رواية «رسالة النور»: استنطاق التاريخ بآلام الحاضر

تطرح رواية «رسالة النور» للروائي اللبناني محمد طرزي – منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2016، قراءة جديدة لبعض شخصيات التاريخ العربي القديم، ألا وهي شخصية عبد الله بن المقفع الأديب والمترجم والحكيم، الذي اشتهر بترجمة كتاب «كليلة ودمنة» عن الفارسية، تلك الترجمة التي حفظت الكتاب بوصفه تراثا إنسانيا، في ضوء فقدان الترجمة الفارسية، وضياع كثير من الأصل الهندي المكتوب باللغة السنسكريتية، ولا شك في أن اختيار مثل هذا الكتاب لترجمته إلى العربية، إنما هو دلالة على شخصية المترجم ذاته، وثقافته، وما يرغب في تقديمه للقارئ العربي في عصره، بل وللحكام والمثقفين والنخبة، ولنرصد الأثر الكبير الذي أحدثه كتاب « كليلة ودمنة « في الثقافة العربية، والحكمة العظيمة التي اشتمل عليها.
والرسالة الأبرز التي تروم هذه الرواية تقديمها هي أن المثقف له دوره وكلمته التي يقدمها لأولي الأمر في عصره، إما بالتأليف أو الكتابة أو الخطابة أو المجاهرة، المهم ألا يكون سلبيا، وأن يكون واعيا للمخاطر المحدقة بالدولة والوطن والفكر. وهو رفض لطائفة من الأدباء والكتّاب المنغمسين في شؤونهم الخاصة، البعيدين عن الهم العام، غير عابئين بتطورات الأمور، وتبدلات الأحوال، وسخط العامة والنخبة.
كما تشير الرواية إلى الجسر الثقافي الموصول منذ القدم بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الفارسية الموروثة، وهو جسر مهم، يأتي ضمن الجسور التي مدّتها الحضارة الإسلامية مع الحضارات المعاصرة لها أو السابقة عليها مثل الهندية واليونانية وغيرها. والتواصل مهم، بعيدا عن التشنجات وروح الشعوبية والتعصب وإنكار الدور الحضاري، الذي نجده مبثوثا في كثير من الكتب التاريخية القديمة أو الحديثة، فالحضارة الإسلامية نتاج للإسلام والعربية ثقافة وعلوما، وصهرت في مكونها الحضاري علوم الحضارات الأخرى، فزادت عليها، وحفظتها، وقدمتها للإنسانية.

رسالة الرواية

أيضا، فإن رسالة الرواية لا تقف عند عصرها، وإنما ترنو إلى عصرنا، عندما تشير إلى ظواهر التطرف والتأزم الفكري الذي نعيشه الآن، والذي له مسبباته السياسية والثقافية والاجتماعية، وأيضا الفكرية، وكلها نابعة من الحال المأزومة للأمة.
جاءت الأحداث في هذه الرواية لتقدم جانبا من حياة ابن المقفع، وظروف تأليفه لكتبه، ضمن سياقات العصر الذي أُلّفت فيه، وعلاقته بمن حوله، والاضطرابات السياسية وقتئذ، مع ربط وإسقاط للعصر الذي نعيشه، أي أن المؤلف لم يكتف بعرض مراحل تأليف ابن المقفع لكتبه، وإنما تخطاها لقراءة الظروف والأحداث في عصره وعلاقته بالخليفة وعبد الحميد الكاتب، وعرض الاضطرابات السياسية في عهده. محور الأحداث هو شخصية البطل «أبو عمرو» والمقصود به عبد الله بن المقفع، الذي ارتحل إلى دمشق، قاطعاً مسافات شاسعة بغية الالتقاء بالأديب الشهير عبد الحميد الكاتب، وهو الكاتب الأول أو «صاحب الديوان» في قصر الخليفة، وقد طلب عبد الله منه العمل في ديوان الخليفة، أملا في التقرب من الحاكم، وتقديم كتاب علم وحكمة وسياسة، يساعد الخليفة في حكم دولة الخلافة الواسعة الممتدة. وعلى حد قول ابن المقفع لعبد الحميد: «أرى ضرورة وضع كتاب يصلح معشر السلاطين، يكون موازياً لرسائلك التي ترمي من ورائها إصلاح أمور الرعية» وحسب السياق الروائي، فإن المؤلف أظهر ابن المقفع بشخصية المثقف الزاهد، فلم يكن طامعاً في مال أو ساعياً لمنصب، إنما كان ينشد تأليف كتاب لا يضلّ الحكام إذا أخذوا به، لأنه يفيض عظات وينضح عبراً. فيكون للسلاطين صلاحا وللرعية ضمانة لما سيُسرد فيه من ضروب في القضاء على الفساد وإصلاح القضاة والجند والخراج، هكذا كان حلم الرجل، لكن سيدرك بعد حين أن السبب الحقيقي لمجيئه إلى تلك البلاد أعمقُ من ذلك، وأن غايةً مقدسةً هيأها القدر في رحلته. وقد عاش في الدولتين الأموية والعباسية، وعاصر انقسام الناس، وصراعاتهم، وأشار إلى تمرد مناطق بعيدة مثل خراسان، وأن الحل العسكري ليس كافيا، ولا بد من علاج أسباب التمرد. وقد تتابع السرد، متنقلا بالقارئ بين مدن: دمشق معقل الأمويين، ثم الكوفة بلد العلم، ثم بغداد عاصمة العباسيين الجديدة، وقد اكتملت مؤلفات ابن المقفع خلال سفره، وأقام الحجة على مناقشيه ومحاوريه، وأيضا خصومه منتصرا للعقل ولقيم الإنسانية.
اعتمدت بنية الرواية على التناص مع طريقة التأليف في الكتب القديمة، التي يقسم فيها المؤلف كتابه إلى كتب تمثل فصولا، وإن حملت عنوان «كتاب كذا» تنضوي تحت المضمون العام في الكتاب. الكتاب الأول بعنوان «كتاب دمشق» وفيه استهلال لمقولة لطه حسين «ربما لم يوجد كاتب يعدِل عبد الحميد فصاحة لفظ، وبلاغة معنى، واستقامة أسلوب. فهو أحسن من كتب العربية ومَرَنها» وحسنا فعل المؤلف، فالفصل كله يتحدث عن مكانة عبد الحميد الكاتب، الذي وفد إليه عبد الله متتلمذا وطالبا القرب. كما اشتمل تقسيم الرواية على فصول/ مقاطع سردية قصيرة، وهذا يلائم السرد المبتغى، خاصة أن كل متوقع يجمع ما بين الحوار والوصف والمعلومات.

