المونديال واليوتوبيا

حجم الخط
1

تعكس البطولة العالمية للعبة كرة القدم شيئاً من حال الكوكب عند كل حقبة. في زمن الحرب الباردة، لم يكن «المونديال» بمنأى عنها، دون أن تكون المنافسة الكروية صورة طبق الأصل عن الاستقطاب الذي ساد بين معسكرين أيديولوجيين مختلفين.
مقارنة مع دورات الألعاب الأولمبية كانت علاقة «مونديال الفيفا» بالحرب الباردة أكثر تعقيداً. فالألعاب الأولمبية تحولت منذ مطلع الخمسينيات إلى تسابق محموم على انتزاع حصة الأسد من الميداليات الذهبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. وبهذا التزاحم على الصدارة الذهبية ابتغت كل قوة عظمى تسطير نجاعة وصحية نموذجها، وتفوق شكل الحياة في مجتمعها مقارنة بغريمتها. كذلك الأمر على مستوى الحلفاء والدائرين في الفلك. الأيديولوجية السليمة في الأجسام السليمة.
أمور المونديال كانت مختلفة، ذلك أن كرة القدم التي شاعت في الولايات المتحدة ويتقدم فيها اللاعب حاملاً الكرة باليدين هي لعبة مختلفة تماماً ولو تشاركت مع كرة القدم الأخرى ـ كرة كل الكوكب خارج الولايات المتحدة ـ الجذور التاريخية. لأجل ذلك كان سجل أمريكا في «السوكر» ـ أي كرة القدم كما نعرفها ـ كان متواضعا للغاية زمن الحرب الباردة، حيث لم تتأهل الولايات المتحدة الى النهائيات البتة بين مشاركتي 1950 و1990. لكن وضعها اختلف بشكل نوعي بعد انتهاء الحرب الباردة، وبخاصة من بعد تنظيم المونديال على الأرض الأمريكية، وتزايد شعبية «السوكر» في هذا السياق، لا سيما مع موجات الهجرة من المكسيك وبقية أمريكا اللاتينية في اتجاه امبراطورية الشمال.
الاتحاد السوفييتي كان له على العكس من ذلك ولع وباع في كرة القدم، وشخصيات أسطورية دمغت تاريخ اللعبة كحال حارس المرمى الشهير ليف ياشين، وكان المنتخب السوفييتي يحسب له كل حساب في الخمسينيات والستينيات، مع عودة نسبية لقوته في الثمانينيات، دون أن يوفق في أي مرة لا هو ولا أي من بلدان المعسكر الاشتراكي في انتزاع الكأس. القطبية الكروية بقيت بالدرجة الأولى بين أوروبا الغربية وبين أمريكا الجنوبية. الكتلة السوفييتية ـ الأوروبية الشرقية لم تتمكن من تجاوز ذلك، ولو أنها ضغطت بشكل نوعي في هذا الاتجاه. مع هذا، طبعت مناخات الحرب الباردة مسار البطولات الكروية. كان منفذاً إما لمبادرات الانفتاح من على جانبي الستار الحديدي، وإما لمؤشرات عودة التوتر، وتأثرت بالانشقاقات التي كانت تحدث بين النجوم الكرويين المنتقلين من أوروبا الشرقية إلى الغربية، كحال المجري فرنج بوشكاش الذي وبعد سطوعه في نهائي مونديال 1954 الذي حلّت فيه المجر وصيفاً، انشق في اثر الاجتياح السوفييتي لبودابست 1956 وانتقل الى نادي ريال مدريد في وقت كانت لا فيه إسبانيا تحت حكم الجنرال فرانكو، وبعد سنوات على ذلك سيكون من لاعبي المنتخب الإسباني نفسه في مونديال 1962!

