودائما عند مقتضيات الفلسفة في التاريخ المعاصر، هناك فكرة المدة الطويلة التي أبدعها ووقف عندها بالشرح والتحليل المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل (1902-1985) ويؤكد بها خاصية التاريخ المعاصر، على أن كل الإنجاز والبناء والتشييد يجب أن يجري في المدى الطويل، أي يستغرق الوقت اللازم لمعنى الإنجاز والمشروع، حتى يأخذ مدلول الأبدية ويَتَفَوّق، أو يفوق الزمن الرتيب إلى الزمن الكوني العام الذي تستفيد منه الإنسانية جمعاء، يستحق بسبب ذلك شرعية تداوله من قبل سكان المعمورة كافة، على ما تطلعنا به السياسات المنظمة للسياحة لكل بقاع العالم، حيث يوجد المعلم والتحفة والإنجاز الرائع. فكرة المدة الطويلة لا تعني المدى الطويل حسب، وإن كانت تدخل في التعريف بها لكنها تعني من جملة ما تعني استنفاد الزمن المناسب، بالقدر الذي لا يترك فراغا أو نقصا في الإنجاز، وينهار أو يتلف أو يضيع حتى بعد تشييده. فأهرامات العصر الفرعوني هي للأبد أخذت حقها من الزمن المناسب، الذي يقابله الجهد المناسب لكي تستحق الاهتمام المناسب في زمننا المعاصر الذي لا يريد أن يضيع منه أي شيء، حتى لو كان من الماضي.
كاتب وأكاديمي جزائري
كرواتشيه اردف ان كل تاريخ هو تاريخ معاصر. واستاذنا أصاب وأمعن بعبارة التاريخ المعاصر هو فكرة الديمومة، أي الزمن المجايل والمحايث للإنسان الذي يعيش الحدث والواقعة والمنظومة بِرُمّتها، يعرف مَحَلُّه من المجال ويعي نفسه كذلك، أي كإنسان مع تاريخه.
انها فلسفة المؤرخ. فقط من تتيح لك التفكير بهذا المستوى
تحياتي لأستاذنا.