الباحث البريطاني اندرو هاسي وهو من كبار خبراء بلده في الشأن السياسي والاجتماعي الفرنسي ومدير مركز «دراسات ما بعد الاستعمار» في جامعة لندن، بالإضافة إلى تكريسه جزءًا من وقته لكتابة المقالات لصحف بريطانية كالـ «غارديان» والـ»نيوستيتسمان» ولـ»هيئة الاذاعة البريطانية» تطرق في كتاب صدر مؤخرًا لموضوع عرب فرنسا وعلاقتهم بالسلطة الفرنسية. وصدرت مطلع هذا العام النسخة الورقية للكتاب بعنوان: «الانتفاضة الفرنسية، الحرب الطويلة بين فرنسا وسكانها العرب»8
وشاءت الصدف ان يأتي نشر الكتاب في وقت تتصاعد فيه المواجهة بين الحكومة والسلطة في فرنسا، من جهة، مع مجموعة من سكانها العرب من أصل جزائري وتونسي ومغربي من جهة أخرى، بلغت ذروتها في عملية اغتيال رسامي الكاريكاتير في صحيفة «شارلي ايبدو» الساخرة في باريس على يدي شابين جزائريين قتلا فيما بعد. وقبل ذلك باشهر وسنوات تمثلت حدّة الغضب المتبادل بين الجانبين في التظاهرات العنيفة التي وقعَت في ضواحي العاصمة باريس وفي ضواحي مدن فرنسية اخرى يكثر فيها السكان من أبناء المغرب العربي الذين هاجروا إلى فرنسا في فترات مختلفة.
اندرو هاسي يصف في كتابه ما جرى ويجري في هذا المجال، ويحاول التعمّق في الأسباب التاريخية والاجتماعية التي أدّت إلى حدوث ما سمّاه «انتفاضة عرب فرنسا».
عرض المؤلف مقاربة كتابه في المقدمة حيث قال ان الخلاف ما بين السلطة الفرنسية والسكان من أصل مغربي عربي يشكّل امتدادا للمواجهات والخلافات التي جرت خلال فترة استعمار فرنسا للجزائر والمغرب وتونس. السلطة الفرنسية كانت وما زالت تريدهم ان يكونوا فرنسيين اولاً ومسلمين ثانيا وهم يريدون ان يكونوا مسلمين عربا أولاً. بعض عرب فرنسا من شمالي أفريقيا يحمل الجنسية الفرنسية أو الاقامة الرسمية في فرنسا بالإضافة إلى جنسياتهم التي يتمسكون بقيمها الحضارية والدينية، وخصوصا لكون أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا لم تتقدم كثيرا وظلّوا يُعاملون وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وهذا الأمر ينطبق، حسب الكاتب، على سكان ضواحي مدن فرنسا من العرب الأفارقة الأصل وخصوصا الشباب من بينهم، أكثر من غيرهم، إذ يشعرون وكأن الاستعمار الفرنسي لبلادهم ما زال مستمرًا حتى الساعة وأنهم غرباء على الأرض الفرنسية حتى ولو حملوا الجنسية الفرنسية.
ومما زاد تدهور العلاقة، حسب المؤلف، واستنادًا إلى مصادر اعتمدها، ان الانتهاكات التي نفّذتها الدول الغربية بما فيها فرنسا في دول عربية مؤخرا ودعمها المستمرّ لاسرائيل في اعتداءاتها وتنكيلها بالشعب الفلسطيني (قتله واحتلال أراضيه) ارتبطت بشكل مباشر بازدياد حدة التنافر والغضب لدى المجموعات العربية المسلمة في فرنسا ضد السلطة الفرنسية، الأمر الذي دفعها إلى اعتماد العنف الذي استوحته من المنظّمات الجهادية المنتشرة حاليًا في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. كما تأثر الشباب المغربي العربي المقيم في فرنسا بما سُمّي «الربيع العربي» الذي انتشر في دول الشرق الأوسط في عام 2011، حسب الكاتب.
