يمكن أن نكتب المكان بأدبية حميمة، خارج الرواية وقريبا من حكايته التي تسكننا ونسكنها، نشعره، ويتملّكنا إحساس طاغ بأنّه ليس ملكية، بل هو علاقة، هو الحبل السرّي الخفي الذي يربطنا بـ«نحن»، تلك التي كانت سوف تكون دون وجهة أو هوية لولا ذلك المسمّى «مكانا» الذي علّمها معنى الارتباط بالأشياء.
يشير الباحث الجزائري في العمارة عبد العزيز بركاني، إلى أهمية الأمكنة كمصادر Sources، وجوانب حسية غير البصرية في علاقتها بالمكان، كما يشير إلى جانب مهم في العلاقة بين الأدب والمكان، فمن ناحية الأدب، تلك «المصادر» التي هي الأمكنة، تروي كينونة الإنسان والمتخيّل المتعلّقين بالمعيش. عرّج الباحث على تجربته العملية بوجوده العضوي في المكان مفصولا عنه بصريا، محاولا اكتشافه عن طريق الحواس الأخرى.
موسيقى المكان.. روائح الذّاكرة
كان الجو معتدلا ينفخ فيه الفضاء نسمات فيها من بقايا حرارة الصّيف وبدايات طراوة الخريف، كنت أسمع حركته تدبّ في حفيف الأشجار وخشخشة أوراقها على الأرض وهفهفة عباءتي فوق جسدي، الذي تراخت كتلته متهادية، مصغية السمع إلى موسيقى المكان، حينها قلت لصديقي: إنّ المكان ليس جدرانا وكفى، إنّه الصوت والرائحة والضوء، رائحة المكان هي ما ينسج له صورة الحياة التي نتبادل معها مسار أنّنا كائنات لها إحساس، لم يستطع أن يبتلع هذا المعنى إذ عقّب بأنّ رائحة المكان هي أمّي وأبي، لا مشاحة في ذلك، لكن لم يعد مدخل القصر «باب سيدي عيسى» يعني لي ما كان يعنيه في طفولتي، وخصوصا في عصريات الصيف، حينما يلبس المكان بقايا لون فضّية القيلولة وطلائع ذهبية المغيب، المكان في الشتاء ينكمش ولا نشعر بسلطانه، ربّما يعود ذلك إلى البرودة، أو إلى المدرسة التي كانت أوقاتها تضايقنا، لأنّها تحد من حركتنا ولهونا، أمّا في الصيف كنّا نرى المكان ينبثق وكأنّه يشهد ميلادا جديدا، تماما كما كنّا نستعيد حريتنا وانطلاقنا اللامشروط في اللعب واللهو والمشاكسة. غابت روائح الخضروات وخصوصا البقوليات، غاب زعيق الأطفال وهم يتناوبون الباعة، لشراء الحشائش للماشية التي كانت ربطتها تفوق قامة أحدهم، فتراه يتمايل محاولا أن يبعد أوراقها عن وجهه كي يرى الطريق، خضروات وحشائش من «الجْنَانَاتْ» (الجنائن) على ضفاف الوادي غرب المدينة، فباب القصر يحيل إلى أمكنة أخرى وليس إلى نفسه فقط، فنشعر بامتداد المكان واستمراريته في المتخيّل، الذي يمتلئ فضاءات وإضاءات وروائح أخرى، تتجلّى في الأمسية على السطوح حيث «القِرْبة» المشبعة قطرانا وربطة النعناع في خيشة مبلّلة فوقها والطين المرشوش لترطيب حرارته. فقد المكان هذا المتخيّل وتلك الرائحة وذلك الضجيج المسكون بالإنسان.
البعد الحسّي.. أجراس المكان
غاستون باشلار الذي كتب poétique de l’espace «جمالية المكان» حسب ترجمة غالب هلسا، يعنون فصلا بـ» البيت.. من القبو إلى العلية.. دلالة الكوخ»، خارج ما أراده باشلار ربّما، التدرج له معنى في قراءة المكان، تطور البيت من التقليدي إلى الحداثي، هناك وقع الخطى وهي تعتلي السلالم لبلوغ العلية، لكن الأهم هو الانتقال من القبو حيث الظل والصمت والسكون، إلى العلية حيث الضوء والحركة والصوت، هذا الاعتلاء يعكس التدرج في الإقبال على المكان، باعتباره حياة تكشف عن نفسها بالخروج من «وعي الصمت» إلى «وعي الصوت»، وهو ما تحدده ذاكرة نجيب محفوظ عن حي الحسين في القاهرة، إذ يروي في مذكراته أنّه حتى عند انتقالهم من هذا الحي كان لا بد أن يزوره بانتظام، حتى لو كان في سهرة لأم كلثوم، وكان الوقت متأخرا، لا بد من أن يمر على المقهى فيه ليكمل سهرته في حضن مكانه البدئي ثم يلتحق ببيته. في وعيي كمتلقٍ أربط الحسين بالمقهى وبصوت أم كلثوم، فأتمثل الحسين بين ضجيج الزبائن وموسيقى الطرب، فيغدو المكان صوتا وحركة. المكان دون علامة لا يشكّل شيئا، لكن هل تكون هذه العلامة مقصودة؟
تتشكل في اللاوعي والشعور العفوي بالمكان، ذلك الذي يجعل الإنسان يفضّل مكانه من بين ملايين الأمكنة في العالم، التي رغم جمالها إلا إنها لا تمثل له أي شيء. يتجوّل الإنسان في أفخم الأمكنة، ولكنه في لا وعيه هو يبحث فقط عن مكانه، وأبسط علامة توقظ فيه ذلك الحنين الذي ظنّه غفا إلى الأبد، فـإيقاع «الدبكة الشامية» يلقي بالمستمع إلى فضاءات الشام العريقة، إلى ريف سوريا ولبنان وعتاقة المكان الذي يتلوّى في الحارات، ورائحة «التبّولة» وعبق التّاريخ المقبل من أجراس الأمويين والعبّاسيين، فنيكوس كازنتزاكي في تلك الرقصة الشهيرة في رواية «زوربا»، سواء صورة أو سردا، تحيل مباشرة على مكان بعينه، وفق معطيات الحركة والصوت والإضاءة، والناس، هؤلاء الذين يمنحون المكان من حركات أجسادهم، فتلتقي سكونية المكان في استفاقة متدحرجة نحو الحركة، بغواية الجسد وهو يتشرّب إغراء الموسيقى اليونانية المقبلة من عراقة التأمل والفلسفة والعقل المتأرجح بين سقوف التاريخ، يندمج في ذلك الطقس الوجداني معبّرا عن مكان تكرّس بصوتٍ وحركة، فيصبح تعبيرا عن إحساس مؤنسن يتبادله المكان والإنسان، ولذلك جاهد وهو مريض في مستشفى باريسي، كما جاء في مقدّمة «تقرير إلى غريكو»، أن يملي على زوجته هيلين كلمات لقدّيس فرنسيسكاني: «قلت لشجرة اللوز: حدّثيني عن الله يا أخت، فأزهرت شجرة اللوز»، فالسّؤال عن الله حيث تزهر الشجرة يحيل المكان إلى معطى ديني، لكن الله غيب ويتجلى في آثاره التي خلقها، وتجلَّى المكان من خلال جمالية الشجرة ورائحتها، فإدراك المكان لا يمرّ عبر علاقة الملكية ولكن من خلال علاقات وجدانية روحية حسّية.
إنّ الهندسة المعمارية المؤسَّسة على النّفس الإنساني، التي تنتج المكان من عناصر بيئته، تجعل الإنسان أوّلا في مركز العلاقة بينه وبين المكان، أو هو الأصل في نقل المكان من السّكونية إلى الحركة والحسّية.
المكان الإنساني.. الذّاكرة جسر التواصل
إنّ الهندسة المعمارية المؤسَّسة على النّفس الإنساني، التي تنتج المكان من عناصر بيئته، تجعل الإنسان أوّلا في مركز العلاقة بينه وبين المكان، أو هو الأصل في نقل المكان من السّكونية إلى الحركة والحسّية. عرّف المعماري والمفكر الإنساني حسن فتحي صاحب مشروع «عمارة الفقراء» العمارة بأنّها ليست الجدران، بل الفراغ بين الجدران، بما يعنيه معنى الفراغ الذي يملأه الإنسان بإنسانيته أوّلا، وببصمته ثانيا، فهو الذي يضفي عليه الصبغة الاجتماعية والحسّية والجمالية والإنسانية، هو الذي يجعله يمتلك إضاءة معينة وصوت وحركة ورائحة، أي هو الذي يمنحه القيمة الوجودية، ولهذا لمّا مات طه حسين، كما تذكر زوجته سوزان في مذكراتها «معك»، وغادرت «رامتان»، كانت تقول: «أمّا أنا.. فربّما سأعود إليه وسأستمع آنذاك إلى صدى الأصوات الخرساء»، هناك دوما أصوات في المكان علينا أن نجدّ في البحث عنها، حتى لا يفقد المكان هويّته ككائن حيوي، لا يطاله الجمود إلا من حيث طبيعته الطينية أو الإسمنتية، أمّا ما عدا ذلك فهو كائن برائحته، وذاكرته، وأصوات ساكنيه التي انغرست في كل شبر منه، المكان يمتلك صوتا ولكنّه يُخنق أحيانا حين نهجره، أو حين نتعامل معه من خلال طبيعته الجامدة، لأنّه علاقة بيننا وبين ذواتنا تلك التي تُهرِّب صورة مخيالية له، فمهما اندثر رسم طوبه أو شكله فهو مستمرّ فينا وفي وعينا، ولذلك عاد العربي القديم إلى طلل بيئته يستجدي شكل وروح مكانه القديم.
أهملنا الأمكنة لأنّ قطيعة ما سرت بين الذاكرة والإحساس بالمكان، فسوزان أدركت ذلك حينما قالت: «ربّما سأعود..»، ستعود في المستقبل لكن من الماضي وإليه، «رامتان» هي الماضي، فهناك علاقة بين الذاكرة والمكان، تعود لتستمع «صدى الأصوات الخرساء»، واستعملت الصدى لأنّه يشمل المكان بكليته، صدى صوت طه حسين ومؤنس وآمنة وأبنائهما وصوت الكروان وروائح النباتات والغرف المتلألئة تحت ضوء النّهار المشع من الحديقة، إحساس بالمكان الحسّي.
كان القصر القديم في مدينتي الجنوبية في طفولتنا لا تغلق أبواب بيوته إلا عندما يحل المساء، وفي وقت متأخّر منه، والزائر يطرق الباب ثم ينادي: «مالِينْ الدار»، أي أصحاب البيت، ليس هناك تسمية للأم باعتبارها الماكثة في البيت، أو أي اسم آخر، ورود النداء بصيغة المكان «الدار»، يكشف عن أنّ أهل القصر كانوا يعتبرون المكان كائنا حيويا يمتلك روحا وحياة، حركة وصوتا، يسمع ويجيب، ولذلك عندما زار ثيودور كاليفاتيدس اليونان بعدما هجرها إلى السويد، تمشّى في غابة الصنوبر الحجري هو وزوجته، كتب في «حياة أخرى»: «غابة طفولتي.. كان أوّل ما أدهشني الرائحة. تذكّرت حدّة عطر صمغ الصنوبر..» الرّائحة تلك التي تجعل للمكان معنى، حتى عندما أحبّ كاليفاتيدس الجلوس في المقبرة «ثملا بعبق الربيع والموت.. مقتنعا تماما بأن هناك معنى لكل شيء..»، لقد منح المقبرة حياة بعدما أخذ من رائحة الرّبيع ونثرها على الموت، هذا المعنى، حين تفقد بوصلة اتجاهنا مسارها إليه، نفقد الإحساس بالمكان والقيمة التي يمثّلها، ومن ثمّة نُزيل آخر وصالٍ بيننا وبين الذّاكرة.
كاتب جزائري
مقال رهيف وعميق معاً