في خضم التجاذبات الحزبية والدوامة السياسية، المرافقة لتشكيل حكومة نتنياهو السادسة، وجه الجيش الإسرائيلي رسالة تحذير مبطنة، جرى تداولها إعلاميا بتوسع ومفادها أن الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية تتفاقم وأن عمليات المقاومة في ارتفاع متواصل منذ بداية الموجة الحالية في مارس/آذار الماضي. ويشير التقرير العسكري الرسمي والمعلن، الذي نشر الاثنين الفائت، الى أن القيادة الأمنية العليا في إسرائيل قلقة جدا وتتوقع تصعيدا خطيرا في الضفة الغربية، ما يستوجب من الحكومة الجدية اتخاذ جانب الحذر في التصريحات والأفعال، نظرا لهشاشة الأوضاع واحتمال اندلاع مواجهة شاملة وانتفاضة جديدة. وطفت على السطح، هذا الأسبوع، بوادر توتر بين المؤسسة الأمنية وقيادات اليمين المتطرف، التي تتأهب للجلوس على كراسي اتخاذ القرار وتصوب نحو إخضاع إدارة الشأن الأمني لإرادتها السياسية، ما بدأ يشكل مصدر إزعاج لقيادات الجيش والشرطة.
التقرير الذي نشره الجيش الإسرائيلي، هذا الأسبوع، غريب نوعا ما لأنه جاء بلا مناسبة أو حدث خاص أو موعد متعارف عليه. وحمل التقرير مقارنة بين الأحداث والتطورات الأمنية عام 2021، وعام 2022، الذي لم ينته بعد، والرسالة أن الأوضاع خطيرة والأرضية جاهزة لانتفاضة جديدة وهي لا تحتمل تصريحات وتصرفات شعبوية لأقطاب الحكومة الجديدة، وكذلك رجاء الحكومة الجديدة بالتنسيق مع المؤسسة الأمنية بكل ما يخص الضفة الغربية، حتى لا تشتعل الدنيا تبعا لما قد يحدث في المسجد الأقصى، على سبيل المثال.
جاء في التقرير أن هناك تصعيدا واضحا في كم ونوعية عمليات المقاومة على كافة الأصعدة. فمنذ بداية عام 2022 وصل عدد العمليات الى 281 عملية (إطلاق نار، عبوات، طعن، دهس وغيرها، منها 239 استهدفت قوى الأمن الإسرائيلية) مقابل 91 عملية في عام 2022. وجاء في التقرير أيضا أن عدد الشهداء الفلسطينيين وصل إلى 136 منذ بداية هذه السنة (تقارير وزارة الصحة الفلسطينية أكثر من 200) مقابل 76 العام الماضي، وجاء فيه أيضا أن عدد القتلى الإسرائيليين وصل إلى 31 قتيلا، وأن حصيلة أحداث ما يسمى «الإرهاب الشعبي»، أي إلقاء الحجارة ومواجهات غير مسلحة أخرى ارتفعت من 2946 السنة الماضية الى 3382 حادثا في هذه السنة، ما يعكس شدة الغضب الشعبي. المؤشر الوحيد، الذي لم يطرأ عليه تغيير هو الاعتقالات، التي بقيت بمستوى 3000 معتقل سنويا، حتى في ظل الارتفاع الحاد في العمليات. وفي إحاطة غير معلنة، عبر ضابط كبير في قيادة المنطقة الوسطى للجيش الإسرائيلي (المسؤولة عن الضفة الغربية) عن قلقه من الانتقال إلى الأسلحة النارية في الموجة الانتفاضية الجارية مقارنة بالسكاكين في الموجة السابقة عام 2016، وقال: «حتى لو لم يخرج 30 ألف فلسطيني للتظاهر، يكفي أن يخرج مئة من المسلحين للقيام بعدة هجمات لنكون في حالة مختلفة تماما. هناك اليوم كميات هائلة من الأسلحة الصالحة للاستعمال في كافة القرى والمدن الفلسطينية، والأرضية جاهزة لاستعمالها». وللتحذير من إسقاطات المس بالتنسيق الأمني أضاف: «قسم من التنظيمات (المقاومة) الجديدة، تشكلت خلال فترة تجميد التنسيق الأمني بعد إعلان ترامب عن صفقة القرن».
