عملنا في تناولنا لأصول السرديات الروسية على إبراز أن القراءات المتأنية، والواعية للمنجز السردياتي سواء في المرحلة الكلاسيكية أو ما بعدها، جعل الباحثين الروس يعودون إلى البويطيقا التاريخية الروسية للاستفادة منها في تطوير سرديات روسية من جهة، والانخراط في النقاش الدائر حول تجديد السرديات العالمية من جهة ثانية. هذا ما يسعى إليه الباحثون الصينيون المشتغلون بالسرديات حاليا، مع فارق أساسي، وهو أن الصينيين يرون أن لغتهم وتراثهم العريق لا علاقة له بالتراث الغربي. إنهم يحسون بأنهم شرقيون أساسا. وهذا الإحساس يجعلهم مثل العرب يؤكدون اختلافهم عن الغرب تاريخيا وثقافيا، ولكن بصورة مختلفة جذريا عما نجده لدينا نحن العرب. إن هاجس الانخراط في العصر على المستوى الأدبي بدأ في التبلور لديهم منذ سبعينيات القرن الماضي.
ساهمت عدة عوامل في هذه العملية، ويمكن إيجازها في ثلاثة: لعب الأكاديميون، أولا، في أقسام اللغة الإنكليزية، والمبتعثون إلى الغرب دورا مهما في الانفتاح على منجزات الدراسات الأدبية الأجنبية عموما، والسردية خصوصا، وتحصيل معرفة شاملة بما يتحقق فيها. وكان، ثانيا، لترجمة الدراسات السردية الأصول (ترجم جنيت مثلا سنة 1990)، إلى جنب الدراسات المتصلة بالسرديات ما بعد الكلاسيكية إلى الصينية، دوره في إشاعة مناخ يسمح بتداول المفاهيم والتصورات والاتجاهات المختلفة. وساهم الأكاديميون الصينيون في الكتابة بالإنكليزية، من ناحية، إلى جانب من ظلوا على اتصال بالجامعات الأمريكية، من ناحية ثانية، مع نظرائهم في مؤتمرات، ومنشورات تروج لأعمالهم وتجعلهم جزءا من الأعمال السردية العالمية في انتشار الدراسات السردية الصينية. أما العامل الثالث فيكمن في الواقع الذي عرفته الجامعة الصينية، على المستويات كافة من تطور جعلها ترتقي إلى مصاف الجامعات العالمية، وكان للدراسات الأدبية واللغوية والسردية الحظ الوافر من ذاك التطور.
سيلاحظ القارئ المتأني أنني في كل هذه العوامل ركزت على الأكاديميين، وليس على النقاد الأدبيين، كما هو السائد عندنا. وحين نقول كلمة الأكاديمي نحملها بالأبعاد الحقيقية للممارسة العلمية التي يرفضها الأكاديميون العرب. إن تشديدي على العلمية في دراسة الأدب والسرد كان منطلقه وعيي بالأسس التي انبنت عليها البنيوية التي لم نستفد من إنجازاتها التي كان، من الممكن، أن تدفعنا إلى إعادة النظر في تصورنا للجامعة، وللعمل العلمي، وخاصة في مضمار العلوم الإنسانية والاجتماعية التي لم تتأسس عندنا إلى الآن.
كانت الدراسات الأدبية عموما إلى السبعينيات من القرن الماضي تتركز على القراءة التاريخية، وعلى حياة الكاتب، وعلاقته بالواقع الذي يعيش فيه، بحثا عن المحتويات والمضامين وعلاقة كل ذلك بمواقف الكاتب. لكنه منذ بدايات الثمانينيات سيطرأ تحول كبير في الدراسة الأدبية التي ستنفتح على المنجزات الغربية التي هيمنت مع الحقبة البنيوية. ورغم تأخر تبلور المناهج الجديدة إلى بداية الألفية الجديدة، فقد كانت هذه الحقبة مجالا للبحث والسؤال، والاستكشاف، وخوض مغامرة التجديد.
لم يكن التأكيد على الخصوصية الشرقية لدى الصينيين حائلا دون تفاعلهم مع النظريات الغربية المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية والأدبية واللسانية. بل على العكس نجد من أقدم على ترجمتها وتأهيلها إلى اللغة الصينية، رغم الصعوبات الجمة التي يقرون بها، وهم يجتهدون في الفهم والتفسير، وتدقيق المصطلحات بالوقوف على الاختلافات الدلالية في رموز الكتابة الصينية، من جهة، والعمل على المساهمة في بلورة تصورات سردية لا تقطع مع التراث الصيني، وهي تنفتح على المنجزات الغربية. وكانت حصيلة ذلك تقديم دراسات صينية تنهل من السرديات البنيوية وما بعدها، على السرد الصيني القديم، وعلى الإبداعات السردية الصينية المختلفة بغض النظر عن الزمن (قديمة، معاصرة) أو الوسيط (كتابة، رسم، صورة، رقمي، وغيره). وكان أن برزت في السرديات الصينية مختلف الاتجاهات التي تعرفها السرديات ما بعد الكلاسيكية: سرديات عامة، معرفية، تاريخية، مقارنة، أسلوبية، بلاغية، رقمية، غير طبيعية، وغيرها.
