يشيع في بعض البلاد العربية والإفريقية نعت المنظمة الدولية للفرنكوفونية بأنها حصان طروادة وأداة للهيمنة الفرنسية. لكن في هذا النعت الشائع إغفالا لبعض الحقائق التي يكفي أن نذكر منها اثنتين: الأولى أن فرنسا لم تعد لها القدرة على الهيمنة حتى لو أرادت، وأن نفوذها النسبي لا يزال في تقلص مستمر، بدليل تصاعد مشاعر العداء ضدها لدى مواطني بلدان مثل مالي وغينيا وبوركينا فاسو (ولو أن هؤلاء صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار بسبب توهمهم أن روسيا، ممثلة ميدانيا بميليشيا فاغنر، هي صديقة للأفارقة). والثانية أن إطلاق حركة الفرنكوفونية قبل خمسين سنة لم يكن ببادرة من فرنسا، وإنما ببادرة من رئيس السنغال ليوبولد سيدار سنغور. وقد اختمرت الفكرة في ذهن شاعر الزنوجة أواخر الستينيات ولم تر النور إلا بعد أن أقنع زعماء تونس وكمبوديا والنيجر، الحبيب بورقيبة ونورودوم سيهانوك وحاماني ديور، بجدواها الثقافية بالنسبة لدولهم الوليدة التي كانت آنذاك، ولا تزال إلى اليوم، تخوض معركة التنمية ضد ثالوث الجهل والفقر والمرض. وكان ديغول قد عارض المبادرة في البدء لأن مجرد تجمع الدول الإفريقية ولو نظريا في كتلة، ولو فضفاضة، أثار مخاوفه من أن تفقد فرنسا الوزن الراجح الذي يضمنه لها ثبات معادلة العلاقات الثنائية.
فرنسا لم تعد لها القدرة على الهيمنة حتى لو أرادت، وأن نفوذها النسبي لا يزال في تقلص مستمر، بدليل تصاعد مشاعر العداء ضدها لدى مواطني بلدان مثل مالي وغينيا وبوركينا فاسو
ولهذا فقد ولدت منظمة الفرنكوفونية ولادة سياسية تماما مثلما كان الشأن مع رابطة الكومنولث (الأنغلوفونية). كلتاهما تتخذان من وحدة اللغة، أو التشارك الجزئي فيها، أساسا للتكتل الإقليمي أو الدولي الساعي لتحقيق بعض المصالح المشتركة. والبريطانيون والفرنسيون هم اليوم أول من يعلم أنه لم يعد لبريطانيا في رابطة الكومنولث ولا لفرنسا في منظمة الفرنكوفونية أي مرتكزات واقعية لزعم التحكم أو الهيمنة. فقد انقضى زمن الطموح الامبريالي وصارت كلتا الدولتين، الاستعماريتين سابقا، مدركتين لمحدودية قدراتهما ونفوذهما. إذ الهند مثلا هي اليوم أقوى من بريطانيا. كما أن سويسرا وإقليم كويبك أكثر تقدما من فرنسا، علاوة على أن بلدانا إفريقية فرنكوفونية مثل الغابون والتوغو قد انضمت رسميا إلى رابطة الكومنولث (أي نعم!)، بينما لا تزال رواندا تراقص فرنسا وتراوغها بإجادة اللعب على حبلين، بل أكثر. هذا رغم أن فرنسا أيدت في قمة يرفان عام 2018 انتخاب الرواندية لويز موشيكيوابا أمينة لمنظمة الفرنكوفونية، كما أيدت منحها ولاية ثانية في قمة جربة الأسبوع الماضي. لماذا؟ أملا في استرضاء بلادها التي قررت منذ 2010 الاستغناء عن الفرنسية واتخاذ الإنكليزية لغة رسمية للتعليم!
وقد آن الأوان للإقلاع عن وهم انحياز فرنسا لقيم الديمقراطية وأخذها قضايا الحقوق والحريات عندنا مأخذ الجد. إذ تكفي نظرة عجلى على المواقف الفرنسية من أحداث العقد الأخير في تونس وليبيا، على سبيل المثال لا الحصر، للوقوف على حقيقة أن فرنسا الرسمية لا ترى أن مصلحتها القومية تتوافق بالضرورة مع مصالح الشعوب الإفريقية في إقامة أنظمة ديمقراطية تحتكم لقيم الحكم الصالح وآليات المحاسبة الشعبية والقانونية.
