هل القيمة الإبداعية مسألة ذاكرة أم نسيان؟

حجم الخط
0

مديح النسيان

إن كان سؤال التراث هو سؤال حول الذاكرة. فهو إذنْ سؤال الهوية بامتياز. وهي كلها أسئلة في الوجود. فبأي معنى يكون سؤال التراث والذاكرة والهوية أسئلة في الوجود؟ أجيب بسرعة، لأن الوجود كثيراً ما يقع تحت وطأة التراث والذاكرة، بل كثيراً ما يُعتبر التراث عصب الهوية. وهذا يقودني إلى تساؤل آخر، وهو هل الوجود أمام التراث أو الذاكرة هو وجود عبءٍ أم وجود خفةٍ؟ على اعتبار أن العبء يحيل على الذاكرة، والخفة تحيل على النسيان.
قصدي من طرح هذا الإشكال هو تبيان الوجود باعتباره خلقا، أي أن الذي يجعل من الوجود قابلاً أن يُعاش هو قيمته المتجددة، أي قيمته الإبداعية، وهذا يقود لسؤال آخر: هل القيمة الإبداعية مسألة ذاكرة أم مسألة نسيان؟ وهل سبق لقيمة إبداعية ما أن تعرفت على نفسها في نسق محافظ؟
لتحديد مفهوم العِبْء أو الثقْل (la pesanteur) نقول إن وجه العبء في الوجود هو أن تَدَخل الماضي من خلال الذاكرة يجعل حياتنا تحت وطأة ثقلٍ وازنٍ، لماذا هو ثقلٌ جسيم؟
من ثوابت التراث مبدأ الثبات كميْسمٍ مركزي، بوصفه بنية صلبة ومحكمة الإغلاق. فكلمة العودة للتراث في ذاتها تفيد التكرار والرجوع القهقرى. ولفظة المحافظة على التراث في ذاتها تفيد النمطية. وصورة هويتنا داخل هذه البنية، تغدو على الدوام في مكانها، لا تبرح ماضيها. إنها صورتنا المنفصلة عن حاضرنا. وما إخلاصنا لتكرار الصورة النمطية، وإنْ بدت كعربون على التمسك بالانتماء، فما هي إلا تهليل عشائري، وتذويب الحاضر في الماضي. بئس الانتماء؛ لكونه ماضويا يقدم نفسه كمآلٍ حتمي لا مندوحة عنه، ويختزل التعدد ويصادر الفرادة، ويجعل من الاختلاف خروجا عن الجماعة. وباتت هويتنا متمترسة في نقطة ارتكاز لا «تنتهي» صلاحيتها، بل غير مفتوحة للإضافات. فنعيش الحياة بإملاءات الماضي وبتوجيهات الذاكرة، وهكذا نعيد إنتاج نمط حياةِ مَنْ سبقونا، أو نعيش تحت جلدة السلف، كأننا أقزام أمام أسلافنا. وهو نوع من «العود الأبدي» بلغة نيتشه. الشيء الذي يستبعد تصحيح أخطاء الماضي ويستبعد إنتاج نمطٍ جديدٍ من الحياة. وما التقليدانية عموما إلا هذا النوع من «العود الأبدي» بسبب عبء الذاكرة. والسلفية في صميمها تجعل من النمط الجديد للحياة عدوها اللدود باعتباره بِدعة. فهي (السلفية) تقديس الذاكرة بوصفها نقلاً عن السلف.
الذاكرة يُقْصَدُ بها النقل في الفكر وفي الدين، وهي الركوع في السياسة، وهي التكرار في الفن، والمحافظة في المجتمع. الذاكرة اختراق للحياة الخاصة للإنسان الذي ليس له الحق في النسيان، بل يُعتبر تخليه عنها بدعةً وضلالةً وتمرداً. بهذا المعنى تكون «الذاكرة بلاء الأشقياء» كما يقول مكسيم غوركي.

بات واضحاً أن الإنسان أشد تعلقاً بالزمن المقبل، وعلى حد تعبير هايدغر، أن الزمن الذي يستحق الأهمية هو «ما لم يأتِ بعدُ» أي المقبل من الزمن الذي يحقق فيه الإنسان وجوده، أو يحقق فيه الوجود نفسه بلغة الوجوديين.