يبدو لنا ذلك بجلاء في حضور الكثير من الأسماء الصينية المشتغلة بالسرد ضمن لائحة الأعلام الذين يعترف لهم بالإسهام في تطوير السرديات المعاصرة، سواء من خلال مؤلفاتهم أو دراساتهم التي تتضمنها أعمال مشتركة، أو إشرافهم على مؤتمرات، وتنسيق دراسات في السرديات. نذكر من بين هؤلاء، على سبيل الذكر لا الحصر، الباحثة دان شين (Shen Dan) وبيو شانغ (Shang Biwu)وسيو يان فو (Xiu Yan Fu) وسواهم. لقد اهتم هؤلاء بالبحث في السرديات الصينية، وعلاقتها بالسرديات الكلاسيكية وما بعدها، وبمختلف الاتجاهات البلاغية، وغير الطبيعية، والمعرفية. ويتم الاستشهاد بأعمالهم المختلفة، كما أن لهم تأثيرا في بلدهم الصين، من خلال تأطير بنيات الأبحاث الأكاديمية، وإقامة مؤتمرات يستدعون إليها باحثون أجانب. يدعو تسياو جوا تسياينغ (Qiao Guoqiang) (2015) إلى محاولة بناء نسخة صينية للسرديات تتيح فهما دقيقا للسرد الصيني. كما أن ييهانغ زاهو Yiheng Zahoo) (2020) ) يسجل «أن انبثاق السرديات كان بمثابة ظاهرة مميزة لتطور السرديات في الصين».
من الدراسات الرائدة في مجال الدراسة السردية نذكر الكتاب الذي أشرف عليه أندريو هـ. بلاك المختص في الأدب الصيني، «السرد الصيني: مقالات نظرية ونقدية» (1977)، وساهم فيه باحثون من الصين وخارجها. كان من بين الأسئلة التي طرحها بلاك تتصل بما إذا «كان لانتقال مصطلح «سرد» الغربي إلى الأدب الصيني، باعتباره جامعا لمختلف أصناف المواد الأدبية، يوفر أداة تحليل نقدي صالحة لمقاربة السرد الصيني؟»، وبمعنى آخر: «ما هي الحدود المفهومية لمقولة «السرد» في السياق الصيني»؟
عمل بيو شانغ في دراسته «السرد الصيني: تقليد، تطوير، آفاق» (2022) على تحليل هذه القضية بطرحه أسئلة تدقيقية: «ما هي السمات المميزة للسرد الصيني؟ وبم يختلف عن نظيره الغربي؟ وإذا كانت «نظرية السرد» نظرية لأي سرد، لماذا يجب أن يكون لدينا مصطلح لمختلف ما يسمى بـ«السرد الصيني»؟ وبما يمكن أن تختلف نظرية السرد الصينية عن مثيلتها الغربية»؟ واستجمع كل هذه الأسئلة في آخر هو: «ما هو السرد الصيني»؟ وبيَّن بعد ذلك أن دراسته ستبحث السرد الصيني من خلال التركيز على: معالجة الاستعمالات التاريخية للمصطلح، وتطورها، من جهة، ومناقشة السرديات الصينية في نطاق ضيق بالإحالة على التقليد السردي الصيني، من جهة ثانية، وأخيرا، طرح السؤال عن علاقة السرديات الصينية بنظريتها الغربية؟ وبعد إجابته عن مختلف هذه الأسئلة قدم توجيهات ممكنة لاستكشاف آفاق السرد، والسرديات في المستقبل.
إن محور هذه الدراسة في رأيي، يكمن في انطلاق الباحث من الاتفاق مع السرديين بأن السرديات نظرية للسرد، وبدون تحديد دقيق للسرد لا يمكن أن تكون هناك سرديات. يجره هذا المنطلق إلى تأكيد أن الحديث عن «سرديات صينية» يتطلب تحديد السرد الصيني. وإذا كان الأكاديميون في الغرب يجمعون على تعريف السرد الغربي، فهل تعريف «السرد الصيني» يتلاءم مع تعريفاتهم؟ ومن خلال قراءة تاريخية يؤكد أن مصطلح السرد متفرد في الصين عما هو في الغرب. ويحيل على دراسة لرائد السرديات الصينية سيو يان فو في كتابه عن السرديات الصينية (2021)، ملخصا دعوته إلى ضرورة الرجوع إلى التقاليد السردية المختلفة، وتأكيد التفاعل المثمر والمتكامل بين السرديات الغربية والصينية.
فهل فكرنا في سردنا؟ وفي سردياتنا؟
*كاتب من المغرب
إن شيوع العقلية المحافظة وخوفها المبالغ فيه على الذات من الآخر وعدم القدرة على التواصل الفعال معه هو السبب الرئيس فيما وصلنا إليه من ترد وضعف في المجالات الأدبية والعلمية والإنسانيةعلى السو اء.