أما في الجوهر، أي في ما يتجاوز السياسة إلى الثقافة، فإن أنسب عنوان لقمة الفرنكوفونية الأخيرة في جربة هو ذلك الذي سبق أن تصدر غلاف عدد مايو من مجلة «بريد الأطلس» المعنية بشؤون المغرب العربي في أوروبا. فقد أجرت المجلة الفرنكوفونية تحقيقا ميدانيا عن مدى ممارسة سكان تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا للغة الفرنسية في حياتهم اليومية أو في معاملاتهم الثقافية وعاداتهم القرائية والكتابية، وخرجت بنتيجة واقعية واضحة أوجزها عنوانها البليغ: وداعا موليير!. بل إن المجلة استعارت أحد مصطلحات العنصريين الذين يزعمون أن ثمة غزوا إسلاميا (مغاربيا وإفريقيا) لفرنسا بدأ يؤول إلى «تعويض» ديموغرافي للأهالي بالغزاة، فتساءلت: هل هو التعويض الكبير؟ أي هل أن المغرب العربي يمر الآن بفترة لغوية انتقالية تتمثل في التعويض المتسارع للفرنسية بالإنكليزية؟ سؤال يغلب فيه التوكيد على الاستفهام. ذلك أن الفرنسية قد تراجعت أشد التراجع في المغرب العربي فلم تعد هي اللغة السائدة لدى الأجيال الصاعدة. لكن إذا كان شبابنا قد حسموا أمرهم اللغوي وأهاب كل منهم بصاحبه «ودّع موليير إن الركب الرقمي والتكنولوجي مرتحل»، فهذا لا يعني بأية حال أن إتقان لغة شكسبير يوشك أن يعمّ في ربوعنا. بل الأدهى أن العربية ذاتها قد صارت محاصرة مهددة، يتساوى في خطر فقدها المغرب مع المشرق والخليج.
كاتب تونسي
بدون أي تحيز أو رغبة في الدفاع عن الفرنسية، لكن المشكل ليس فيها كلغة بل في طريقة تدريسها…نحن بشر، صحيح قد نتفاوت في مهاراتنا الادراكية والتعلمية، لكن الثابت أن إتقان أي لغة سماعا وكتابة وتكلما يقتضي تحقق بعض الشروط ومنها: تعلمها والإلمام بقواعدها في سن مبكر ، ثم ممارستها بشكل قد نقول يومي، وحبذا لو كان ذلك تحت إشراف أشخاص يتقنونها…وغير ذلك تبقى سرعة الاستيعاب والمجهود الفردي لإتقان هذه اللغة، و الذي يحفزه حب المتعلم لها، هي السبل الوحيدة الكفيلة ببلوغ درجة عالية من إتقانها واستدراك أي تأخر في تعلمها…الفرنسية فقط ضحية التاريخ وكذلك رغبة بعض الفئات في البلدان المغاربية في احتكارها بكل ماتخوله من مزايا، وهو ما تفطن له بعض أولياء الأمور الذين يرسلون أبناءهم إلى المدارس الخصوصية في سن مبكر رغم عدم وجود فرق محسوس مع نظيرتها العمومية…كما لا يجب التوهم أن هذه الفئات تريد إدخال الإنجليزية تحقيقا للمساواة، فهي لم تفعل ذلك إلا بعد أن قطعت أشواط في اكتساب هذه اللغة، وستكرر نفس الأسلوب الخاطئ في تدريسها كما فعلت مع الفرنسية…ولا تقل لي أن هاته الأخيرة أصعب من الانجليزية أو أن قواعدها أعقد من العربية التي لا تملك إلا ميزة أنها لغة أم.
مجرد تساؤل
هل يستوون؟
هناك قاعدة أمقتها حتى النخاع، عادة ما يتبناها المتحدثون على اختلاف مهنهم. وما دمنا في حضرة كأس العالم استنبط منها مثال على ذلك.
عندما هزمت السعودية الأرجتين، نَسب المتحدثون النصر للعرب أجمعين، وأحيانا لبلد المتحدث، وعندما هُزمت قطر، نُسبت الهزيمة للقطريين وحدهم، وخرج حتى من تشفي فيهم.
عكس الحقيقة، حاول المقال أن يضع البلدان المغاربية في نفس الكفة من حيث علاقتهم بالفرنسية.
فالجزائر بدأت التعريب غداة استقلالها، عربت المدرسة بأطوارها الثلاث وكثير من التخصصات الجامعية، كما تم تعربت العديد من الوزارات كليا، منها وزارة التربية والدفاع والعدل.
وأخر مسمار في نعش الفرنسية، قرار رئيس الجمهورية لتعميم الإنجليزية في المدرسة، وتبعه قرار وزار التعليم العالي بـ “انطلاق التدريس باللغة الانجليزية بالجامعات الموسم الجاري”. ولولا الضغوطات من داخلها وخارجها لكانت “الفرنسية” في خبر كان.
والأهم من ما سلف، أن 99% من الجزائريين متحمسين للتمكين للغتهم، والتخلي عن الفرنسية لصالح الإنجليزية.
أما الدول المغاربية الأخرى فعضويتهم في منظمة الفرانكفونية، ليس فقط تمنعهم من التفكير في المس بالفرنسية، بل تلزمهم بالدفاع عنها والتمكين لها كما فعل المغرب بإلزام التدريس بها.