أما مفهوم الخِفة (la légèreté) فإن وجه الخِفة في الوجود هو أنها تُعتبر الميزة العامة للحياة، على الأقل من الناحية الافتراضية، فماذا نقصد بخفة الحياة؟ المقصود هو أنه يستحيل علينا أن نعيشها مرتين، حتى يتسنى لنا أن نصحح ما قمنا به من أخطاء أو حتى خطايا. كيف ذلك؟ كثيراً ما يُخامرنا إحساس بوزن الريشة التي تهب بها رياح الصدفة، أو لنَقُلْ القَدَر بلغة الميتافيزيقا. فنغدو كأننا قاربا بلا شراع في بحر متلاطمٍ. وإن كنا نتسلح ضد الصدفة بتخطيطِ مشروع، فلا بد من أنه سيبقى مرهوناً بكثيرٍ من المتغيرات. هذه المتغيرات التي نجهلها هي مصدر الذعْرِ من المستقبل، فالصدفة هي ما نجهل معرفته، أو هذا المستقبل المجهول الذي ليست لنا به معرفة. فتصبح الصدفة خفة لا تُحتمل. وكما أنها خِفةٌ لا تُحْتَمل فالذاكرة كماضٍ فهي ثِقْلٌ لا يُحتمَل، وهذا من جديد، نوع آخر من «العود الأبدي». والمعنى المضاد بينهما، هو أن الذاكرة يتبطنها ادعاء اليقين، والمستقبل يتبطنه ادعاء المجهول، لكنّ كليهما إما عبءٌ ثقيلٌ لا يُحتمَل، أو فراغٌ وخِفةٌ لا تُحتمَل.
إن النصيب الأوفر من الإحساس الذي يغمرنا من فكرة القَدَر هو الشعور بالضياع، فنحتمي منه بفكرة الله المُدَبر للقَدَر. وإذا سلمنا بأن النسيان باعتباره معنى مضادا للذاكرة، فهل – النسيان – يُعَرضُنا للخوف من ظُلْمة الحاضر وغموض المستقبل، وبالتالي الإحساس بالفراغ؟ والحال، أليست الصدفة والقَدَر أكثر غموضاً وأشد هولاً من النسيان؟ لماذا التوجس من القَدَر؟ فمَنْ مِنا يملك يقيناً أمام القَدَر؟ مَن يستطيع أن يضع ثقته في القَدَر؟ وطالما أننا نحتاج إلى معنى للحياة فإن الصدفة تُصِر أن تقدمه لنا بلا معنى. وهكذا فالقَدَر يُفْقِدُ المستقبل معناه.
يقال إنه لكي يكون هناك غُفران ومصالحة، لا بد من ذاكرة حية لِما لا يُمْحى. لكن، هل هناك ذاكرة لا تُمْحَى؟ هل هناك ذاكرة تتمتع بمناعة لمقاومة النسيان؟ هذا السؤال فيه حرص على يقظة الذاكرة كي لا تَسْهُو. فلماذا نَتَهَيبُ من الغفلة والنسيان؟ بكل بساطة، لأن الذاكرة خوف من الخَواء المرادف للموت. عِلماً أنه في البدء لم تكن الذاكرة ذاكرة، إنما كانت «خيالاً» قبل أن تصبح ذاكرة، ثم غَدتْ تراثاً وقبراً للخيال. والطريق السالك للذاكرة كثيراً ما يتردد فيه الضباب. فهل يَسَعُنا الإبداع تحت طائِلة ذاكرةٍ حَية بما لا يُمْحَى؟
بات واضحاً أن الإنسان أشد تعلقاً بالزمن المقبل، وعلى حد تعبير هايدغر، أن الزمن الذي يستحق الأهمية هو «ما لم يأتِ بعدُ» أي المقبل من الزمن الذي يحقق فيه الإنسان وجوده، أو يحقق فيه الوجود نفسه بلغة الوجوديين. غير أن الماضي في الذاكرة مثل الصرف في اللغة، وبالتالي نستعمل التراث في سائر الأزمنة؛ نستعمله في العودة للماضي، ونستعمله لنعيش اللحظة في الحاضر، ونستعمله لنعيش البداية في المستقبل. وهكذا تغذو الذاكرة حمالة لمعنى التراث، ومعنى الماضي الذي يأخذ صيغة الحاضر. حتى إن التراث يتحكم في مصيرنا ويتحكم الماضي في مستقبلنا، لذلك، يَجْري على اللسان أن أمةً بلا ذاكرة هي أمة بلا مستقبل، بل يقال أيضاً إن الذاكرة هي جذور المستقبل. وإذا كانت الذاكرة شأناً راهناً فهل لا مفر لنا من أن نقْبَلَ بها كماضٍ في صيغة الحاضر؟ وهل فعلاً المستقبل هو لِمَن يملك ذاكرةً أطول؟ (كما يقول نيتشه ساخراً).
أليست الشعوب المتأخرة هي تلك التي تُثقل كاهلَها ذاكرة حضارية طويلة وتاريخ ضخم يجعلها صغيرةً أمام ماضيها؟

فنان تشكيلي من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية