يمارس الشعر جاذبيته السحرية على الخاصة كما على العامة، دون أن تكون هذه «العامة» ملزمة بامتلاك الحد الأدنى من قوانين صياغته وبنائه. فمحبة الشعر وحدها تكفي لاستضافة «الغاوين» في رحاب أجمل الأريضة ، التي تتردد عليها الصفوة المنتقاة من المتأدبين وغير المتأدبين. وبالتالي، فإن حرص البعض على الانتماء الرمزي إلى فضاء الشعر – ولو في مناسبات ظرفية ـ هو في حد ذاته، حرص على الظهور أمام الآخرين بهوية تكاد تكون استثنائية، بالنظر لما توحي به محبته من أريحية، مغرقة في رهافتها، ولو على سبيل الإيهام، ذلك أن المفترض في كل «متيم بسماع الشعر» استيفاؤه للشروط الفنية و»الروحية» المنزهة عن العدوانية، والشراسة المخلة بالقيم الإنسانية والتواصلية. إن هذا المتيم، وبموجب ذلك، يتقدم إلينا باعتباره «النموذج» والمثال الذي تطمح البشرية عبثا إلى تصنيعه في مختبرات قيمها ومثلها، التي لم يعد لها وجود.
أيضا، يمكن تأويل ظاهرة ادعاء محبة الشعر لدى شريحة كبيرة من هذه «العامة» بميل تطهيري شبه يائس، لما يعتمل في دواخلها المعتمة من أهواء تدميرية، لا تبقي ولا تذر، آناء الليل، وأطراف النهار، حيث يتطلع هذا الميل التطهيري مؤقتا، وبفعل حنين عابر للحظة هدنة متخيلة، إلى البحث عن فرصة للإقامة الظرفية والسانحة في منازل الشعر.
ولعل أكثر لحظات المصالحة والهدنة المحلوم بها في هذا السياق، تلك الأماسي، التي يتطلع فيها الغاوون، إلى أمل الانتشاء بما لذ وطاب من أفانين القصائد، المتماهية مع آفاق انتظاراتهم، خاصة حينما تنصهر في أجوائها تباريح أهوائهم الدفينة، بتقاسيم خلاص افتراضي، يخفف عنهم معاناتهم من لعنات السماء، أو الأرض. إنه الطقس المستوفي لشروط شعرية التطهير الظرفي والمناسباتي، وأيضا، هو طقس التلذذ بالوجود المجاني في ضيافة الشعر، والمتعافي تماما من قلق انتمائه إلى مواجع التمثلات الفكرية، وإكراهاتها المعرفة. طقس إنصات شعري، محكوم بظرفية هلامية، آيلة للزوال، فور اختتام شعائر السماع المملاة من قبل لحظة الإنشاد.
في أغلب الأحيان، وضمن الإطار ذاته، تتمحور حميمية اللقاء حول شخص الشاعر الذي يأخذ شكل بديل فعلي للنص الشعري. بمعنى أن الشاعر يتحول في هذا السياق إلى نص شعري قائم الذات، يستغني به جمهور الغاوين عن النص، جملة وتفصيلا. وفي أحسن الأحوال، قد يتعاملون معه بوصفه وسيطا لا أكثر ولا أقل، يتيح لهم إمكانية الحلول في ذات الشاعر. وبالتالي فإن جمهور العامة، يحج إلى القاعة أساسا من أجل التملي في طلعة الشاعر /البوق، الذي تملأ صورته آفاق ذاكرتهم، وقد غدت شبيهة بالأيقونة الناطقة بلسان ما يتفاعل في دواخل هذه العامة من أحاسيس متنافرة ومتناقضة، مضمرة، ومعلنة. إن شرائحها تحج زرافات ووحدانا إلى قاعة السماع الشعري، علها تتصالح مع ذواتها التي تجهلها أو تلح على تجاهلها جملة وتفصيلا. هناك، حيث يتعايش في دواخلها المعتمة شبق الرغبة مع ظلمات الرهبة، وحيث تتكامل شهوة الإقامة في المدنس، مع حالة الزهد اللائذ بأركان المقدس. ذلك أن الإعلان عن صورة الشاعر في أمسية ما، هو دعوة ضمنية لحضور طقس تطهيري بامتياز.
إن صوت الشاعر بهذا المعنى، مطالب بأن يكون التعبير الصريح والمطابق لما يعول الجمهور سلفا على سماعه. علما بأن المقامات الإيقاعية لهذا الصوت، تتشكل بإرادة صاحبها على أرضية واعية بمقاصدها وغاياتها، التي يمكن اختزالها أولا وأخيرا، في المراهنة على إنجاح احتفالية الطقس، قبل أي رهان فني أو جمالي آخر. كما أن العبرة هنا بالنسبة لجمهور العامة، تكمن في الاستمتاع بانصهارها التام في المناخ العام المعد بعناية من قبل صورة وصوت الشاعر.