رحلة ابن المقفع

أما الكتاب الثاني فهو «كتاب الكوفة» ويتضمن رحلة ابن المقفع إلى هناك ولقائه بالجارية «نجمة» وتعلقه بها. أما الكتاب الثالث فهو «كتاب المدينة التي تحرسها الأنهار، وفيه يقطف ابن المقفع ثمار ما ترجم وألف وأبدع، ويخطو على طرقات المدينة في بغداد، متأملا أحوال الأمة، عارفا بأزماتها، وقد أدى دوره فيها بوصفه عالما ومثقفا تنويريا، خاصة أنه عاصر دولة الأمويين وسقوطها وتولي دولة العباسيين، وكان في حاجة إلى الدعم المادي.
على جانب آخر، فإن المؤلف يعتمد كسر الإيهام، وإيلاجنا إلى عصرنا الحاضر، من خلال الرسائل التي يبثها في ثنايا الفصول، وتتضمن مراسلاته مع مراد إشكير في إسطنبول، الذي يشرف على رسالته في الفلسفة العربية، وهذه الرسائل فيها المزيد مما يريد إسقاطه المؤلف على روايته، حيث يتحدث بشكل مباشر عن رؤاه التقدمية والتنويرية، ويدين التطرف والتعصب الأعمى والفهم المتزمت للدين، وينتصر للفلسفة والعقلانية وغيرها. وهو ينتصر في ذلك للتراث الفلسفي العربي المتمثل في رسائل إخوان الصفا، وكأنها هي السبيل المنجي الوحيد من التعصب المعاصر، وهو ما رد به مراد على تلميذه محمد بقوله: «عن مضمونها فهي محاولة توفيقية بين الحكمة والشريعة وبين العقل والنقل. فتلك الرسائل ترى أن الأديان كلها في جميع العصور وعند جميع الناس يجب أن تتفق في ما بينها». وهنا لا بد من أن نشير إلى أن التراث التشريعي نفسه فيه الكثير مما يفيد العقل المسلم المعاصر، مثل فقه الموازنات والأولويات وعلم مقاصد الشريعة وغيره من الاجتهادات، فالحل لا ينحصر فقط في التراث الفلسفي، وكأن الصبغة العقلانية تقتصر عليه وحده، وإنما الحل في الانتصار لكل ما هو عقلاني وإيجابي ووسطي وإنساني في تراثنا كله. هذا، ويؤخذ على الرسائل المتبادلة بين محمد وأستاذه مراد، أنها تأتي في سياق عرضي يقطع أحداث الرواية، وقد يبتعد بالقارئ عن أجوائها، في ضوء إلحاح المؤلف على الانتصار لقناعاته الفكرية، خاصة أن الرسائل تكاد تنحصر في مزايا رسائل إخوان الصفا، وكيف أن ابن المقفع اطلع عليها، وأشار لذلك في كليلة ودمنة. وأن الخلاص من الطائفية البغيضة في العراق (بلد محمد المرسل) هي النزعة التوفيقية التي نجدها في رسائل إخوان الصفا بين الأديان والمذاهب. وفي الحقيقة أن هذا حل بالفعل، لكن ليس بالنزعة التوفيقية، وإنما بمنع إشعال جذور الفتنة على أسس مذهبية أو قبلية أو فئوية أو عنصرية وقومية، وترسيخ مبادئ التعايش في أفقها الواسع والسامي. فالفتن لا تقتصر على المذهبية فقط، وإنما تمتد إلى كل ما يمكن أن يشكل تحيزات لدى الإنسان ومن ثم تتحول إلى تعصب وقتال.

