يعتبر كتاب: «كتب تحترق»، الذي ألفه الباحث الفرنسي المعروف لوسيان بولاسترون، وأصدرت نسخته العربية، وزارة الثقافة والفنون في قطر، قبل عدة سنوات، ويحكي عن تاريخ تدمير الكتب في العالم، أحد أهم الكتب المعرفية، التي ينبغي الاطلاع عليها بواسطة عشاق القراءة، لما يوفره من معلومات كثيفة في موضوع ضياع المكتبات، أهم أسبابها، وتداعياتها، وأشهر المكتبات التي ضاعت عبر التاريخ، وتلك الموجودة الآن، ويمكن أن تضيع في أي لحظة، إذا لم نقم بحمايتها. ولا بد من ذكر أن الكتاب ترجم بطريقة جيدة فعلا، وكان ثمة أسلوب أدبي رائع للمترجمين: هاشم صالح ومحمد مخلوف، حيث نقلا لنا المادة الخشنة المؤسفة، والمؤثرة للكتاب، بطريقة نقل الروايات، وبالتالي، حقق الكتاب في رأيي، متعة كبيرة في القراءة.
كان من الواضح أن المعرفة بنفسها، كانت هدفا مدروسا من أهداف الإنسان، حتى في عصور قبل الميلاد، وقد عرف الإنسان الكتابة مبكرا، كتب على الرمل والطين، ولحاء الأشجار، كتب على أوراق شجر البردي، واهتدى إلى تجميع كتابته تلك في أماكن معينة، لا يصلها التلف في العادة، وهذه هي نواة المكتبات. وقد سرد الكتاب، طقوسا كثيرة تخص المكتبات، واعتبر تخزين المعرفة، ليستفيد منها الآخرون، وظيفة سامية جدا، وتخزينها من دون السماح للآخرين بالاطلاع عليها، شحا، يشبه شح المال في كل شيء، ولطالما كانت المعرفة، أقيم حتى من المال.
لكن، لماذا تضيع الكتب في العادة؟، لماذا هي دائما مثلما كانت الهدف الأسمى للتنويريين، يحدث أن تصبح هدفا أولا لأعداء المعرفة، يدمرونها بتشف، وسعادة غامرة.
المسألة، أعني مسألة تدمير الكتب، خاصة حرقها، ليست جديدة، على الإطلاق ولا اختص بها شعب عن شعب آخر، أو طائفة دينية عن طائفة أخرى، فقد حدث ذلك كثيرا، ويسرد لنا المؤلف، كيف أن أمما كثيرة وطوائف، كانت تتشفى بحرق كتب غيرها من الأمم والطوائف، وهناك في المسيحية واليهودية، أشخاص عبر التاريخ، تخصصوا في حرق الكتب، لا لشيء سوى أنها ربما اختلفت مع معتقداتهم، وروى أن يهوديا، اعتنق المسيحية، في القرن السادس عشر، في فرنسا، أبلغ القساوسة عن إساءات بالغة في أحد كتب اليهود، للدين المسيحي، فعمد القساوسة إلى تجميع نسخ الكتاب، وحرقها في ساحة عامة، وقامت محكمة التفتيش بعد ذلك، بتجميع كتب اليهود كلها بما فيها التلمود لحرقها. بالمقابل حدث كثيرا أن جمعت كتب مسيحية، وأحرقت وسط الضجيج والصخب، في ساحات عامة لليهود، وهكذا، تأتي قصص المغول وتيمورلينك، وحرق مكتبات العراق وسوريا، والاعتداء على المعرفة في فلسطين ومصر، وغيرهما من البلاد، بواسطة أفراد أرغموا أنفسهم على كراهية العلم والنور، واستوطنوا بعقولهم في سرر الظلام، أو بواسطة جيوش بربرية غازية لإقليم ما، وأول ما تفكر فيه، سبي النساء، وتدمير المعرفة بحرق الكتب.
