ماذا يجب علينا… قبل أقلمة السرد العربي؟

في ورقتي النقدية التي قدمتها لمركز ابن خلدون طرحت فكرة (الأقلمة السردية) مشروعاً عربياً مقترحاً، وليس كما عبّر عنه سعيد يقطين مفهوماً نقدياً في مقاله «ما هي السرديات الكلاسيكية» المنشور في جريدة «القدس العربي» بتاريخ 2/11 قائلا: «سبق لي أن ناقشت مفهومها للأقلمة في لقاء عن بعد».. والفرق كبير بين أن تناقش أمراً هو مشروع، وأن تناقشه كمفهوم.
وإيماناً بثقافة الحوار في التطوير والبناء، اقترحت على المركز نقاداً أربعة لمناقشة المشروع والإفادة من محاوراتهم والانتفاع من آرائهم، ومن بينهم سعيد يقطين، وجرى النقاش عبر منصة Zoom دون أي معوقات تقانية، باستثناء أمر (المنطلقات والخلفيات) التي بها احتج الناقد يقطين على المشروع، وهي نفسها جاءت في معرض رده على مقالتي «لماذا الأقلمة السردية الآن» المنشورة في جريدة «القدس العربي» بتاريخ 17/11 مؤكدا استحالة الحوار مع اختلاف المنطلقات، أي أن الاختلاف والحوار متضادان لا يجتمعان، وأن من يرد التحاور ـ في رأيه ـ فعليه مسبقا أن يكون محملاً بما يحمله من أفكار، مؤمناً بما يؤمن به غير مختلف ولا معارض.
وهذا أمر ينكره النقد الأدبي، قبل أن تنكره أدبيات المعرفة كافة، لأن ميدان النقد في الأساس كلامي كصناعة قولية، أداتها الحوار وعمادها الاختلاف وبه نضمن لأقوالنا الأهمية والقيمة باتجاه التفاعل والتطور، فلا نرسل الأقوال على علاتها إرسالا.. وليس من وراء التوافق في الكلام عن أشياء لا نختلف حولها سوى الاجترار والتكرار اللذين يقودان حتما نحو الجمود والتحنط.
ويخيل إليّ أننا ـ قبل المبادرة بطرح الأقلمة السردية أو الشعرية ـ بحاجة شديدة إلى أقلمة نقدنا الأدبي ذهنياً. وأول أساسات هذه الأقلمة الذهنية هي اعترافنا كنقاد بجدوى التحاور وأهميته في صناعة منظومة نقدية منفتحة؛ فلا نستغلق على ذواتنا اعتدادا بما ورثناه من أسلافنا، ولا نقزّمها فنعملق الآخر علينا، ولا نخاف عليها فنكون درءاً لمن يوافقها الرأي وقساة على من يختلف معها، وقد نتطاول في هذه القسوة إلى درجة كبح أي تطلع ومحاربة أي تجديد.
والانفتاح في الحوار هو ما دعوت إليه في مقالتي «لماذا الأقلمة السردية الآن» وأول الانفتاح هو تعرية ذواتنا ونقدها قبل نقد الآخر و»أن تتظافر جهودنا مع جهود النقاد في العالم وعلى اختلاف جغرافياتهم، كي نساهم معهم في ما كان عزيزا علينا في القرن العشرين الإسهام فيه» وليس في التفاعل الحواري خسائر أو مثالب كما لا وجود لغالب ومغلوب، وإنما هو الاغتناء المعرفي، حيث كل ناقد يقدم عقله مشاركا الآخرين عقولهم أيضا.
وسبق أن خضت جدالات جمعتها في كتابي «في الجدل النقدي» 2020 وقبله كان كتابي «موسوعة السرد العربي معاينات نقدية ومراجعات تاريخية» سجالا معرفيا قائما على الاختلاف بحثا عن الحقائق والنقائص. وحين فاتحني قسم اللغة العربية في جامعة قطر بفكرة إقامة مناظرة مع كاتب الموسوعة، رحبت لكنه اعتذر منطلقا من الفهم نفسه الذي عند الأستاذ يقطين وهو، أن الحوار لا يكون مع من يختلف في المنطلقات، وكأن الاختلاف ليس حاجة طبيعية لحياة نقدية صحية، أو كأن لا نفع في الجدال والسجال؛ فهو إما تحامل مغرض أو مجاملة مصلحية.
وعلى الرغم من أن الروح الجماعية غابت عن نقدنا، فإن الاختلاف في المنطلقات والتغاير في المنهجيات والتنوع في التوجهات ما يزال موجودا، وهو طبيعي وصحي، ما يجعلنا نتفاءل بحياة أدبية ونقدية حية ونابضة، فنغتبط حين نرى جدالات فيها عدم اتفاق موضوعي، لا العكس، أي أن نفرح بتوافقنا وتقارب أفكارنا مستمتعين بأن لا جديد تحت شمس نقدنا. وعلى الرغم من أن هذه الشمس لاهبة، فإن الكثيرين يفضلون الجثوم تحتها متحملين وطأة الاعتياد عليها، ومتآلفين مع هذا الاعتياد. وكل ذلك من أجل ألا يتحاوروا ولا يتساجلوا، خشية أن يفقدوا الود بينهم، أو خشية أن يحرك السجال ساكنا يكبح أو يجمح فتتألب الأحوال عليهم ويفرّطون في مكاسب لا يريدون فقدها.
ومع حب التوافق والاعتياد والخشية من التغاير والاختلاف، تناسينا ثقافة الحوار، فالمؤتمرات يعرض فيها الباحث بضاعته وعادة ما يكون الشراة أحبابا، وإذا لم يكن للباحث أحباب فسيُقرأ على بضاعته السلام، كما أن المسابقات الشعرية والروائية تقوم على المصلحة والانتفاع المتبادل، وأي جهد لا يصب في هذه المصلحة مصيره التمييع والتسويف. أما البرامج الثقافية التلفزيونية فحواراتها صحافية وهي قليلة في الغالب. والنقد الأدبي من أكثر الميادين حاجة إلى الجدل والتحاور، وقد كانت نهضة الرعيل الأول من النقاد العرب مبنية على الاختلاف في الحوار، والتباري في السجال خذ مثلا سجال طه حسين مع مصطفى صادق الرافعي حول القديم والجديد.