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ستتهاوى القسمة الأيديولوجية للعالم، في مقابل استمرار الأقلمة الثنائية لكرة القدم بين أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية، إنما مع تزايد نسبي في ثقل المنتخبات الأفريقية والأسيوية

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ستتهاوى القسمة الأيديولوجية للعالم، في مقابل استمرار الأقلمة الثنائية لكرة القدم بين أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية، إنما مع تزايد نسبي في ثقل المنتخبات الأفريقية والأسيوية. في هذا الوقت من سيشغل الفراغ الذي أخلته القسمة الأيديولوجية؟
ارتبط هذا السؤال خارج الفضاء الكروي بالاختلاف بين تصورين «ليبرالي» و«محافظ» حول من سيملأ الفراغ. التصور الليبرالي كان يمني النفس بشكل أو بآخر بأنه، ومع طي صفحة الحرب الباردة والاتحاد السوفييتي والاقتصاد الموجه، سيحل سؤال المنفعة والمصلحة بدل التعلق باليوتوبيا التطبيقية، هذه اليوتوبيا التي تتمثل كارثيتها حسب المنطق الليبرالي في أنها تطبيقية، بخلاف اليوتوبيات ما قبل الحديثة التي ما كانت ترتجي التطبيق وإنما تتوقف عند حد التمثل بها، و«الصَدِع بها» (في اللغة، الصدع بالحق يعني التكلم به)، والانشراح لما تحدثه من معاني في نفس المتأمل المتعقل، وفهم أسباب ومراتب فساد المدن الأخرى التي هي دون المدينة الفاضلة المستحيلة منزلة. إنما، قبل الاشتراكية والشيوعية لم تكن ثمة يوتوبيات تطبيقية. وبعدهما لا يوتوبيا إلا من زاوية أن عالمنا نفسه هو يوتوبي، مركب كقطع الليغو، ويمكن فيه لكل نفر المساهمة في إعادة تركيبه، على مستواه. اليوتوبيا التطبيقية التي بدأت في صيغة «الفالانستير»، المجمع الضخم للعيش والعمل المشترك بين آلاف من المنتجين المتساوين، والذي سعى إليه شارل فوريين أخلى مكانه لفالانستير من نوع مختلف، مع محاكاة معمارية مضخمة، ذلك في صيغة «الشوبينغ مول». الشوبينغ مول من حيث هو المستعمرة اليوتوبية الاشتراكية الوحيدة القابلة للعيش، والذي يستطيع أبناء الطبقات المختلفة التشارك فيها بالسلالم المتحركة، وليس بطبيعة الحال بلائحة المشتريات.
مرادف ذلك على الصعيد الكروي أولوية الأندية على المنتخبات، لكن أيضاً تخلق الأخيرة بعوائد وسلوكيات الأولى. في الموسم المونديالي، ينتقل اللاعبون من النوادي الخاصة غير المرتبطة حصراً بجنسيات بلادهم الى تمثيل وحدة بلادهم الكروية، وفي الوقت نفسه هذا العمل الجماعي تحت الراية الوطنية لمن كان في غربة وظيفية عنها لسنوات هو فرصة للأفضل بينهم لزيادة الطلب عليه في بورصة النوادي. يؤدي المنتخب اذاك نفس وظيفة الدولة في ظل عولمة الأسواق، ويتحول الستاد الى صورة مكبرة عن التحام المدرج الروماني مع فضاء الميغا شوبينغ مول.
التصور المحافظ كان له إجمالا زاوية نظر مختلفة. الأيديولوجيا الآفلة لن تخلي مساحتها لحسبان المنفعة وإنما، الى حد كبير، لهواجس الهوية. لسؤال من نحن ومن هم. من معنا في «النحن»، ومن هو في حقيقة أمره في «الهم» مع أنه يبدو بيننا.