ويذكر الكاتب في هذا المجال قضية الجزائري محمد مراح، الإسلامي الجهادي من أصل جزائري الذي تأثر بدعوات قادة منظمة «القاعدة» ونفذ عملية اغتيال حاخام يهودي وولديه وفتاة اخرى في مدينة تولوز الفرنسية في آذار/مارس عام 2012، ثم تمَ قتله على يد الشرطة الفرنسية، وتحوّل إلى بطل في نظر بعض المجموعات العربية-الأفريقية الشمالية منهم مَنْ اعتبر أن مراح كان ينتقم للنساء والأطفال الذين قتلتهم إسرائيل والدول الغربية.
ويرى هاسي ان احدى أهم المشاكل في علاقة السلطة الفرنسية بسكانها من ذوي الأصل المغربي انها لا تعرف كيفية التعاطي معهم. وهذا الأمر سواء أكانوا خارج السجون أو في داخلها. وقد تحدّت الكاتب إلى مدراء وحراس السجون التي يقبع فيها مغربيون إسلاميون جهاديون، وأكدوا له هذا الأمر. وقال له أحدهم: «لا يمكننا معاملتهم كباقي السجناء الاوروبيين وكمجرمين عاديين. انهم يتصرفون داخل السجن وكأنهم أعضاء في جيش سري يتحضر للقيام بعمليات ضدنا». أما مديرة أحد هذه السجون فقالت ان «سجوننا أصبحت مضخّة لإنتاج الإسلام الجهادي الراديكالي في فرنسا. انهم يتكاثرون ويتزايد كرههم لحضارتنا».
ويعترف الكاتب بأنه وجد صعوبة في كتابة خلاصة لكتابه تضمُ مقترحاته لتحسين الأوضاع، بالرغم من انه تعمّق في دراسة أوضاع عرب فرنسا داخلها وخارجها. فقد ضمّ كتابه خمسة اقسام ومقدّمة. القسم الأول تطرّقَ إلى الأوضاع في فرنسا بالنسبة لموضوع الكتاب والأحداث التي جرت في الأشهر والسنوات الأخيرة، والقسم الثاني شمل عرضا واسعا لما حدث في الجزائر من تبدّلات في السلطة في العقود الأخيرة وعلاقته وتأثيراته على الشباب الجزائري في فرنسا، وفي القسم الثالث والرابع فعل هاسي الشيء نفسه بالنسبة للمغرب وتونس. وفي القسم الأخير بعنوان «سجناء حرب» أكد انه من الصعب التنبؤ بماذا سيحدث في علاقة السلطة الفرنسية بالمنتفضين عليها من أبناء المغرب العربي في فرنسا. واعتبر الأمر معقدا إلى اقصى الدرجات. فعمليات التظاهرات العنيفة في شوارع الضواحي الفرنسية التي يقطنها سكان فرنسا العرب استمرت حتى كتابة الكتاب. وكما نعلم، فان العمليات ضد مؤسسات فرنسية تتحدّى الإسلام مستمرة بالإضافة إلى الاعتداءات على الأشخاص والمدافن في المدن الفرنسية الكبيرة وضواحيها.
وطالما ستستمر فرنسا في المشاركة في عمليات عسكرية ضد دول في الشرق الأوسط وأفريقيا تستهدف فيها مجموعات تؤيد الإسلام الجهادي، فان الوضع في ضواحيها العربية سيتأزم حسب هاسي. ويستشهد الكاتب بالعمليات العسكرية التي قامت بها فرنسا في شمالي مالي ضد مجموعات جهادية جزائرية كانت تسعى إلى خلق حالة من المواجهة مع السلطة في جنوب الجزائر. ويشير الكاتب إلى ان بعض الجزائريين والمغربيين الفرنسيين المتعاطفين مع الحركات الجهادية الإسلامية يعتبر ان هذه المبادرات العسكرية الفرنسية في أفريقيا تمثّل ضربا جديدا من الكولونيالية (الاستعمار والتدخل في شؤون دول العالم الثالث)، فيما تخشى السلطة الفرنسية من انتشار الحركات الجهادية إلى مجمل الدول العربية في شمال افريقيا ابتداء من الجزائر وتونس والمغرب وليبيا وربما إلى دول أوروبية واقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وان تتهدد المصالح النفطية لفرنسا والدول الأوروبية في المنطقة برمتها.
