يجلس أمامي في القطار أب يرافق ابنته المنغولية طفلة من ذوات ما يسمى بمتلازمة داون Down Syndrome بنية صغيرة رائعة تبتسم لي وكأنها تريدني أن أفكّ الانكماش الملازم لجبيني. انكماش يجعلني في ذهن من يراني وكأنّي غاضب أبدا. ابتسمت لها فانشرحت وأخذت تقرب يدها منّي كي تلمسني، غير أنّ والدها أمرها بأن تترك «عمها» الذي هو أنا في سلام. أنا لا أدري لمَ يتسمّى من كانت لهم هذه المتلازمة بالمنغوليّين، ربما كان في هذه التسمية إحالة على تشابه مزعوم بين سكان منغوليا والوجوه الطرازية التي تكون لأصحاب متلازمة داون. لا تتكلم الطفلة جيدا، لكنها تنطق بكلمات وتركب جملا مبعثرة يعسر فهمها. هي بلا شكّ قادرة على فهم ما أقول وما يقول والدها أكثر من أن تعبر هي عمّا تريد.
يمشي القطار سريعا ولا يلوي على شيء في هذا المساء الشتوي البارد، وأنا أبحث عن مكان أدفن فيه بصري بعيدا عن هذه الطفلة، غير أنّي لا أستطيع إبعاد عينيّ عنها. أفتح النت وأبحث عن الأطفال الذين أصيبوا بهذه المتلازمة، وبما أنّي لسانيٌ فقد وجّهت بحثي إلى المعطيات الإدراكية المتعلقة بإنجاز هؤلاء الأطفال للكلام ولمعالجة ذهنهم له. أقرأ أنّهم يعانون من صعوبات جمة في إنتاج الكلام فلهم مشكلة في الإنتاج المعجمي، وفي فهم نحو الكلام وفي تبيّن الوظيفة البراغماتية. يكفي أن نشير هنا إلى أنّ العسر في هذا البعد التداولي يجعل هؤلاء الأطفال يحملون على الحقيقة عبارات لا علاقة لتداولها بمعناها الخطي. فجملة من نوع يجري وراء الرغيف، أو من نوع يخاف من ظله تفهم حرفيا: أنّ هناك مطاردة للرغيف أو أنّ الشخص يمكن أن يخاف من ظله.
أنظر إلى نافذة القطار وأتمثل المشهد على طريقة الطفلة المنغولية خبزة تجري ورجل مسكين يلاحقها تستدير يمنة يستدير يسرة ثم يذهبان في اتجاهين مختلفين.. أقول في نفسي بربط عجيب: لا شكّ في أنّ من يجري من ظله خوفا هو أشبه الناس بمن يجري وراء الرغيف.. أتعبتني أيّها الذهن الخبيث بهذا الربط العجيب.
تشير الطفلة إليّ وإلى نافذة القطار وتقطع كلاما بدا لي منه شيء مفهوم.. أجبتها وأنا أشير وكأني أدخل معها في حوار فعليّ جزء منه إشاري وجزء لفظي.. ما الذي يجعل هذه الطفلة تدخل في تواصل إشاري ولغوي مع غريب مثلي، رغم أن التواصل يكلفها جهدا كبيرا؟ ربّما لو كانت الطفلة التي تجلس قبالتي عادية لما حاولت الاقتراب مني والجلوس على الكرسي الفارغ إلى يميني ولانشغلت عني. قلت لها: هل تريدين هاتفي ومددت لها الجوال.. كان والدها يراقب مبتسما أشارت بيدها إلى والدها إشارات لم أتبيّنها وسمّت اسما بشكل لم أتبينه.. أعادت الصوت والإشارة فقال لها والدها: خذيه لكن احذري أن تكسريه.. كان يتكلم ويستعمل الإشارات.. سارعت إلى يدي تطلب الهاتف.
مددت لها الهاتف وأنا أعرف أنها لن تصيبه بأي شيء وحتى تطمئن التفت إلى الناحية الثانية حيث الشباك، وحيث خيالات الشجر تمرّ سريعة عبر النافذة ، تمرّ أسرع من الذكريات التي تمرّ سريعا الساعة في ذهني.. تذكرت قريبا لي مصابا بالمتلازمة نفسها، وكيف كان يعبث بالكلام يحفظه وينتجه بشكل مخالف للمألوف.. كنا ونحن نسمع ما يقول نضحك على توليفه العجيب للكلام، وكنت حين لا أفهم ما يقول أسأل والدته كانت تعرف بالتفصيل ما يريد أن يقول، ولا يقوله إلاّ محرّفا. يكمن الإشكال في التمثيل الصوتي وقد يكون في التخزين وما نراه نحن شكلا محرّفا في الأداء يراه هو الشكل الصواب فيه. غير أنّ هذا التعثر في النطق لم يرافقه إلى مرحلة متقدمة من سنّه، إذ حدث ضرب من الوضوح وزوال الغموض وهذا يلحظ في الإصلاح الذاتي للأخطاء لكنه إصلاح يعدّ بالأشهر ولا يعدّ باللحظات مثلما قد يفعله المتكلم العاديّ.
فكرة المغول هذه فكرة عربية إسلامية يعود تاريخها إلى العصر الوسيط حين هوجمت الخلافة من الأطراف المشرقية، وحاول القادمون من أقصى الشرق بلبلة العظمة الثقافية.
أذكر حادثة عجيبة.. شكت جدة هذا الصبي المنغولي إلى جارتها العجوز، أنّ حفيدها تأخر نطقه… نصحتها جارتها أن تضع في فم الصبيّ صوصا (فرخ دجاج) وحين يصوت الصوص في فيه فإنّه سوف ينطق بعدها بمدّة.. وضعت جدتي الصوص في فمه فظنّه شيئا يؤكل أراد التهامه ولم تنقذ جدّتي الصوص إلا بشق الأنفس. كانت أسطورة جميلة من أساطير النساء اللائي يملكن الحلّ العجيب لأعوص مشاكل النطق: حين يصوت الفرخ في فم الصغير ينبت الكلام في فيه.. أسطورة جميلة أنّ الكائنات يقلد بعضها في التصويت بعضا، وأنّ الأصوات الحيوانية يمكن أن تكون سحرا يفكّ عن اللسان البشري عقدته. الحيوان في الأساطير القديمة كان ناطقا ولا يوجد في تفكير الجدة أنّ البشر يمكن أن يتعثر النطق لديهم. لم يكن الناس يرون هذا الكائن المميز مختلفا لا في خلقه ولا في توريثه الوظائف والأنشطة من كلام أو غيره.
أرجعت إليّ الصبية الهاتف لم يكن مغريا في ما يبدو.. عادت لتجاور والدها على الكرسي وتنام عنده فالرحلة ما تزال طويلة على صبية صغيرة لا تعرف، يسافر بها القطار ويتعثر في لسانها الكلام.. مسكين هذا الدماغ كم يتعب.. يعالج الكلام ويعالج الطعام ويعالج المشي ويعالج الأحلام وحين يتعطب عليه أن يمارس دوره حتى بشكل متعثر.. مسكين هو الذهن كيف يشحن فكرا وأحلاما وكلاما.. جلست مسافرة غريبة دخلت للتو.. نظرت إلى الفتاة المنغولية النائمة بعين رحيمة.. وحدّثتني عن طيبة هؤلاء البشر وعن نقاء سريرتهم.. ثمّ قالت.. المغول، الذين شبهت بهم هذه الطفلة طيبون غير أنّهم إن سكنوا ذهني أبادوني..
فكرة المغول هذه فكرة عربية إسلامية يعود تاريخها إلى العصر الوسيط حين هوجمت الخلافة من الأطراف المشرقية، وحاول القادمون من أقصى الشرق بلبلة العظمة الثقافية. ترسّخ في الذهن أنّ المغول قوم لا يبقون ولا يذرون، لكن ترسّخت أيضا هذه الصورة لدى من سمّى هذا الشكل من العيب الخلقي الوراثي منغوليا. يطول الزمان ونحن، في هذا القطار، سجينو المسافات المتباعدة أنظر إلى جارتي وهي تصارع أفكارها المغولية وأنظر إلى الطفلة الصغيرة وهي تحاول أن تنام بنصف عين وتنظر إليّ بنصف عين…
فتحت الصبية عينيها وشرعت تتحدث كما يتحدث كل الأطفال علنا عن أشياء سريّة وحدهم الأطفال من يكشفون أسرارهم بلغاتهم البسيطة ويبوحون بها، وبدلا من أن نسمعهم بصدق نعتقد أنّهم يهذون. تشير الطفلة بيدها إليّ وتقول عبارة وحيدة أعتقد أنّها تحريف لاسم علم تعرفه هي تعتقد أنّه اسمي.. في الاسم حرفان مكرران هما العين والزاي.. أنا عزيز.. شكرا لك.. شكرتها فابتسمت أدارت يدها في اتجاهين تريد أن تأخذ من يد أبيها المفاتيح.. كانت كلمة المفاتيح غامضة لكنها مفهومة.. خيالات الكلمات تهدي الذهن إلى الكلمات الحقيقة فيعيد بناء جزء من أشكالها الأصلية القادرة على أن تعرفك بالأشكال التامة..
أنزل من القطار وأترك الصبية مع أبيها على الكرسي، وتنزل المسافرة التي عبثت بها أفكارها غبث المغول بالسلامة العربية الموهومة.. تمشي أمامي وهي ما تزال تفكر في غرباء استوطنوا ذهنها… أمشي وأبحث عن وجه مسالم لا حرب فيه وعن ذهن يبني العالم بسحر، أمشي ويبدأ المغول بفتح بوابة ذهني الشرقية وينسحب الحراس..
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
أنا أيضا أحببت هذه الطفلة البطلة الصغيرة التي رافقتك في رحلتك، شكرا على نقل هاته الصورة الجميلة أستاذي!
قراءة كتاباتك ممتعة جدا، تشد القارئ شدا، شكرا على الامتاع