بعد تهاوي اليوتوبيا التطبيقية لن تقوم وفق هذه النظرة من قائمة ليوتوبيا تركيبية ذاتية كتلك التي يمني بها الليبراليون النفس. وإنما ستحل النوستالجيا بدل اليوتوبيا. كل حدث سيفتح في جدار النسيان كوة. ومع كل كوة هناك فرصة للتواصل الحي مع الذين رحلوا، وفرصة للاشتباك مع موتى الآخرين من جديد.
كرة القدم والحالة هذه هي ميدان خصب لاستقبال الهواجس الهوياتية، أو للحساسية المرتفعة في الإنصات لها عند الغير. فما الذي يمنعك كمشاهد له منفذ الى ذاكرة التاريخ أن تتحول المباراة في عينيك بين فريق على هذه الملة وبين فريق من تلك الملة الى مباراة بين ملتين، أو حضارتين، الى استعادة كروية، محدودة العنف، لمعركة مضت منذ قرون عديدة وسالت فيها دماء سخية؟ وقد تقول لنفسك إنك لا تذهب الى هناك، لكن غيرك يذهب، ثم تعود وتؤاخذه على ذلك. كمثل ما حدث من انقباض يوم تمكن المنتخب المغربي من الوصول الى المربع الذهبي. جرى اتهامه بشكل أو بآخر بأنه يساهم في تأجيج نوستالجيا «أندلسية» تعكر صفو هذه الأيام!
شهد المونديال الحالي انتعاشة للهوياتية «على هامش الكرة». لكنها هوياتية «زَبَدية» كذلك الأمر كزبد البحر. رغوة سرعان ما تزول، لكنها تشير الى رغو لن يزول طالما الأمواج تتلاطم. هو رغو مستدام، رغو يحررنا في الوقت نفسه من المكوث في «فقاعات». فهذا عصر اندثرت فيه اليوتوبيا التطبيقية، ولم تتمكن اليوتوبيا التركيبية «الليبرالية» وحدها من ملء الفراغ، الا بالاشتراك والتزاحم مع النهش في النوستالجيا، مع الصراع على النوستالجيا، تلك التي، بلحظة غفلة، يمكنها أن تجعلك ترى الى مباراة بين منتخبين حاليين على أنها بين حضارتين ممتدتين وموغلتين في صدامات التاريخ، ويتوازى ذلك في الوقت نفسه، مع حسبة أخرى تجعل لكل لاعب سوق عرض وطلب في النوادي الخاصة بعد البطولة، طبقاً لما أنجزه ضمن البطولة تحت الراية الوطنية لبلاده. ويضاف الى ذلك، أن الأقلمة الكروية الثنائية بين أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية لا تزال سيدة اللعبة، ولو تراجعت هيمنتها أكثر من ذي قبل. تراجع من العبث استشراف مداه بشكل وثوقي منذ الآن.

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي وسام سعادة. لا أستطيع الخوض في تحليل كما جاء في هذا المقال، لكن ملاحظتي كانت أولًا، الخروج المذل للمنتخب الألماني لأنه التداخل بين الرياضة والسياسة كان غير مضبوط فتحول إلى عقبة أمام المنتخب الألماني. ومن ناحية أخرى لاحظتا أنه عندما بدأ المنتخب المغربي يدخل في دوامة تاريخية أو كما جاء في المقال نوستالحيا أندلسية، ظهر ضعفنا (باعتبار أن المتخب المغربي يمثل إلى حد ما العرب) في الحقيقة، وقد فقد توازنه وتحول إلى لاعب عادي لايملك أسس رياضية سليمة ودفاعه كان مرتبكًا تجاه المنتخب الفرنسي بشكل واضح، بعد أن كان سدًا منيعًا، مع العلم أنه كان بمقدوره تجاوز هذه النوستالجيا ببساطة وتحقيق هدف أبعد مما حققه حتى ذلك المرحلة. لقد لاحظنا كيف أن الرياضة استحق أن تبقى رياضة ونقطة التقاء بين الشعوب وماعدا ذلك لايجلب إلا المصاعب والخسارة!

إشترك في قائمتنا البريدية