اعتاد المثقفون العرب، خاصة الإعلاميين منهم المطالبة بعالم متعدد الأقطاب تهيمن فيه قوى متعددة وليست واحدة، مثلما حصل مع الولايات المتحدة خلال الثلاثة عقود الأخيرة. غير أن التجربة تبرز أن نسبة مهمة من وسائل الإعلام العربية، خاصة الكبرى منها سواء قنوات التلفزيون أو الجرائد تكرس إعلاميا ثقافة القطب الواحد، وبالتالي تعمل على الترويج لمواقف الغرب، خاصة الولايات المتحدة من دون وعي منها رغم الخطاب الانتقادي لبعض هذه الصحافة.
وعلاقة بهذا، يعيش المشهد الثقافي والإعلامي منذ سنوات طويلة نقاشا قويا بشأن كيفية التحرر من الهيمنة الأمريكية والغربية عموما، وكيف يمكن دعم عالم متعدد الأقطاب، وذلك بحكم أن الأفكار وتأسيس رأي عام حول قضية ما هي الخطوة الأولى نحو تطبيق التغيير. وهذه الأسئلة المهمة هي نفسها الحاضرة بقوة في ثقافات أخرى ومنها أمريكا اللاتينية وآسيا، بل حتى في جزء من الغرب نفسه، ونعني هنا أساسا جزءا من الأوروبيين وعلى رأسهم الفرنسيون. ولا يمكن فهم الكثير من المبادرات الأوروبية الفرنسية وسط الاتحاد الأوروبي الخاصة بالهوية والثقافة، وكذلك تشريع قوانين في البرلمان الفرنسي للحفاظ على الثقافة الفرنسية بمفهوم «الاستثناء الفرنسي» بمعزل عن التخوف من هيمنة الثقافة والسياسة الأمريكية، بل الجهر بمقاومتها.
الدفاع عن عالم متعدد الأقطاب هو ثقافة يجب ترسيخها في ذهن الرأي العام.. ويبدأ بتعدد مصادر الخبر
ويبدو أحيانا خطاب فرنسا في ضرورة عالم متعدد الأقطاب سياسيا وثقافيا وكأنه خطاب الصين أو روسيا، رغم انتماء باريس إلى الغرب. ويوجد فرق بين كيفية التعاطي الإعلامي بين الثقافات السياسية تجاه سياسة الولايات المتحدة بمفهومها الشامل، أي المؤسسات الرسمية والحزبية ووسائل الإعلام خاصة. في هذا الصدد، تتميز الصحافة العربية بتخصيص حيز مهم للصحافة الغربية وعلى رأسها البريطانية والأمريكية، وأصبحت هذه الأخيرة تتحكم بطريقة غير مباشرة في الخطاب الإعلامي العربي، ذلك أن الاعتماد على مصدر معين يعني تأثير هذا المصدر على منتج الخطاب، وبالتالي على المتلقي، وهذا يجر إلى ترسبات فكرية تدريجيا يصعب مع مرور الوقت مقاومتها.
في نقاش مع بعض الإعلاميين العرب حول هذه الظاهرة، يلجأون إلى ترديد مقولة الحرية التي تتمتع بها الصحافة الغربية مقارنة مع صحافة دول منافسة للغرب مثل الصحافة الصينية والروسية التي لا تتمتع بالاستقلالية وغير حرة. واقعيا، هذا معطى لا جدال فيه، لكن الصحافة الغربية ليست دائما بالشفافية المطلقة، ولا يمكن دائما كذلك قبول ما تنشره من تحاليل، لاسيما وأن جزءا منها متعصب للغرب بشكل لافت. على ضوء هذا، يمكن استحضار ومعالجة حدثين مهمين للمقارنة وهما: تطورات الحرب الروسية – الأوكرانية، ثم مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني. علاقة بالموضوع الأول، روجت الصحافة الغربية وتستمر حتى الآن لفرضية احتمال لجوء روسيا إلى السلاح النووي لضرب أوكرانيا. في الوقت ذاته، تناولت بشكل سطحي المؤتمر الأخيرة للحزب الشيوعي الصيني. وحدث أن نقلت الصحافة العربية من دون تمحيص ومن دون استعمال غربال النقد في الغالب. علاقة بالحرب، لم يصدر عن أي مسؤول روسي مثل الرئيس فلاديمير بوتين، أو وزير الدفاع سيرجي شويغو، أو وزير الخارجية سيرجي لافروف تصريحات توحي بفرضية استعمال الجيش الروسي السلاح النووي ضد أوكرانيا، بما فيه السلاح النووي التكتيكي، بل كل ما حصل هو تأكيد الرئيس بوتين على تذكير الغرب بالعقيدة الروسية بشأن استعمال السلاح النووي للدفاع عن روسيا ضد أي محاولة تهدد كيانها بشكل جدي، أو كيان دولة حليفة لموسكو. هذا التصريح شدد عليه بوتين خلال السنوات الأخيرة، أي قبل انطلاق الحرب. وعليه، لماذا ركز ويركز جزء من الصحافة الغربية على فرضية استعمال روسيا للسلاح النووي، وعلى رأسها جريدة «التايمز» البريطانية وبشكل مبالغ فيه؟ الهدف في الإيحاء بهزيمة روسيا في هذه الحرب وأنها في موقف ضعف. وكرر جزء كبير من الإعلام العربي هذه الأطروحة، من دون أن يتساءل: كيف سيحدث هذا وروسيا اقتطعت 15% من أراضي أوكرانيا ودمرت بنيتها التحتية؟ لماذا، لم تلجأ الصحافة العربية إلى تنويع المصادر وتعتمد في هذه الحالة نسبيا على الإعلام الروسي بدل الغربي لتفادي ترديد مثل هذه الفرضية المستحيلة؟ ويتجلى الحدث الثاني في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الذي انعقد منذ أسابيع قليلة، فقد تناول الاعلام الغربي بإسهاب حادث طرد الرئيس الصيني السابق هو جينتاو من المؤتمر، ثم منح الرئاسة مدى الحياة للرئيس الحالي جينغ بينغ. ولم يتعمق الإعلام الغربي في برنامج الحزب الشيوعي الذي عالج كيف ستصبح الصين القوة الكبرى في ظرف لن يتجاوز العقد ونصف العقد، مزيحة الولايات المتحدة عن ريادة العالم. لم يبرز الإعلام الغربي هذه المعطيات، ولم يولِها الإعلام العربي اهتماما كبيرا مع بعض الاستثناءات دائما.
الدفاع عن عالم متعدد الأقطاب هو ثقافة يجب ترسيخها في ذهن الرأي العام، ونجد هذا بامتياز في الإعلام والخطاب السياسي لبعض الدول من أمريكا اللاتينية وآسيا مثل إندونيسيا وتركيا، حيث تفيد كل دراسة لمضمون وسائل الإعلام لهذه الدول تحقيق نوع من الاستقلالية في مصادر الخبر والرؤية الإعلامية، بعيدا عن أوردت «نيويورك تايمز» أو نشرت «رويترز». بينما يستمر جزء كبير من الاعلام رهينة نيويورك تايمز الأمريكية والتايمز البريطانية. عالم متعدد الأقطاب يبدأ كذلك بتعدد مصادر الخبر.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»
تحية للأستاذ المجدوبي
تحية لك على اجتهادك واحترامك لنفسك كصحفي ولمتلقيك.
اعتز واتشرف دائما بقراءة مقالاتك.
دائما القيمة المضافة مضمونة.
تجربة الاعلام العربي مازالت محدودة/ تحتاج الى عراب، والعراب هو الغرب.
بشكل بسيط و سلس، يتطرق الكاتب الى موضوع جد مهم في شكل تحذير للقارئ العربي من ديكتاتورية المعلومة ذات المصدر الوحيد !!! تعدد المصادر كأسلوب للبحث عن المعلومة يعكس قبولنا المعرفي على فكرة تعدد الاقطاب والعوالم و الرؤى و المصالح..شكرا كاتبنا المقتدر!