يستمر مونديال قطر 2022 بمبارياته الجميلة، ولحظاته الكروية المجنونة، يستمر ولا أحد يستطيع التجرؤ على توقع نتائج المباريات بشكل صريح، لأن البطولة لا تتوقف عن إبهارنا بنتائجها ومفاجآتها.
وكسب المونديال معركة الشغف ضد البطولات المحلية والأوروبية، استطاع تحويل بوصلة الجميع الكروية في المنطقة والعالم للكلام فقط عن المونديال، ليبدد كل المخاوف بشأن الجيل الجديد الذي ربما لا تعجبه البطولات الخاصة بالمنتخبات، بصفته جيلاً يفضل مشاهدة الأندية متعددة النجوم.
لكن بنفس الوقت، يظهر جلياً أن المونديال نسخة تلو الأخرى، يكون أقل فنياً وتعقيداً كروياً من بطولات الأندية الكبرى، وبات يتم وصفها بالبطولة ذات الأفكار البسيطة مقارنة بمستوى بعض الفرق مثل مانشستر سيتي وليفربول على سبيل المثال.
أيضاً يظهر مع كل مونديال فرق لا تقاوم أبداً، تأتي وتخسر، قد تسجل هدفاً هنا أو هناك، لكنها في النهاية محكوم عليها بالخسارة، وهي تدخل اللقاء بعقلية الفريق الذي سيخسر، لكن يحاولون تأخير لحظة الإعلان عن ذلك فقط.
رغم فوارق المستوى هذه، ورغم الفارق الفني التكتيكي الملموس، فما زالت كأس العالم تفوز بشغف العالم، وتسيطر على عيون وعقول المشجعين، وهنا يظهر السؤال المنطقي: “ماذا لو نجحت فكرة أرسين فينغر بجعل المونديال كل عامين؟”. هل سنرى هذا الشغف بنفس المستوى، أم سيتم قسمته على اثنين؟ هل سيقبل الجمهور رؤية هذه الفرق التي تأتي للمشاركة فقط وتضيع معها 90 دقيقة أم سيطالب بالتحول لعالم الأندية؟
في الحقيقة أميل للقول أن تفوق المونديال الحالي ناجم عن ندرته وقلة تكراره، فهو لا يملك القيمة الفنية كما قلت، ولا التركيبة التنافسية التي تجعله موازياً لدوري أبطال أوروبا، وكلما زاد تكرار المونديال، كلما ظهرت هذه الفجوة للناس بشكل صريح.
ولعل النجاح الإعلامي الرياضي الذي حققه كأس العالم الحالي في قطر، وتفاعل الناس مع أغانيه وتفاصيله وقصصه، سيكون رسالة إلى أرسين فينغر ورفاقه في الفيفا، بأن انظروا من زاوية أخرى، فهذه البطولة العظيمة التي أقيمت حولها كرة القدم تاريخياً، ما زالت تفوز بقلوب المشجعين، فلا تحاولوا قسم القلوب إلى نصفين.
هي رسالة صريحة بألا تجعلوا من اللعب بالمونديال أمراً عادياً، ولا تجعلوا من الإخفاق فيه مجرد لحظة يتم تعويضها لاحقاً، فلو كان هذا الوضع، لما بكى مارادونا في نهائي 1990، ولما طأطا روبرتو باجيو رأسه في نهائي 1994، وهذا معناه أننا سنخسر الكثير من اللحظات التاريخية الكروية.
وعلى سبيل قوة كرة القدم المونديالية، يجب الانتباه إلى أن الحملات التي كانت تركز على مبادئ وقيم أوروبا الغربية الجديدة التي يحاولون إجبار العالم عليها، توقفت تماماً مع أول مفاجأة كروية، فما إن فازت السعودية على الأرجنتين، ثم اليابان على المانيا، حتى سيطرت كرة القدم، وأنهت كافة النقاشات الجانبية. هذه القوة التأثيرية الطاغية لكرة القدم المونديالية على القضايا الأخرى واضحة للعيان، فحتى حرب روسيا وأوكرانيا اختفت في العناوين الصحفية إلا في البلاد ذات التأثر المباشر بالحرب، هذه القوة القادرة على جعل التركيز في قضية كروية واحدة، لن تكون نفس القوة لو باتت شيئاً معتاداً.
ولا يكتمل الحديث دون الكلام عن المغرب وإنجازها العظيم، إذ أعجبني “ثريد” في “تويتر” رصد فيه الاحتفالات العربية بتأهل “أسود أطلس” على حساب اسبانيا بركلات الترجيح. فكانت الاحتفالات من كافة البلاد العربية بدون استثناء، من أغناها لأفقرها، من أكثرها استقراراً لأكثرها معاناة، فالفرحة كانت واحدة، واللحظة كانت واحدة، وانتشر في “تيك توك” من جديد أغنية الحلم العربي مصحوبة بمقاطع من هذه المواجهة، والنشر لهذه الأغنية كان من كافة البلدان العربية.
هذه الاحتفالات لم تكن عندما تقدم منتخب عربي بأمم أفريقيا، لأن التكرار يضعف الفرحة، ولعل هذه صورة من صور أن المونديال لو زادت نسخه، فقد تأثيره الشعبي والاجتماعي، ليس لدينا فقط، بل في كافة مناطق العالم.
بالمختصر، جزء من هذا البريق الذي نعيشه، وسبب الاهتمام بثقافة أهل المنطقة المونديالية، والحماس الزائد للنتيجة والحزن المضاعف عند الإخفاق، سببه قلة النسخ، ولو زادت، فسيفقد المونديال كثيراً من هذا البريق، وعندها ستكون فرصة بطولات الأندية الحاسمة للقضاء على شعبيته.
كالعادة متألق أخي محمد