تضمنت مجموعة «تداعيات رجل معلّق بقشّة» لعبدالرحيم العدم 68 قصة قصيرة وقصة قصيرة جدا، صدرت حديثًا عن وزارة الثقافة الأردنية، ضمن مشروع مدن الثقافة الأردنية، وجاءت في 108 صفحات. وعلى الرغم من أنها المجموعة القصصية الأولى للقاص الأردني عبدالرحيم العدم، إلا أنها جاءت متميزة، متفردة بصوتها الساخر الجديد، الذي يذكرنا بقصص محمد طملية وعزيز نيسين؛ بما تتناوله من تفاصيل وهوامش حياتية يومية، بمشهدية سينمائية، وسخرية لاذعة مؤلمة، وميل إلى المشاغبة والمشاكسة والنقد الموجع، وتعدد القراءات والتأويلات.
تتكلم قصص المجموعة بلسان الإنسان المهمش المسحوق، الذي يطارد لقمة العيش، وحافلة المواصلات، وأحلامه التي تمد لسانها ساخرة منه، وكأنها تقول له: «من يطارد رغيف الخبز لا يحق له أن يحلم.. بل يحرّم عليه أن يحلم».
تبدأ السخرية في المجموعة من العناوين، فكثير منها ينتزع الابتسامة، ويثير شهية القارئ وتدفعه للقراءة، أولها عنوان المجموعة «تداعيات رجل معلّق بقشّة» وعشرات عناوين القصص، مثل: «تك تك.. تك تك، ع الحديدة، كيس مشاعر، قرد ولو طار، فيسبوك باللبن، عيد مع ــكرونة، شاعر فذ، نص لم يكتب، منسف أدبي، سكر مالح» وغيرها الكثير. وإذا سبرنا المحتوى، فكل القصص نموذج للأدب الساخر، الذي يتميز بالبساطة والسلاسة والعفوية، لكنها سخرية لاذعة موجعة تستدر البسمة والدمعة في آن. وتتناول هذه المقالة باقة من قصص المجموعة كنماذج ممثلة نسبيا لبقيتها.
تك تك.. تك تك..
لم يستطع النوم من التكتكة التي حرمته النوم، وبحث في كل مكان، فلم يهتد إلى مصدرها، فلما خرج للعمل مبكرا، تقابل مع (عبود المجنون) وشكا له أنه لم يستطع النوم، فقال له المجنون: «أنا قلت لك من زمان بدك تِك تِك تِك تِكسب راحتك.. لا تظلك تُك تُك تُك تُكتب». وهي تحمل مفارقة صادمة، ودلالة عميقة، فقد شكا همه لمن تسبب به، وكثير منا يقع في المقلب نفسه عن علم أو غفلة، فمعظم مصائبنا ونكباتنا وجراحنا تسبب بها من نثق فيهم ونروم منهم الأمن والأمان والعدالة ورفع الظلم والإنصاف. والمؤلم أكثر في هذه القصة أن المجنون أكثر حكمة منا، وأدرى بما يشقينا ويعذبنا.
حل دبلوماسي
كبرت حفرة الشارع، وأخذت مداها كاملا، ونبتت فيها أعشاب وشجيرات، وبعد ثلاثة أعوام من الشكوى، «استجاب مسؤول رفيع في البلدية لمطالبنا وزار الحي، ولما اطلع على المشكلة عن قرب، قام بتدشين الحفرة كــ(دوار) رسمي وسمي باسمه!». إنها العبقرية الرسمية التي تتجلى في حل المشكلات، تتركها تتفاقم وتتوالد وتكبر، ثم تستثمر فيها لصالحها، وتحول الكوارث إلى مكارم، والمشكلات إلى إنجازات! وفي بداية القصة وصف ساحر ساخر للشارع: «الشارع المؤدي إلى حينا عريض وجميل، يستمد جماله من مرونته اللامتناهية واتساعه؛ إذ تحده أرصفة تضغط على عنقه أو هصره، فتجده يتمايل كـ(راقصة باليه) أمام عتبات البيوت ومداخلها، كما أنه محفوف بــ(برندات) مصفوفة جنبا إلى جنب، ومعلقة كحبل زينة دائم وملون تبعا لألوان غسيل الجيران وسكان الحي، غسيل لطيف لا يتوانى يلوح بالترحيب لكل المارة في الشارع إلا أنا؛ فإنه يشعرني بالخوف والرهبة، إذ يخيل لي أن أكمام (القمصان الرجالي) قد نبتت لها أصابع تشير إلي بالتهديد والوعيد، وهي تحاول إخفاء قمصان النوم والبيجامات النسائية خلفها».