نسبة ملموسة من ظاهرة التكريس التي يتمتع بها غير قليل من الشعراء، تعود لطبيعة الخانة التي يتم إقحام صورتهم فيها، إما عن طريق الخطأ، أو على أساس ضوابط موضوعية.
أما بالنسبة للشاعر المختلف، والمتميز بنأيه التام عن ملابسات هذه الأجواء، فسيكون هو أيضا، وانسجاما مع مغايرته الشعرية، مدعوا للبحث عن إبدالات مغايرة تدل عليه، ويهتدي جمهوره الخاص بعلاماتها. بمعنى أن تكون مختلفة جذريا عن جمهور «العامة» التي لا تتفاعل مع الإنشاد اللغوي – كي لا نقول الشعري- على ضوء ما تمتلكه من زاد معرفي. باعتبار أن أمر هذا الزاد، يقع خارج اهتماماتها واختصاصاتها، التي لا تعنيها في شيء. فحسبها والحالة هذه، أن تكون مؤهلة للاندماج في الطقس التطهيري، وفق الأعراف المتداولة في سوق السماع الشعري.
والجدير بالذكر، أن نسبة ملموسة من ظاهرة التكريس التي يتمتع بها غير قليل من الشعراء، تعود لطبيعة الخانة التي يتم إقحام صورتهم فيها، إما عن طريق الخطأ، أو على أساس ضوابط موضوعية. والملاحظ أن الشاعر الذي لم «يحظ !» في مساره بهذا التواطؤ، سيجد نفسه موجودا خارج هذه الخانات. ما يعني بقاءه خارج فضاء الذاكرة التطهيرية، المساهمة عمليا في تحشيد القاعة، وفي تنشيط شعائر طقس السماع، كي يظل في نهاية المطاف، مستبعدا عن ملابسات طقس التطهير الشعري. وبالتالي فإن الشاعر ذاته المقيم خارج الخانة التأطيرية المتواضع عليها عرفيا، سيجد صعوبة جد بالغة في استمالة جمهور الأماسي الشعرية، باعتبار أنه لا يمتلك شيفرة الإثارة، التي يعود لها الفضل في تفجير عدوى الاستجابة، كي تشمل كل شيء، بما في ذلك الكراسي الفارغة والحيطان الصماء. وحتى في حالة افتراضنا أن الشاعر ذاته، يتمتع لدى النخب بسلطته الرمزية، المستقاة أساسا من رأسماله الشعري المشهود له بالفرادة والخصوصية. إلا أن هذه السلطة، لا تلبث أن تتبخر داخل القاعة التي يرشح فضاؤها ببؤس ذلك التلقي البارد، والمغرق في حياده.
طبعا لا جدال في أن الرؤية الحداثية للموضوع، تستخف عادة بأهمية وجدوى هذا الجمهور، استخفافها بفضاءات السماع، وذلك من منطلق ترجيحها لأولوية قراءة النص، حيث بوسع القارئ النموذجي أن يتفاعل مع الشعرية المختلفة، التي تنتزع جمالية كتابتها من شراسة البياض ورحمته. وهي أولوية معززة بترسانة وازنة ومتجددة من المفاهيم، التي دأبت على إقصاء المقومات الشفاهية من مجال الكتابة. كما أنها أولوية تندرج ضمن قناعتنا الراسخة بسلطة المكتوب، باعتبارها تتويجا معرفيا، لسلسلة طويلة من المقاربات النظرية المتعددة المشارب والأبعاد، سواء من حيث مرجعياتها، أو منهجياتها، التي ساهمت بحق، في تفريع مسارات المعرفة الشعرية، وتفجير ما تطرح كتاباتها من أسئلة، يتكامل فيها الجمالي بالفكري.
إلا أن هذه القناعة، لا يمكن بحال أن تصرفنا عن الخسائر الجسيمة التي تراكمها التداعيات الخرقاء، لما سبق لنا أن وسمناه بـ«البعد التطهيري» للإنصات، المستند عادة على استراتيجية النمذجة المسبقة لأنماط القول الشعري، حيث يطمئن، أو بالأحرى يتسلى «الغاوون» وبشكل آلي، بنموذجهم الأكثر حضورا في ذاكرتهم، القادر على تحميسهم، وتنشيط أحاسيسهم المتعبة، التي أوشكت أن تجهز عليها إكراهات المعيش. ذلك أن هذا الاطمئنان المبطن بشحنة عالية ومضاعفة من الجهل بالحد الأدنى من مقومات البناء الشعري، هو الذي يفاقم من معضلة التقييم المجاني والعشوائي للتجارب الشعرية ككل، مؤثرا بشكل مباشر في تلويث طقس الإنصات وتسطيحه، بما يلغي أي إمكانية لتمييز هسيس القول عن لغط الهدير. وهنا تحديدا، سيكون على الصوت السعيد بترحاله خارج ظلمة الخانات، أن يبحث عن فضاءاته المغايرة، والمتحررة تماما من إكراهات أسواق السماع.
شاعر وكاتب من المغرب