«الهوليغانز» هكذا دأبت وكالات الأنباء توصيف جمهور كرة متطرف لفريقه، في نعت أولئك الذين لا يرون حرجاً في رشق جمهور الخصم بالكراسي، أو مهاجمتهم بكلمات هابطة مخلة بالروح الرياضية، أو بالعصي، أو بقناني الماء، أو بما تسنى لهم من أغراض، لا لسبب سوى لتفريغ غضبهم، وهذا الغضب قد يكون محصلة خسارة أو يحصل جراء الفوز أيضاً، بحكم أن نيران المدرجات لا تشتعل لمجرد نتيجة المباراة، بل لها علات أخرى.
وصارت كل بلاد تمتلك «هوليغانز» يخصها، ويندر أن تنتهي مباريات الداربي في بعض البلدان دون أن تسيل دماء، أو تخلف خسائر مادية، لكن في الجزائر هذا المصطلح ليس متداولاً، وهذا لا يعني أن البلد معفى من العنف والغضب، بل لأن له مرادف آخر أكثر قسوة، يُشار إلى تلك الجماهير، التي يغلي دمها على الدوام، بكلمة مستوحاة من العامية، وهي كلمة جارحة أيضاً، لكنها باتت على الألسنة كلها، فيُقال عنهم «العراية» وهي اشتقاق من العري، بحكم أنهم عراة من أخلاقهم ومن ثقافة الكرة. هكذا صار (العراية) في كل مكان، يظهرون في مباريات الحسم أو في المباريات العادية لمجرد أنها تُلعب ضد فريق جار فباتت تصنف في باب الداربي، فينطلقون في مهرجان اللعب على أعصاب الخصم قبل أن تبدأ المباراة، في إثارة الجمهور المقابل، وفي كل الحالات فإن الوسائل كلها تبدو مشروعة في نظرهم، وقد تعجز الشرطة عن الفصل بين الطرفين، لكن في السنوات الأخيرة باتت الأمور أقل خطورة، فقد وجدوا متنفساً لهم في السوشيال ميديا، فبعد المباراة يواصلون التنمر على بعضهم بعضا في تعليقات أو تدوينات، هذا ما خلصنا من اشتباكات مباشرة بين الطرفين. لكن هذا لا يعني أن الغضب انتهى، بل هو حاضر في كل حين. لقد ساد اعتقاد أن هذا النوع من الأنصار يفضحون سوء سلوك منهم، أنهم يلجؤون إلى العنف نظير قلة خلق، أو نظراً إلى نزعتهم العدائية في الحياة العادية، لقد جرى سوء تفسير للغضب في المدرجات، قصد تفادي النظر إلى الأشياء على حقيقتها، أو من أجل تبرئة ساحة طرف ضد الآخر، ولم نفكر في الموضوع على وجهه الآخر، إن العنف في المدرجات هو فعل سياسي، وإن السياسة هي من يحرك أرجلهم وأذرعهم في الاشتباك وليس مجرد مباراة أو مجرد ممارسة عادية تربوا عليها.
توجيه الوعي
ليس جديداً أن نقول إن الكرة ليست رياضة بريئة، بل هي قناعة متفق عليها ولها براهينها، ففي أي بلد من العالم، توجه السلطة أنظار شعبها صوب رياضة بعينها، وهي رياضة من شأنها تفريغ شحنة غضبهم مما يعتريهم من مصاعب في حياتهم اليومية، وفي افريقيا والجزائر ليست استثناء تعد الكرة المعادل الموضوعي لتفادي الانفلات الاجتماعي. ذلك ما يبدو ظاهرياً، لكن ظاهرة الهوليغانز المحلية، أو (العراية) كما يسميهم البعض، لا تجد أرضية لها سوى في العامل الاجتماعي، بل هي في غفلة عن الملاحظين تتحول إلى ظاهرة سياسية بامتياز. ويكفي أن نلاحظ طبيعة الشعارات التي يرددها أولئك الشبان والمراهقين، كي ندرك أن احتشادهم في الملاعب، وبغض النظر عن سلوكياتهم العدائية في بعض الأحيان، هو احتشاد الغرض منه توصيل رسائل سياسية، التعبير عن غضبهم من حدث ما أو المطالبة بتغيير شيء آخر. ففي غالبية الشعارات التي تهتز بها المدرجات لم تعد المطالب الاجتماعية سوى تفصيل ثانوي. فجماهير الكرة من عنابة إلى وهران، ومن العاصمة إلى بشار، لا يرجون مالاً ولا عيشة أفضل، لا يتحدثون عن فقر ولا حاجة، على الرغم من أن غالبيتهم خرجوا من أوساط محرومة، بل إنهم يرجون مطالب سياسية، تتدرج من رئيس بلدية إلى أعلى هرم في السلطة. بالتالي لم يعد حصرهم في المصطلح المشين (العراية) لائقاً، إنهم ليسوا شباباً فاقداً للأمل، بل لهم أفق وإبصار، إنهم أكثر وعياً وحرصاً على المصلحة العامة مقارنة بأولئك المعلقين، القابعين في أستديوهات، والذين يلقون عليهم توصيفات غير أخلاقية.
الوجهة… إلى المولودية
مولودية الجزائر هو أعرق نوادي الكرة في الجزائر، يعود تأسيسه إلى أزيد من قرن من الزمن، إذا تأملنا مسار هذا النادي سندرك مرة أخرى، أن الكرة شأن سياسي في الجزائر، فقد اعتمد سنوات الاستعمار خطاباً معارضاً للاحتلال الفرنسي، وكانت جماهيره تستغل مباريات الكرة من أجل تمرير رسائل سياسية ضد الاستعمار. إذن نشأة أول نادي كرة في الجزائر لم تكن نشأة رياضية حسب، بل سياسية أيضاً، فلماذا إذن نستغرب سلوكيات الأنصار السياسية اليوم ونصر على نعتهم بكلمات غير لائقة؟ ونواصل توصيف ميولهم العنيفة في مرات إلى تبريرات اجتماعية؟ كما لو أنهم مفصولين عن واقعهم العام ولا يدرون ماذا يجري في سرايا القرار! ونغفل في كل مرة أن مدرجات الكرة في الجزائر لها تاريخ سياسي، فقبل الانقلاب على الرئيس أحمد بن بلة عام 1965، كان هذا الرئيس في مدرجات ملعب وهران، يشاهد مباراة ودية بين الجزائر والبرازيل، وفي المدرجات أحس بالغضب الشعبي ضده وتساقطات حبات طماطم تحت قدميه، وكانت تلك الجلسة في المدرجات آخر لحظة في حياته الحرة قبل أن يجد نفسه في إقامة جبرية دامت 15 سنة، بعد أن جُرد من الحكم. كما أن المدرجات كانت تاريخيا هي المكان الأثير لرؤساء الجزائر من أجل كسب ود الشباب، يجلسون إليها في نهائيات كأس الجمهورية، وتنشر في اليوم التالي الصحف الحكومية صورهم مع لاعبين وهم يسلمونهم الكأس والميداليات. فبعد أن استأثرت السلطة طويلا باستخدام المدرجات في الترويج لسياستها، استعادها الشبان، وجعلوا منها منبراً لتوصيل خطبهم السياسية، في شكل أهازيج أو كلمات أو في ممارسات، مسالمة تارة أو عنيفة تارة أخرى، ولم يعد من المنطقي مواصلة نعتهم بكلمات خارجة عن الإطار كالقول إنهم هوليغانز أو العراية، بل إنهم ترمومتر الوعي في البلاد.
روائي جزائري