ما يقلق إسرائيل حقا هو جيل فلسطيني جديد متحفز لمقاومة الاحتلال وقادر على أفعال غير تقليدية
في السياق ذاته، شاركت قيادات أمنية إسرائيلية من الشاباك وشعبة المخابرات العسكرية ووحدة العمليات والمنطقة الوسطى في جلسة خاصة في الكنيست للجنة الخارجية والأمن المؤقتة، التي يرأسها حاليا الجنرال يوآف جالانط، المرشح الأقوى لتولي منصب وزير الأمن الإسرائيلي. واستعرض ممثلو الأجهزة الأمنية التصعيد المتواصل في المواجهات العسكرية في الضفة الغربية، وعبروا عن خشيتهم من أن يقوم شبان فلسطينيون بمحاكاة عمليات فتاكة نُفذت مؤخرا، وأشاروا إلى أن قسما من منفذي العمليات حملوا تصاريح عمل، ما يستوجب برأيهم إعادة النظر في السياسة القائمة. وقد رشح من الجلسة السرية أن تقييمات الأجهزة الأمنية تفيد بأن أحوال السلطة الفلسطينية ليست صعبة ولا خطر على استقرارها، والقصد هنا أنه يمكن زيادة الضغط عليها، ولا خوف عليها من الانهيار تحت الضغط.
تبدو التقييمات الإسرائيلية للمرحلة المقبلة مضطربة بسبب دخول عامل جديد على المعادلة وهو الحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي تعد الأكثر تطرفا في تاريخ الدولة الصهيونية. ويحظى هذا التطرف الآن بقوة وبتأثير غير مسبوق على اتخاذ القرار الأمني، وليس واضحا بعد كيف سيكون الشكل المتعين لهذا التأثير، لكن يجب عدم الانجرار وراء محاولات استغلال هذا «التطرف» لتسويق صورة «اعتدال» لليسار الصهيوني، صاحب التاريخ الدموي الفظيع. المؤكد هو أن اليمين المتطرف الإسرائيلي يتهم الجيش والمسؤولين عن الجيش بالتساهل مع الفلسطينيين ويقوم بحملة مسعورة لجعل سياسة الاحتلال أكثر، وحشية، وعنفا وإجراما. وأخذا بالعوامل السابقة واللاحقة، فإن الأوساط الأمنية الإسرائيلية وأبواقها في الصحافة وفي مراكز الأبحاث ترى عدة سيناريوهات للمرحلة المقبلة:
اندلاع مواجهة شاملة وانتفاضة جديدة تختلف عن سابقاتها ويكون فيها تهميش للفصائل التقليدية، ودور أكبر للتنظيمات المحلية النامية كما ونوعا، بالرغم من القمع الإسرائيلي المتواصل. ووفق التقديرات الإسرائيلية فإن الانقسام الفلسطيني الفوقي، ستقابله وحدة عمل ميدانية بدأت بواردها من اليوم. كما يُتوقع انهيارٌ للتنسيق الأمني، خاصة في ظل مشاركة واسعة لأعضاء فتح وحتى لمجندين في الأجهزة الأمنية الفلسطينية. ويعتقد بعض المحللين العسكريين في إسرائيل أن تجاوب الجيش والحكومة الإسرائيلية مع استفزازات بن غفير وسموتريتش تدفع باتجاه هذا السيناريو.