زمان ابن المقفع

عنوان الرواية «رسالة النور: رواية عن زمان ابن المقفع» يعبر عن الرؤية المتقدم ذكرها، وإن كان العنوان فيه التباس واضح، لأنه يتحدث عن زمان ابن المقفع، في حين أن الأحداث في الرواية تدور حول شخصية ابن المقفع وعلاقته بعصره، وبعبارة أخرى، فإن ذكر جملة «رواية عن زمان ابن المقفع» بعد «رسالة النور» تجعل القارئ يتوقع أن الرواية تدور حول زمن ابن المقفع، والحادث في الرواية أنها تشمل شخصيته، وأيضا الأحداث في عصره، من خلال رؤاه ومواقفه ومؤلفاته. يؤخذ على الرواية حضور الخطاب الموجه والمباشر في متنها بشكل واضح، بمعنى أن المؤلف الضمني يستنطق الشخصيات، ويملي عليها ما يريد قوله، ما يضيع جوهر السرد، ويخرج القارئ من حالة التماهي/ الإيهام التي تجعله يعيش أجواءها التاريخ. وبعبارة أخرى: فإن المؤلف يلح في مواضع كثيرة على رسالته، منتصرا للعلم والفلسفة والتنوير، ولا يترك للقارئ أن يستشفها بعقله. ومن ذلك مقولة عبد الحميد لابن المقفع: «علّمتني تجربتي في القصور أن الإصلاح مستحيل حين تكون الرعية غير مؤهلة لتقبّل التحديث والأفكار الجديدة، ففكرتُ بوضع رسائل تحثّ على قبول الآخر وتؤسس لمصالحة بين الفكر الديني من جهة، والعلم والفلسفة من جهة أخرى إذ وحده العلم يعصم من التطرّف ودونه لن تساوي هذه الأمة شيئاً وسيستمر سفك الدماء» هذا خطاب مباشر، يحمل رؤية تيار التنوير، ويتماهى معها، ويخرج الرواية من أجوائها التاريخية. والأمر نفسه نجده على ألسنة الشخصيات، حيث الوعظية والشعارات، ومنها قول القاضي لابن المقفع في الكوفة، معارضا تدخله لنصرة جارية: «كان في إمكانك أن تتقدم بشكوى أمام متولي الشرطة، لا أن تسعى إلى تطبيق العدالة بنفسك، تصوّر لو كلّ امرئ في الكوفة آثر تطبيق العدالة بنفسه ماذا سيحلّ بنا؟». فهذا كلام وليد عصرنا وليس عصر المؤلف، بل إن حوار ابن المقفع ذاته مع القاضي، أشبه بحوار محام مع وكيل نيابة في أيامنا. الملحوظة في الأسلوب السردي للرواية هو عدم إجهاد المؤلف نفسه ليقارب الملفوظ اللغوي في عصر ابن المقفع، بل نشعر بأنها مكتوبة بأسلوب لغوي عصري كأنه لرواية معاصرة لا تاريخية، مما ينأى بالقارئ عن الإيهام التاريخي المفترض، ويجعل حضور المؤلف الضمني طاغيا، إن لم يكن مستبدا فارضا قناعته.
جاء ختام الرواية بعنوان «ملحوظة متأخرة» وفيها المزيد من الخطاب المباشر الذي كان ديدن المؤلف في متنه السردي، وإن كان هنا أكثر صراحة، فلم يضمنه حوارا أو رسالة لأستاذه، وإنما قاله صراحة: «ولم يزل الناس في أجزاء من عالمنا العربي منقسمين بين هذين الفريقين بعضهم يبرّر غيّ الحاكم بذريعة متطلبات بناء الدولة، وبعضهم يرى أن ما بُنيَ على القمع لن يلبث أن يتداعى مهما علا وارتفع». وهو إصرار وتزيّد وإتخام للمتن الروائي، فالرواية فن للحكي وليس للمقال الفلسفي والفكري المباشر، ووسائل الروائي في ذلك الأحداث والشخصيات وحركتها وآفاقها وبراعة استخدامه للرموز والإشارات.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية