الصراع على البيولوجيا… الصراع على الكرة

حجم الخط
1

مونديال كرة القدم حدث إمبراطوريّ بامتياز. لقرابة الشهر يتعامل مئات الملايين من البشر مع أنفسهم ومع سواهم على أنهم أبناء لإمبراطورية كروية واحدة. لا وجه للمقارنة هنا بين شعبية كرة القدم على الصعيد العالمي وبين أي لعبة أخرى. ولا حتى للمقارنة بين ما للمونديال من حماسة وحماوة متابعة وتشويق، وبين ما للأولمبياد. هل من حدث دوريّ آخر مثل هذه السمة العالمية؟
أغلب هؤلاء الناس الذين يعيشون امبراطورية الفوتبول الكونية كل أربع سنوات، ولمدة شهر، ليسوا من المواظبين على متابعة الدوريات الوطنية والمسابقات الإقليمية. يتطفلون إذاً على اللعبة كل أربع سنوات، ويغرقون بها وتغادرهم بسرعة مذهلة ما أن تُسلّم الكأس للمنتخب المظفر في خاتمة المطاف.
هؤلاء «العاديّون» هم صنّاع الموسم، وبعاديتهم هم يقفون في المنتصف بين سرديتين مزمنتين، واحدة تغلّب النظر الى تاريخ الفوتبول على أنه في الأساس تاريخ لعبة شعبية، أقرب إلى الفقراء، وثانية تلتفت على الضد من ذلك الى الأنساق الهيمنية التي قوننت وعولمت اللعبة، ودمجتها عضوياً بحركة السوق والرأسمال المالي وطفرات ثورة المعلومات والاتصالات. نجوم الكرة، التجسيد الواقعي الأقرب الى المتناول، للسوبر أبطال الخياليين، يستمدون جزءاً أساسياً من سحرهم من مقدرة على الجمع بين السرديتين «الشعبية أولا» و«النخبوية أولاً» لهذه اللعبة.
هي اللعبة الأكثر شعبية ربما أيضاً لأنها اللعبة الأجمل. بل هي اللعبة الأجمل. وهي الأجمل لأنها ليست فقط لعبة. هي حرب. ساحة حرب. تتخذ فيها الأجساد البشرية وبمجرد أن يُحرَّم عليها مس الكرة باليد ـ لتصير المنازلة بالأقدام ـ شكل الجياد.
في كرة القدم تصهل الأحصنة وتعدو. أكثر حتى من لعبة البولو. الثلاثية الموجودة في لعبة البولو، بين اللاعب – الجوكندار في تسميته المملوكية – وبين الحصان، وبين الصولجان الذي تضرب به الكرة، تتحول الى قوام واحد: إنسان متحول إلى حصان في كرة القدم. حارس المرمى وحده يشذّ عن هذه الحصانية. مباح له، في منطقة الجزاء، ما هو محرّم على الجميع: لمس الكرة باليد. حارس المرمى هو الدب الرشيق وسط هذا الجحفل من الأحصنة.
لقرون طويلة لم يكن اللهو أو التصارع على الكرة فوق مسطح ترابي مقونناً بهذا الشكل المتمحور حول «تابو» مسّ الكرة باليد عند غير الحارس، كاهن المرمى. كما يوضح عالم الاجتماع الألماني (بالأساس) نوربرت إلياس في «الرياضة والحضارة» الفوتبول سليل ألعاب شعبية كانت تستخدم فيها ـ أضف الى الكرة ـ الأيدي والعصي. هذه الألعاب الشعبية لطالما كانت تمنعها السلطات في نهايات العصر الوسيط وبدايات العصر الحديث، لما تبثه من عنف. ارتبطت قوننة اللعبة في المقابل، بدءاً من تقسيم العمل بين اليد والقدم بترويض هذا العنف. بالنسبة الى إلياس هذا جزء من مسار التحرير المتدرج والمتحسب للانفعالات، مع التحكم بها وتشذيبها. ولم يكن من الممكن حصول ذلك إلا في بريطانيا، السباقة الى النظام البرلماني، حتى بات التداول على اللعبة فيه صدى للتداول على السلطة.
في الوقت نفسه، ما ميز الفوتبول عن سواه أن حركة الجيئة والذهاب من «اللعبة الشعبية» الى «اللعبة النخبوية» ثم من هذه الى تلك، لا تنقطع في تاريخه. لأجل قوننة واحتراف اللعبة كان لا بد من القطيعة مع ماضي الألعاب الشعبية المتفلتة التي مهّدت لها. لكن الفوتبول عندما أخذ شكله الحالي في النوادي، عاد وخان نوادي الخاصة، وتمدد خارجها، بشكل لم يكن مكتوباً له الحدوث في حالة الألعاب ذات الوجه الأريستوقراطي ككرة المضرب والكريكيت.
وبالتوازي، ما أن أخذت اللعبة تنتشر شعبياً مطلع القرن العشرين، وبشكل مرتبط الى حد كبير بتناميها بين جنود وسجناء الحرب العالمية الأولى، حتى عادت آليات التأطير النخبوية لها، كدليل على قوة الدول القومية من ناحية، وعلى التوغل قدماً في اقتصاديات السوق من ناحية ثانية.
لم تكن المنافسة العالمية على كرة القدم معزولة يوماً عن الاستقطابات بين الدول، وعن التحولات التي عرفتها الفكرة القومية بكافة إحالاتها وأبعادها، وما يمكن أن ينضوي تحتها أو يُحمَل عليها.

ما أن أخذت اللعبة تنتشر شعبياً مطلع القرن العشرين، وبشكل مرتبط الى حد كبير بتناميها بين جنود وسجناء الحرب العالمية الأولى، حتى عادت آليات التأطير النخبوية لها، كدليل على قوة الدول القومية من ناحية، وعلى التوغل قدماً في اقتصاديات السوق من ناحية ثانية

لقد تحوّل الفوتبول – أكثر من سواه من الألعاب التي تتمحور حول الكرة – إلى مؤشر مبارزة «ما فوق رياضية»، من الممكن توزيعها إلى عدد من المناحي.
المنحى الأول هو الذي نميل، مكابرةً، إلى طمسه اليوم. مع أنه ما فتئ يُستَحضَر ولو من دون معجمه السابق. ويتصل بالفكرة البائدة، إنما التي كانت لها السطوة بين نهايات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، أي فكرة انقسام البشر بين «أعراق» بيولوجية في الأساس.
ذلك أن «العرق» الذي عدّه أحد أبرز أيديولوجيي «الرايخ الثالث» ألفرد روزنبرغ» بمثابة «أسطورة القرن العشرين» في الكتاب الضخم الذي حمل هذا العنوان، أصيب في مقتل كمفهوم وكمقولة في إثر اندحار النازية، وانكفاء الاستعمار الأوروبي المباشر، وانطلاقة حركة الحقوق المدنية للأفرو ـ أمريكيين في الولايات المتحدة، وطي صفحة نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا.
مع ذلك، هذا المفهوم، المُدان علمياً وأخلاقياً وسياسياً، لم يُقصَ تماماً عن التمثلات، والانفعالات والاسقاطات التي نتعقب من خلالها مجرى كرة في ملعب، ولا كان كافياً «تخليس» (من خلاسي) شتى المنتخبات، لتسريح «العمل السري» الذي يزاوله مفهوم العرق بألف حيلة. بالعكس تماماً. تنوع التحدرات الإثنية للاعبين في منتخب واحد كثيراً ما يكون حافزاً على تنشيط المفهوم «المحرّم» دولياً: العرق.
يبقى أن فراغاً كبيراً أخلاه مفهوم «العرق» بما كان يختزنه من تجذير الاختلاف البيولوجي بينهم على ما عداه. بما كان يرتبه ذلك من تأول الاختلافات والنزاعات الاقتصادية والسياسية والدينية انطلاقاً منه. لكنه فراغ لم تستطع أن تشغله مفاهيم الكونية، ووحدة النوع الإنساني. بل جرى التحول من مركزية «الصراع البيولوجي» و«الهرمية البيولوجية» بين البشر، إلى مركزية الخصوصيات الثقافية والصراعات بينها. انتقلنا من الإثني – البيولوجي إلى الإثني – الثقافي، حتى بات ما هو ثقافي يترادف مع ما هو إثني. في الوقت نفسه، وللسبب عينه، أي دمج الثقافي بالإثني، استطاع المفهوم البائد والمحرّم دولياً، العرق، أن يطل مجدداً، متمترساً من وراء الثقافوية الطافحة.
في أحد نصوصه، «الفوتبول والقومية في الهند» يستعيد المؤرخ الهندي الشاب مانو بيلاي الذهول الذي أصاب أبناء المدينة البيضاء، ومدينة الملونين، في كالكوتا، أواخر القرن التاسع عشر، عندما تمكن فريق من أبناء مدينة الملونين رغم هزال أجساده أن يسدد في مرمى الخصم. ذهب بيض المدينة، القادمين مع شركة الهند الشرقية البريطانية، إلى أن ما حصل ينبئ بالخطر. خطر أن تنقلب الحال. فكرة أن العلاقة الاستعمارية هي في أساسها غلبة بيولوجية كانت حاضرة عند مشجعي الفريقين. هذه الفكرة لن تندثر، لكن فحواها، حشوتها، تبدلت.
