هل الداء يصنع العبقريات؟

حجم الخط
2

تحتفل الأوساط الثقافية الفرنسية وكذلك العالمية، بمرور مئة عام على غياب صاحب العمل الروائي الأبرز في العالم، مارسيل بروست، هذا الكاتب العليل والكئيب والمعزول، هذا الروائي الذي صنع عملاً أدبياً من خلال ذكرى بسيطة، ذكرى الكل يمرّ بعالمها في زماننا الحالي، وفي ذلك الزمن الماضي، وحتى في الأزمنة المقبلة. ذكرى من عالمَي الطفولة والصبا، وما أكثرها من ذكريات، وحكايات، وقصص يمرّ بها أي إنسان عادي، لكن المبدع والفنان والصانع سيتوقف عندها، فهي لن تمرّ عليه، دون أن يتملاها، ويعيد استعادتها، ربما لجمالها، ربما لطعم الذكرى، وربما لرائحة تلك الأيام التي مضت، وتركت عبقاً لم يزل عالقاً في نسيج الذاكرة.
إنها قطعة البسكويت، شريحة مادلين المغموسة بالشاي الممزوج بالحليب، هي ما جعلت لمارسيل بروست أن تتداعى له الأيام والعقود، والتفاصيل السالفة، ليكتبها بطريقة مذهلة، ومعقّدة فنياً نوعاً ما، باعترافه هو. جمل طويلة لا تتوقف، آلاف الكلمات تتدفق لتملأ سبعة مجلدات، تملأها بقوة التعبير، وقوة السرد، وقوّة العبارة، وقوّة الذكرى، وجمالها المسرود عبر شخصيات متعددة، وطبقات من شرائح اجتماعية متنوّعة، راحت تنمو وتعيش من جديد، في قلم الكاتب الذي هو مارسيل بروست، الذي كتب أعمالاً قليلة قبلها، أشعاراً ومقالات، وترجمة للشاعر الإنكليزي جون رسكن.
هذه الأعمال لم تثر أحداً ولم يتوقّف عند صدورها أحد، ككتاب «المسرّات والأيام» وهي مجموعة أشعار مع مقالات، سوى لأنها أعمال أدبية كتبها شاب، من شبان ذلك الوقت، وهم كثر في مطلع المئوية الفائتة، غير أن هذا الفتى العليل كان يخزّن تاريخاً اجتماعياً واسعاً، وكبيراً في داخله، انفجر بعد أن تراكمت الرؤى، والأحداث والشخصيات، مالئة الزمان والمكان، وحتى البعد النفسي والعقلي والحياتي لدى مجتمعات تلك الفترة من حياة الطبقة البورجوازية في رائعته «البحث عن الزمن المفقود».
حياة متشابكة كانت تمور بين صفحات هذا الكتاب، الذي امتد إلى سبعة مجلدات مثيرة، وغريبة في كتابتها، التي لم يعهدها الشكل الروائي سابقاً، في باريس التي كانت مقبلة على أحداث، وتيارات، ومدارس في الفن، والشعر، والمسرح، والسينما، والأدب عامة.
كلما قرأت شيئاً عن مارسيل بروست وحياته، ظهرت مباشرة أمامي حياة كافكا، فهما شخصيتان كئيبتان، مرضهما متشابه الى حد ما، الربو المزمن والحاد لدى بروست، والسل الرئوي لدى كافكا، فكلا المرضين لهما صلة مباشرة بالرئة، وكلاهما يحتاج الى منتجع، وهواء نظيف، وبيئة عامرة بالطبيعة، أو بهواء الجبال، وكلا الشخصين يمتلكان أرومة عبرية، مطبوعة على الحزن والهجرة، وكسب المال، والتفوّق في الأعمال.
فرانز كافكا كان يحب امرأة اسمها ميلينا، تعذّب في حبّها وتقلّب معها، في تقلّب أهوائها وأهوائه، وبروست كانت له نساء صديقات من الطبقات الأرستقراطية الراقية.
نعود الى صاحب رائعة « البحث عن الزمن المفقود « هذه الرواية التي يجري التاريخ الشخصي كالضوء بين صفحاتها، التاريخ الشخصي له، ومن ثمّ التاريخ الشخصي للطبقات والفئات، والشرائح الاجتماعية المحيطة به، وبحياة عائلته، التي فقد فيها باكراً والدته ووالده وبعض الأصدقاء. في البدء حين كتب بروست أول المجلّدات، لم يسم عمله عملاً روائياً، حتى وصوله الى المجلد الرابع، وهذا ما توضّحه رسائله الى أصدقائه، وثمة أناس وأصدقاء له لم يفهموا الرواية، بدءاً بمجلد «جانب منزل سوان» الأول، الذي رفضت نشره «المجلة الفرنسية الجديدة» على نفقته الخاصة، بلجنة يرأسها أندريه جِيْد أشهر كاتب في زمانه، لكنه سيعتذر منه في ما بعد اعتذاراً شديداً فيه نوع من «القداسة، أنفقت بضعة أيام مع كتابك، لم يفارقني لحظة، لقد انغمست فيه انغماساً منتشياً بالبهجة، لقد أسكرني كتابك، وجعلني أثمل به، لماذا يؤلمني حب هذ الكتاب». وفي مكان آخر يقول: «صورتك في ذهني كونتها لقاءاتنا العابرة، بالنسبة لي ما زلت أنت الرجل الذي يلم باستمرار في صالون السيدة س، والسيدة ص، والرجل الذي كتب مقالات لصحيفة الفيغارو، هل أعترف لك بالحقيقة؟ لقد كنت أظنك متكبّراً، طالب شهرة، ومجرّد هاو من الهواة» بينما العكس هو الصحيح، فبروست شخصية انعزالية، أولاً بسبب مرضه المزمن، وثانياً بسبب انشغاله بالكتابة.