ويصف الكاتب الحرب القائمة بين فرنسا وسكانها العرب بحرب محلّية قد تتحول إلى حرب عالمية رابعة، وخصوصا بسبب استمرار الخلافات الجذرية بين تعامل السلطة الفرنسية السلبي مع القضايا الإسلامية والعربية في فلسطين والعراق وأفغانستان غير المتوافق مع تعاطف ورغبات العرب الفرنسيين المسلمين مع هذه القضايا، مما يزيد تهميش وتأجيج مشاعر هذه المجموعات وانطلاقها ربما في حرب جديدة ضد «الكولونيالية الفرنسية» مشابهة لحروب انتزاع الاستقلال من فرنسا المستعمرة في الجزائر والمغرب وتونس في خمسينيات القرن الماضي التي يتطرّق إليها الكتاب بشكل مفصّل.
الجزائر، المغرب وتونس
يتطرق هاسي إلى الفترة التي استولى فيها الجيش الجزائري على السلطة، عام 1992 بعد فوز «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الانتخابات الاشتراعية، ويربطها بالشعور بالاحباط لدى فئات من الجزائريين المقيمين في فرنسا، وخصوصًا شباب ضواحي المدن الفرنسية الكبرى الفقراء، الذين تمنّوا تبدّل النظام الاقتصادي في بلدهم الأم، حسب الكاتب، أملاً في العودة إليه وتجاوز تهميشهم المتزايد في المجتمع الفرنسي. وخلال ذلك يعرض الكاتب الكثير من الوقائع والتحليلات حول تاريخ الجزائر الاجتماعي والسياسي. وبرغم أهمية هذا القسم من الكتاب، فانه يشمل تفاصيل مكثفة تصلح لكتاب آخر، لأنها تخرج في بعض الاحيان عن المقاربة الاساسية للكتاب. ولكن وفي الفصل الخامس عشر الذي يتحدث فيه عن مواجهات الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول مع الفرنسيين الذين عارضوا إعطاء الجزائر استقلالها في اواخر الخمسينيات صيف عام 1962 يرتبط الأمر بالموضوع الأساسي لأنه يظهر عنصرية بعض الفرنسيين الذين عاش قسم منهم في الجزائر ضد الجزائريين العرب عمومًا، والتي بدأت خلال فترة الاستعمار واستمرت في حقبات لاحقة اخرى وبقيت آثارها حتى الآن، مما يساهم بالشعور بالغربة والتهميش لدى الفرنسيين من أصل جزائري أو مغربي عربي عمومًا. كما ان الكاتب يشير إلى عمليات تفجير واعتداءات ارتكبتها «جبهة التحرير الوطنية الجزائرية» في صيف عام 1958 على الأراضي الفرنسية التي تجاوزت الـ181 عملية. وهذا بدوره ساهم في حقن مشاعر الطرفين الجزائري والفرنسي تجاه بعضهما البعض، في رأي الكاتب.
ومنذ تلك الحقبة، ارتبط الإسلاميون الجزائريون الجهاديون، حسب هاسي، بالفكر الوهابي التكفيري واستمر هذا الارتباط حتى الساعة، وانتشر لدى الاجيال الجديدة من الجزائريين المقيمين في فرنسا. وبالتالي فان «الجبهة الإسلامية للانقاذ» اكتسبت موطئ قدم (هي ودعاتها) في الأرض الفرنسية آنذاك واعتبرت ان حربها لا تشمل الجنرالات الذين حرموها السلطة في الجزائر فحسب، بل تضم أيضا السلطة والشعب الفرنسيين اللذين أيدّا الانقلاب العسكري ضدها في الجزائر عام 1992. وبعض هذا الشعور أيضا، حسب الكاتب، مستمر لدى قسم من جزائريي فرنسا الذين يقومون بعمليات جهادية ضد أهداف فرنسية واوروبية التي بدأت منذ عام 1994.
ويعرض الكتاب تفاصيل تلقي الضوء أكثر على دوافع العمليات التي جرت مؤخرا في فرنسا واوروبا وبالتالي يكتسب الكتاب أهمية متزايدة.
وبالنسبة للمغرب فان دائرتي الاستخبارات الفرنسية والمغربية اكتشفتا، حسب المؤلف، ان خلايا ارهابية مكوّنة من مهاجرين مغاربة إلى فرنسا ارتكبت عمليات تفجيرية على الأرض المغربية وفي اسبانيا وفرنسا وبعضها انطلق من مدينتي فاس وساليه المغربيتين، وان أعضاء هذه الخلايا انتسبوا بدورهم إلى الفكر الوهابي التكفيري. ففي عام 2002، حسب الكاتب، تبين للأجهزة الأمنية أن مدينة سلا كانت مقرًا لمجموعة إرهابية خطيرة اعتنقت الفكر السلفي الجهادي وارتبطت بجهاديي الجزائر وبمنظمة «القاعدة». وفئة من هذه المجموعات نفذّت تفجيرات القطارات في العاصمة الاسبانية مدريد في اذار/مارس من عام 2004 وضمّت جمال زوقام ومحمد بقالي ومحمد الشاوي. وهذه المجموعات تعتنق، حسب المؤلف، فكرة ارتباط الاسبان والفرنسيين وسلطتيهما باليهود الاسرائيليين لنزع الصفة الانسانية عنهم وتبرير العمليات التفجيرية ضد المدنيين منهم، حسب هاسي. وكثير من المنتسبين المغاربة إلى هذه المجموعات من مواليد منطقة طنجة في بلدهم الأصلي، القريبة من الشاطئ الاسباني والمتفاعلة اجتماعيا مع اسبانيا، والتي تتزايد فيها البطالة وينتشر فيها الفقر. وبين هؤلاء جمال زوقام وأعوانه، مفجّري قطارات مدريد. وكرههم لا يشمل اسبانيا وحدها بل فرنسا واوروبا اللتين يعتبرونهما مسؤولتين عن أوضاع طنجة المترديّة. وارتكبت مجموعات مشابهة في جذورها ودوافعها تفجيرات في مراكش في ربيع عام 2011 ( مقهى آرغانا الذي فٌجّر وHدى إلى مقتل 17 شخصًا، معظمهم يحملون الجنسية الفرنسية).
وبالنسبة للتونسيين المقيمين في فرنسا، يقول الكاتب أن قسما كبيرا منهم ابتهج لدى سقوط نظام زين العابدين بن علي الذي كان صديقا للسلطة الفرنسية ولبعض اعضاء حكومة نيكولا ساركوزي آنذاك وقبل ذلك لأعضاء الحكومات الفرنسية الأخرى.
وعلى رأس هؤلاء كانت وزيرة العدل والدفاع في حكومة ساركوزي ميشيل آليو ماري التي اقترحت إرسال دعم عسكري فرنسي لنظام بن علي لمنع سقوطه وتبين لاحقًا انها تمتلك مصالح مادية شخصية في تونس في ظل النظام السابق. وهذا الأمر وغيره صَعَّد، حسب الكاتب، عملية ربط فرنسا الرسمية بالقادة التونسيين السابقين في عقول التوانسة المقيمين في فرنسا. وتحوَّل غضبهم ضد نظام بلادهم السابق إلى غضب تجاه فرنسا. وتأثر تونسيو فرنسا شأنهم شأن جزائرييها ومغاربتها، سلبًا إلى درجة كبيرة بالرسوم الكاريكاتيرية الساخرة من الإسلام والنبي محمد التي نشرت في مجلة «شارلي ايبدو» الفرنسية وذلك قبل حدوث الهجوم الأخير على المجلة ومقتل رسامي الكاريكاتير فيها اغتيالاً على يدي شابين جزائريين. هذا ما أشار اليه هاسي في الكتاب (ص 344). وقال شاب تونسي قابله الكاتب، قبل هذا الاعتداء: «ظَنَّتا ان الاوروبيين وفرنسا سيقدمون المساعدات المادية والمالية لتحسين أوضاعنا، ولكنهم بدلاً من ذلك أهانوننا في كاريكاتير (شارلي ايبدو) لانهم يكرهوننا ويدّعون الإهتمام بنا».
وهنا تتجلى أهمية كتاب هاسي والمنحى التحليلي العميق في مقاربته الأساسية.
Andrew Hussey: The French Intifada: The Long War Between
France and Its Arabs.
Faber & Faber, London 2014
464 p.
سمير ناصيف