وعلى الرغم من أن الروح الجماعية غابت عن نقدنا، فإن الاختلاف في المنطلقات والتغاير في المنهجيات والتنوع في التوجهات ما يزال موجودا، وهو طبيعي وصحي، ما يجعلنا نتفاءل بحياة أدبية ونقدية حية ونابضة، فنغتبط حين نرى جدالات فيها عدم اتفاق موضوعي، لا العكس، أي أن نفرح بتوافقنا وتقارب أفكارنا مستمتعين بأن لا جديد تحت شمس نقدنا.

وعلى الرغم من اختلاف منطلقات هذين الأديبين الكبيرين، فإن السجالات والحوارات لم تفسد الود بينهما، بل حرّكت الحياة الأدبية وخلقت أجواء ثقافية، نفتقر إليها اليوم، بل إن طه حسين ـ ولأهمية هذه السجالات ـ جمعها كاملة في أحد أجزاء كتابه «حديث الأربعاء» محذرا من ركود فكرنا قائلا: «يقول الفرنسيون عنا نحن العرب أنا مفطومون عن الحوادث الأدبية الخطيرة التي تحدث في البلاد الحية، فتمر الأعوام وتتلوها الأعوام دون أن يتحدث الناس بأن كتابا قيما خليقا بالخلود، قد أُلف أو ترجم أو لخص، وإنما حياتنا الأدبية هادئة فاترة، او قل إنها راكدة لا تعرف الحركة والاضطراب نفطر على الصحف السياسية ونتغذى على الصحف السياسية ونتعشى بالصحف السياسية. لقد سممت عقولنا ونفوسنا وقلوبنا».

وقد أفسدت ويلات السياسة ثقافتنا اليوم أضعافا مضاعفة عما كانت عليه زمن طه حسين، فتناقصت معها حياة العقل والشعور، ولم يعد من طريق صالح إلى الجدال والتساجل لا على صفحات الجرائد ولا شاشات التلفزيون ولا قاعات الدرس ولا أروقة المهرجانات والمؤتمرات.
لن أكون قاسية إذا قلت إن استغلاق آفاق التفكير عندنا هو في غياب ثقافة الجدل والتحاور، من تفاصيل حياتنا. وما دمنا لا نفهم الحوار على أنه ثقافة، بل نفهمه على أنه تجهيل يشيع التخاصم ويولد النفور وينمي العداوات، فلماذا إذن نفكر في التحاور وكل منا مكتف بعلمه مطمئن إلى خلفياته وواثق من منطلقاته ولا حاجة به إلى فكر يعكر صفو هذا الاكتفاء وذاك الاطمئنان باتجاه ما لا يحب، وقد تتخلخل مرتكزات بذلنا الكثير في سبيل تثبيت دعائمها ولماذا نشوش عليها ولسنا مهيئين لتغييرها أو تطويرها، بل غير مؤمنين بوجود مسائل وإشكاليات واستثناءات تستأهل منا الجدل فيها والاعتناء بها، وكيف تكون سجالاتنا نافعة وتؤدي أغراضها ومشرط الاقتطاع للعبارات من سياقاتها ومبضع ابتسار الألفاظ من جواهرها وإلغاء الفقرة من عمودها قائم ومتاح بالمجان. هذه التصورات هي نتاج طبيعي لغياب ثقافة الحوار التي معها يغدو الكلام في مشاريع وبرامج واستراتيجيات ـ تحتاج جهدا جماعيا ودعما مؤسساتيا (كمشروع أقلمة السرد العربي) ـ مجرد ضرب من الأحلام التي معها يكون الحوار والتجادل طوباويا ليس له قيمة ولا معنى.
ولعل غياب ثقافة الحوار من حياتنا العقلية العربية هي التي تجعلنا نعزف عن التفاعل مع غيرنا قبولا أو تفنيدا، مؤمنين بأن في النقد منطلقات ظهر الخيط الصحيح فيها من الخيط الخطأ. وما على النقاد سوى السير وراء الخيط متوافقين على هدي من مسكه وتقدم الركب بانتمائه السابق ورسمه المبكر واجتهاده الأصيل حتى وصل مرتبة (الشيف).
وما أفضت إليه مقالة يقطين من قبيل (لا أفهم معنى «التحيز» ولا «علمنة أدبنا» ولا «أقلمة نظرية عربية خاصة بنا) و(كلام لا أساس له) و(مثل هذه التعابير دالة على اختلاف جوهري بيننا في فهم الأمور) و(الأقلمة الخاصة بنا ليست سوى هروب إلى الأمام) إنما يعني أن الحوار مستحيل، وفهم الأقلمة كسيح، والتحيز للمدرسة الفرنسية شيء، والانحياز لها شيء، والكلاسيكية تحتاج إلى الدفاع وما بعد الكلاسيكية تفتقر إلى التوضيح والسجالات كثيرة والعلم لا يتطور، والنقد فيه أيديولوجيا والانخراط في النقد يعني تعريب منجزات الآخر وليس البناء عليها بمشاريع، فذلك يجعلنا (خارج الزمن والجغرافيا والتاريخ) لا لشيء سوى أننا نريد توطين نقدنا بهوية معرفية تشمخ بنا وبمنجزات أسلافنا في السرد والنقد.
إن انكماشية الناقد سعيد يقطين من الاختلاف ليست جديدة، فقد أثارها في دراسة له منشورة عام 2008 بعنوان «السرد والسرديات والاختلاف: وهم النظرية السردية العربية» وفيها قال (كل الذين ينادون بالاختلاف هم أعجز الناس عن فهم ما يجري.. ونظل نلوك الكلام الذي لا ينتج غير الكلام.. اتطابق مع زميلي أن هناك أزمة واختلف في تشخيصها لأن منطلقاتنا مختلفة جذريا). من هنا تتجلى أهمية أقلمة أذهاننا قبل نقدنا كي يكون التحاور نافعا وجادا وليس حوار طرشان، لا يغني منطلقات المحاور ولا يسمن مرجعيات المتحاور.

ومن تصوراتي لمثل هذه الأقلمة الذهنية دعوة النقاد إلى انتهاج المناظرة أسلوبا بحثيا في معالجة مسائل النقد وقضاياه، بما يشيع أجواء التشارك ويساعد في وضع تقاليد جديدة وممارسات تزيل المخاوف من الاختلاف، وتجعل لضمير «نحن» معنى منفتحا وتشاركيا بدلا من الأستذة باستعمال ضمير الخطاب، أو التقوقع باستعمال ضمير الأنا أو التجاهل باستعمال ضمير الغياب. وقد تقصدت بناء مقالتي «لماذا الأقلمة السردية الآن؟» على ضمير «نحن» كمسبار اختبار واقعنا النقدي والأدبي ومدى تقاربه أو تحاربه.
ويظل النقد صناعة وثلاثة أرباع هذه الصناعة مبنية على الاختلاف، والربع الأخير يظل منوطا بخصوصياتنا في التحليل والتعليل والتقويم. ولا يجوز لهذا الربع أن يؤثر في الصناعة بمجموعها. فيكون المزاج أو الذاتية حاكمين عليه، بل هي النظريات والقوانين الضامنة لوظيفة نقدية حقيقية. وما أحوج الأقلام النقدية العربية إلى ثقافة الحوار في تقبل النظريات، أو رفضها، وفي معالجة ارستقراطية النقد والتحرز من بيروقراطياته والحذر من أدلجته. وما من نزاهة للنقد ما لم يكن للاختلاف مكان، ولا اختلاف ما لم تكن هناك استجابة سابقة للتحاور. وعندها لن يكون الناقد العربي كذاك الرجل الذي لا ينظر إلى القمر دون أن يقيس المسافة، ولا ينظر إلى الشجرة دون أن يفكر بالحطب، كما يقول غاليانو.
وقد طوّر سعيد يقطين نقده السردي كمشروع فردي، فبدأ من السرد الواقعي والسرد الاجتماعي وموت السرديات ثم الانفتاح على سرديات الوسائط التفاعلية والنص الشبكي المترابط وانتهاء بالسرديات الكلاسيكية، لكن تلك الفردية لم تمكنه من إخراج النقد العربي من أزمته التي شخصها كثيرون ومنهم يقطين منذ عام 1976.
أقول إن الأقلمة علمنة، والعلمنة تطوير.. ولا تطوير دون فعل جماعي.. ولا جماعية دون أن تدفع بالاختلاف إلى التفاعل البنّاء بالحوار دفاعاً أو هجوماً، أو بكليهما معاً.

كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اسمهان الغليمي:

    من لا يؤمن بالاختلاف وتطور النظريات ويجمد على صنعته ويصم آذانه عن الحوار فحتما سيتجاوزه الزمن .

إشترك في قائمتنا البريدية