نقد
توجه القصة نقدا ساخرا لاذعا لبعض النقاد الذين يعيشون في عالم المصطلحات النقدية الأكاديمية، يرددونها في كل مناسبة، وربما لا يفهمون مدلولها، فبعد أن انتهى القاص عبدالرحيم من قراءة قصصه، انبرى أحد النقاد في مداخلة تزاحمت فيها المصطلحات مثل: «مرجعيات ميتافيزيقية متمردة، القوالب التعبيرية، الخط الدرامي، متشرنق، التأويل الماورائي، السيريالية المتشابكة، كينونة الذات، إستمولوجيا، سيميائية الشخوص، التماهي النرجسي، الفضاء الزمكاني…» واختتم مداخلته بقوله: «باختصار أنت رائع يا عبدالرحيم» فيشكره القاص بقوله: «أشكرك أستاذي، وأفهم جيدا كل ما تفضلت به عدا شيء واحد أرجو منك توضيحه.. ماذا تعني كلمة (رائع)؟». في سخرية سافرة من ترهاته النقدية التي لم يفهم منها شيئا، وهو هنا يسجل موقفا تجاه النقد الذي يقدم في غير موضعه، ولا يفهمه معظم الحضور، فمثل هذه المصطلحات لا تعني إلا أصحاب الشأن الأكاديمي في أروقة المؤتمرات وأبحاثهم الأكاديمية.
شبهة
يركب الشاب الباص صباحا بهمة ونشاط وفرح، ما يثير استغراب واستهجان وتهامس وحوقلة وارتياب سائق الباص وركابه؛ ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، فيشعر الشاب بأنه ارتكب جريمة لا يدري كنهها، ولا ينقذه من موقفه المربك الصعب إلا شاب أشفق عليه فقال معاتبا: «يا رجل.. يا رجل، في حدا عاقل هالأيام يفوت ع الباص هيك فرحان ويقول للركاب (صباح الخير) يم مرة وحدة خبط لزق؟ الله يسامحك.. فوت أقعد، أقعد وخليك ساكت». إنها السخرية المرة من الواقع الأليم والظروف الصعبة التي يعيشها المواطنون، خاصة أن ركاب الباص في العادة هم من الكادحين والفقراء. إنها قصة تقول بالفم الملآن طفح الكيل، ولا شيء يستدعي الفرح والابتسامة، لا شيء يجلب السرور.
رسائل صباحية
يصحو مبكرا، لكنه على غير المعتاد لم يسمع أبواق سيارات الغاز، ولا صراخ الجارة «ولك قووووم يا حمودة تأخرت ع المدرسة» ومحرك شاحنة الجار اشتغل من أول مرة، والقهوة لم تفر على الغاز. فيخاطب نفسه: «نعم كلها رسائل صباحية صريحة تدعو للريبة والشك والحيرة». فلم يتعود المواطن أن تكون أموره على ما يرام، دون منغصات، فقد أصبحت العقبات والمطبات والمشكلات من لوازم الحياة اليومية في البيت والشارع والعمل والمواصلات والسوق، فإن انقضى اليوم دون مكدرات، فهذه من المعجزات التي لن تتكرر.
هذا غيض من هذه المجموعة التي تفيض وجعا، وتغوص في الأعماق، في الجروح، في هوامش البسطاء المحرومين، وتلتقط ما لا يلتقط بحساسية عالية، موجعة، وسرد سلس، ولغة رائقة غير متكلفة، ويسجل للقصص قدرتها الكبيرة على الإدهاش ومفاجأة القارئ بصدمات ومفارقات غير متوقعة، تأكيدا لتمكن الكاتب من فن القصة القصيرة الساخرة، دون ابتذال أو إسفاف، وتضعه في مصاف كتاب الأدب الساخر باقتدار.
كاتب أردني