ما حصل في كالكوتا بين منتخبي المدينة، الأهلي والكولونيالي، يظل حدثاً عابراً مقارنة بما حل في أولمبياد برلين 1936. يومها كان أدولف هتلر مصرّاً على ضرورة أن يربح المنتخب الأولمبي الألماني مسابقة كرة القدم في الأولمبياد مهما كلّف الثمن، بدءاً من التلاعب بقانون المشاركة في الأولمبياد، غير المفتوح للمحترفين في النوادي. عندما خرجت المانيا من المنافسة، ولم تكن النمسا قد ضُمّت بعد، انتقل التشجيع الالماني الى الأخيرة، باعتبارها من العرق الآري. عندما اتجهت المباراة لخسارة النمسا أمام البيرو، تدخلت «الجموع» لبعثرة المباراة. في النهاية أعطيت الميدالية الذهبية لإيطاليا. كان هتلر ليتقبل خسائر «العرق الآري» في كل شيء إلا في كرة القدم.
في مقابل هذا المنحى «العرقي» الذي لا سبيل لإبعاده تماماً عن الاستقطابات حول الكرة، انوجد أيضاً المنحى الذي يقدم فيه كل منتخب نفسه على أنه تكثيف لنوعية النظام الاقتصادي والاجتماعي. في يونيو 1974 عندما فازت ألمانيا الشرقية، في مباراة بهامبورغ بالمونديال، على الدولة المضيفة، ألمانيا الغربية، اعتبرته بلدان حلف وارسو بأسرها تصديقاً لنماذجها. «ويا فرحة لم تتم». كسبت ألمانيا الغربية المونديال بالنتيجة يومها، وبعدها انهار حلف وارسو عن بكرة أبيه وضُمّ الشطر الشرقي لألمانيا الموحدة.

لأجل ذلك، الربط المباشر كثيرا ما يكون بروبنغديا بحت بين أداء منتخب ما، وبين نظام الأحوال أو الحكم في بلاده، وان لم يلغ ذلك لزوم الربط بشكل فضفاض أكثر. يصعب إحالة خروج ألمانيا من المونديال مباشرة الى كبوة حضارية. في المقابل، يصعب نفي الصورة المتأرجحة التي قدمها المنتخب الإيراني بين النظام والاحتجاجات عليه. المنتخبات ليست صورة طبق الأصل لمجتمعاتها ودولها، لكنها تعكس ما يعتمل فيها. المونديال يعكس مفارقات عالمنا. وهو عالم لا تزال فيه للأمة القومية، رغم تشعب نماذجها، مكانة أساسية بازاء كل من خطاب «الكونية» الصرف، والمجاميع «الحضارية» الصرف. الروح القومية تأكل من رصيد الروح الرياضية وتتغذى عليها في الوقت عينه.

كاتب من لبنان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي وسام سعادة. في الحقيقة السؤال الذي يدور في ذهني هل سيكون مونديال قطر تطور نوعي بحيث تصعد بعض الفرق التي ليس لها تاريخ كروي عريق كاليابان وكوريا أو المغرب والسنغال إلى الدور النهائي ويكون ذلك تعبير عن حقبة تاريخية جديدة! لأن خروج ألمانيا يبدو أنه إشارة من هذا النوع.

إشترك في قائمتنا البريدية