استمرار موجة المواجهة الحالية وتحولها الى حالة دائمة، ما تعتبره قيادة الجيش الإسرائيلي «حرب استنزاف» تستلزم، كما يخطط الجيش الإسرائيلي فعلا، زيادة كبيرة في عدد الكتائب المرابطة في الضفة الغربية، لترتفع من 25 كتيبة هذا العام الى 66 كتيبة العام المقبل، بعد أن كانت 13 كتيبة في السنة الماضية. ويرى معظم المحللين الإسرائيليين أن هذا سيكون سيناريو الحد الأدنى، ولا يتوقعون انخفاض مستوى المواجهة، ويقدرون بأنها ستبقى كما هي أو تزيد.
اتباع الفلسطينيين استراتيجية الصمود، هو السيناريو الذي يتنبأ به باحثون في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي. ويستند هذا السيناريو الى تقييم بأن الفلسطينيين لن يدخلوا في معركة مواجهة شاملة قد تكلفهم خسارة ما «كسبوه»، وسيكتفون بالصمود وبالمحافظة على أراضيهم ومؤسساتهم، مع ممارسة النضال الشعبي والعمل على الساحة الدولية لمواجهة سياسات الاحتلال، خاصة وأن وجود حكومة يمين متطرف يجعل هذه المهمة أسهل.
من نافل القول إن تقييم إسرائيل، وليس التقييم الفلسطيني، لمآلات الأوضاع هو ما يحكم سلوكها وسياساتها وممارساتها، وهي ستحسم أمرها بشأن القيام أو عدم القيام بعملية عسكرية شاملة وواسعة في الضفة الغربية، كما في عام 2002، تبعا لقراءتها لتطور الأحداث ولتوقعاتها بما سيحدث.
المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي تولت، في ظل عدم الاستقرار السياسي في السنوات الاخيرة، إدارة شبه مستقلة للشأن الأمني، تجد نفسها اليوم أمام تحديات جديدة لم تعهدها من قبل. فقد اندفعت قيادة حزب «الصهيونية الدينية» لاجتزاء بعض صلاحيات الجيش في الضفة الغربية، خاصة مسؤولية وحدات حرس الحدود، التي ستذهب لإيتمار بن غفير، وزير الشرطة الجديد. وهو يسعى إلى ضم ميليشيات المستوطنين إلى هذه الوحدات، لتصبح تحت إمرته ميليشيا مسلحة تمارس مهامها الخاصة بموازاة قوات الجيش. ولعل هذا ما دفع برئيس الأركان الإسرائيلي السابق، الجنرال جادي ايزنكوط، الى التصريح بأن سياسة الحكومة الجديدة قد تؤدي إلى تفكيك الجيش. إضافة لذلك جرت إحالة صلاحيات من الإدارة المدنية إلى وزارة المالية، التي يتولاها سموتريتش، وجرى أيضا الاتفاق على شرعنة كل البؤر الاستيطانية وطرحت من جديد قضية أوامر إطلاق النار وقضايا أخرى يعتبرها الجيش الإسرائيلية تدخلا في شؤونه.
يواجه الجيش الإسرائيلي تحديات غير مسبوقة، من جهة حكومة تريد أن تقضم من صلاحيات ضباط الجيش والشرطة وإخضاعها للمستوى السياسي، ومن جهة أخرى خطوات فلسطينية غير معهودة، كان آخرها دحرجة سيارة مفخخة نحو معسكر لجيش الاحتلال في منطقة جنين، انفجرت على بعد 200 متر عن المعسكر، ولو وصلت لكانت الخسائر الإسرائيلية كبيرة. ما يقلق إسرائيل حقا هو جيل فلسطيني جديد متحفز لمقاومة الاحتلال وقادر على أفعال غير تقليدية. ولكن، حتى لو لم يفعل الفلسطينيون شيئا، تبقى إسرائيل قلقة ومتوجسة ينتابها خوف غير دفين، خوف المجرم من ضحيته، وهو خوف بلا علاج، يدفع باتجاه ارتكاب المزيد من الجرائم. الوكيل التاريخي للجرائم هو الجيش الإسرائيلي وقد تنضم إليه رسميا وقانونيا ميليشيات المستوطنين.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48