كان يعي بروست أهمية عمله الفني، الذي شبّهه بثمرة الملفوف لما يحتويه من معمار متداخل وكبير، ووصفه أيضاً بلعبة العلب الروسية التي تبدأ بعلبة كبيرة، في داخلها علبة أصغر منها، حتى الوصول الى أصغر علبة.

وفي ردّ موجّه الى جِيْد يقول بروست: «عزيزي جِيْد لكي أؤكد لك مشاعري تجاهك هي مشاعر الامتنان الكبير، إن كنت تشعر بالندم على ما سببت لي من ألم فإنني أتوسل إليك أن تتخلص من هذا الإحساس، وأن لا تشعر بأي ندم بعد الآن».
بعد صدور مجلّد «جانب منزل سوان» الذي تمّت طباعته في دار «غاليمار» التي رفضته سابقاً، هي ودور أخرى بسبب طوله، وتعقيد جمله وتعدد شخصياته، وفور صدور الطبعة الفرنسية، توالت الطبعات في كل بلدان العالم، كاليابان وأمريكا ولندن وألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية، ونالت فور صدورها جائزة «الغونكور» وهي أرقى جائزة أدبية فرنسية آنذاك والى الآن. وقد تمّ الاحتفاء به، وبالرواية الاستثنائية هذه، ما حدا ببروست الى إقامة حفل، وهو عبارة عن سهرة في فندق «الريتز» بنقود الجائزة، فصرف المبلغ كله في تلك الليلة، التي لن تتكرر في ما بعد، بسبب أزماته المرضية، وتفاقم علاته، ونتيجة عزلته الشديدة عن الناس والأصدقاء، طامحاً من وراء هذه العزلة، الى إنهاء عمله الذي كان يدعو من الله، أن يمدّه بالقليل من الوقت لكي ينجزه على أتم وجه، لكن القدر لم يمهله لتتمة تنقيح الأجزاء الثلاثة الباقية من السباعية الروائية، فتولى شقيقه هذه المهمّة الصعبة، لرداءة خط بروست، فضلاً عن الشطب والأسهم، للإضافات الجانبية على حاشية الصفحات، التي رافقت الأجزاء المتبقية من هذا العمل، الذي يعد أهم عمل روائي صدر في تاريخ الرواية العالمية. يعلق مونتسكيو على رداءة خط بروست قائلاً: «ثمة أشخاص خطّهم قبيح لكنه مقروء، وآخرون خطهم جذاب لكنه غير مقروء، أما بروست فقد نجح في أن يجمع الخصلتين».
كان يعي بروست أهمية عمله الفني، الذي شبّهه بثمرة الملفوف لما يحتويه من معمار متداخل وكبير، ووصفه أيضاً بلعبة العلب الروسية التي تبدأ بعلبة كبيرة، في داخلها علبة أصغر منها، حتى الوصول الى أصغر علبة. وبهذا الصدد يكتب الى أندريه جيد أهم كاتب في زمنه قائلاً: «إن معارضة الأشخاص الذين ليس لهم القدرة على فهم ما تنجز إنما هي أقل قسوة من المعاناة التي سببها لي الأشخاص الذين كنت أتوقّع أنهم يفهمون كتاباتي».
وفي رسالة الى مدام شيف، كان يشكو فيها من الإعياء والتعب، بعد أن انتقل من غرفته الرطبة الى مكان يفترض أنه صحي، عرضته عليه السيدة ريجاني، إحدى النساء من اللواتي كان يعرفهنّ، وهنّ من عليّة طبقات المجتمع الراقي، فأعطته طابقاً من منزلها، لكنه كان يشكو من الضجيج، ومن منشرة الخشب الملاصقة للمبنى السكني، وطرْقات المطرقة، طرْقات تجعله يقظاً، لا يستطيع النوم الكافي، وحتى أصوات الساكنين المجاورة كانت تصل إليه، من شقوق جدران المسكن. في رد على رسالة الكاتب بولونجيه، الذي كتب عنه بإعجاب يقول بروست: «يصعب عليّ كتابة الرسائل، لأنني بالكاد أستطيع التقاط أنفاسي بسبب نوبات الربو التي تهاجمني دون توقّف لأيام عدّة».
وفي رسالة أخرى الى السيدة شتراوس يشرح بروست عدم تمكّنه من كتابة رسالة نتيجة الإرهاق والكلل، ولهذا كان يلجأ الى تعاطي الكافيين، لكي يستمر في كتابة الرسالة، لكنه كان ينهيها قبل أن تكتمل، نتيجة نفاد كمية الكافيين تلك التي تمنح أصابعه والذاكرة، بعضاً من النشاط والتيقظ.

الرسائل ترجمها ربيع صالح

شاعر وكاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غراب ايرلندا:

    لدي زميل دراسة ثانوي كان لديه داء العظمة رغم أن والده بقال..سافر إلى دبلن للدراسة لكنه مات بسبب انبهاره المجنون بالحضارة الغربية.

  2. يقول عمار حسن:

    مقال رائع ،شكرا للشاعر هاشم شفيق

إشترك في قائمتنا البريدية