بالنسبة لعادة الحرق عامة، ينسبها المؤلف إلى التشدد الديني، أو التشدد في رفض معتقدات الآخر، وأيضا الرغبة في معاقبة الآخر، بحرق جهده وكفاحه كما حدث حين أحرقت كتب لمؤلفين أنفقوا أعمارهم في كتابتها. فالمتشدد الديني، لأي دين سواء أكان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، وحتى الأديان التي لا تملك أي مرجعية، وليست سماوية مثل البوذية والهندوسية، يمكنه ببساطة شديدة أن يحرق كل الكتب التي يظنها مسيئة لعقيدته، أو غير ضرورية لتوجد بجانب كتب عقيدته، ويمكن أن يفعل ذلك بمجرد السماع بالشيء، ولا يكون مطلعا عليه، كأن يخبر أحدهم متشددا مسيحيا بوجود إساءة للمسيحية، في كتاب ألفه مسلم، فيقوم بالبحث عنه وتدمير ما يجده من نسخ، بلا صبر ولا ترو. وذكر المؤلف مذهبا بعينه في المسيحية، أوجده راهب صوفي متشرد، كان يحرق كل الكتب بلا استثناء، بما فيها كتب المسيحية، وقام بوضع كتاب اسمه: حرق الكتب، يتحدث فيه عن مذهبه، ثم قام بحرقه أيضا، وكلما كتب تعليمات في ورق لأتباعه، قام بحرقها، وهكذا.. المتشدد خاصة، لا يدمر الكتب فقط، لكنه يدمر ذاكرة الحضارة كلها، يدمر التاريخ ويدمر المعاني السامية، والعلامات الإرشادية، وما تركه الذين أنفقوا أعمارهم كلها من أجل تلك المعرفة.
إذن أستطيع القول إن قتال الكتب وهزيمتها، ونحرها أو حرقها بكل تلك المتع وفي أزمنة مختلفة من التاريخ، تمثل المعارك الأكثر دناءة للإنسان، المعارك التي يخوضها بسلاح مظلم، ويهزم فيها النور إلى حين، ودائما ما نجد أن الظلام يذهب في النهاية، وينهض النور من رقدته حتى لو طالت، ليغمر الدنيا من جديد. وللأسف الشديد، تأتي معارك تدمير الكتب دائما سريعة، وغادرة ولا يكون هناك من استعد لها، وأيضا دائما ما ترتبط بالتوحش والبربرية، ولذلك لن تجد من يتصدى لمنعها، لأنه لن يعيش طويلا ليفعل ذلك. وتحضرني أمثلة حديثة لشعراء وكتاب ربما أجرموا في بعض نتاجهم، وأساءوا الأخلاق، وتم الاتفاق على حرق كتبهم، كنوع من الاحتجاج على ما فعلوه، لكن أقول دائما أن ذلك لن يجدي، والأجدى هو محاورة من أساء، لربما يعود عن الإساءة ويعتذر، وأيضا يوجد سلاح المقاطعة، وهو أن تهمل كتبه ولا يتناولها أحد بالدراسة، والمراجعات، فتموت معنويا لكن تبقى على الرفوف، دليلا أخاذا على تحضر من أساءت لهم وعفوا عنها.
أمثلة حرق الكتب والمكتبات كثيرة، ويقول مؤلف كتاب: «مكتبات تحترق»، إن اليهود بالذات كانوا أكثر الأمم استفزازا للكتب، وأكثرها تشددا في تأديب كتب من يخالفهم، ومن الأفعال الغريبة، أن هناك يهود متدينون، أحرقوا كتب موسى بن ميمون، أحد منظري اليهود.
الخلاصة، وفي سبيل اقتناء المعرفة، لا بد من كتاب، وفي سبيل الحصول على كتاب، لا بد من صيانة ما نملكه وما نستطيع أن نملكه من كتب. المعرفة تبقى، وتعيش بعدنا، ولو حدث ودمرت لأي سبب من الأسباب، لا تبقى سوى الحسرة.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
الكتاب أصدرته دار محمد علي الحامي وهي النسخة الموجودة في المكتبات