من «مورصو» ألبير كامي إلى الأمريكي غريغ ستيفان

من رواية ألبير كامي الشهيرة «الغريب»، بقي مشهد «مورصو» وهو يطلق خمس رصاصات من مسدّسه على «العربي» المجهول؛ عالقا بذاكرتي أنا التونسي المغاربي. ولا أدري لِمَ قفز إلى الذاكرة وأنا أقرأ خبر جريمة تشابيل هيل، التي ارتكبها غريغ ستيفان في حق ثلاثة فلسطينيّين لمْ يمتّعوا بعد بشبابهم: ضياء شادي بركات 23 سنة، وزوجته يسرى أبو صالحة 21 سنة، وشقيقتها رزان أبو صالحة 19 سنة.»قتلهم بعبثية وبلا أدنى شعور بالذنب وكأنه قتل ثلاث حشرات، ثم سلم نفسه للشرطة.» كما كتب صديقنا واسيني الأعرج، وهو يستعرض مظاهر من هذه الإسلاموفوبيا التي تضرب بجذورها في ثقافة الغرب. كلّ ما في الأمر أنّ هذه الإسلاموفوبيا كانت في الأدب أشبه بالسيناريو، والسيناريو عمل غير مكتمل، أو هو الفيلم مكتوبا وليس مرئيّا. وها نحن اليوم نشاهده في صور ولقطات ومناظر، وفي مؤثّرات الصوت واللون والضوء؛ وما إليها من الأساليب والرموز التي لا تقلّ قيمة عن تلك التي أنجز فيها وبها مخرجون كبار أعمالهم السينمائيّة ؛ وكأنْ لا حواجز بين عالم الأدب الإيهامي الداخلي، وعالم السينما الطبيعي الخارجي حيث لا ينفصل الزمان عن المكان. بل الحدود الجغرافيّة والإداريّة والسياسيّة تكاد تكون وهميّة مصطنعة.
عام 1955 وثورة الجزائر التحريريّة في بداياتها، كتب كامي في مجلّة «أكسبريس» مقالا وسمهُ بـ»إرهاب وقمع»؛ ومّما جاء فيه :»يُسوَّغُ الإرهاب في الجزائر وغيرها، بحسّ الفقدان: فقدان الأمل. وهو إنّما يولد في كلّ مكان وزمان؛ من إحساس المرء بأنّه موكول إلى وحدته وعزلته، وما قد يعتريه فهو بلا سند يفزع إليه، ولا رجاء له في غد منظور؛ وأنّ الأسوار التي تحيط به سميكة غليظة، بلا نوافذ؛ لا تتيح له حتّى مجرّد التنفّس، أو التقدّم، ولو شيئا ما، إلى الأمام. وهكذا تُسدّ المنافذ في وجه سواد أعظم، ليس له من ينوبه بَايًا كان أو سلطانا، يتكلّم عنه أو يشخّص حاله. والصمت الذي يحويه، والبؤس الذي يغمره، ووَهَنُ الغد وانقباضه؛ وهو الذي فقد الأمل وعضّه الهوان، فيما الأمم تنافح عن نفسها؛ كلّ هذا جعل ظلمات اليأس تطبق على جموع الجزائر؛ فلم يكن بدّ من أن ينطق المكافحون، من أحشاء تلك الظلمات».
لعلّ في هذا الذي اجتزأناه من حديث كامي، ما قد ينمّ على أنّ هذا الكاتب الذي قرأناه؛ ونحن يافعون فشباب فكهول، وأحببنا أعماله، كان يدرك أنّ الجزائريّين إنّما حملوا السلاح؛ تحت وطأة اليأس من فرنسا. على أنّه لم يتمثّل ذلك إلاّ في صورة تمرّد لا أكثر ولا أقلّ، كما يقول أحمد طالب الابراهيمي ـ وأنا أستأنس بمقال قديم له ـ ولم يتقبّل أنّها ثورة من أعظم ثورات التحرير في الأزمنة الحديثة. ونقدّر أنّ لذلك دوافع قد تكون ثقافيّة بالأساس، وربّما هي نفسيّة خاصّة في جانب منها، وربّما هي نفسها التي تغذّي اليوم مواقف الأوروبيّين الذي ينفخون في الإسلاموفوبيا، على إقرارنا بأنّه لا وجود لشخصين على هذه الأرض، متماثلين تماما، فكلّنا فريد نفسه جسدا و نفسا وخلُقا. ولكنّ الإسلاموفوبيا شأنها شأن أيّ رُهاب، يمكن أن يجعل من أيّ فرد عاقل سويّ؛ بحقنة واحدة تحت الجلد، كائنا مجرّدا من كلّ انسانيّة؛ فإذا الخلايا العنصريّة النائمة فيه تستيقظ لتلفظ أيّ نفاية يمكن أن تكون قد دارت بخلده، حتّى ليتهيّأ لنا أنّ أمثال هؤلاء صورة من أفراد منوّمين تنويما مغناطيسيّا، أو هم في قبضة يد واحدة، أو هم مجرّد أصداء لأصوات تتكلّم عنهم. فقد احتجّ كامي على بعض ما جرى في أوروبّا مثل أحداث بودابست: الثورة أو الانتفاضة المجرية التي كنت تعادي هيمنة السوفيت ؛ وقد دامت من 23 أكتوبر إلى 4 نوفمبر 1956، ولكنّه لزم الصمت إبّان العدوان الفرنسي الأنكليزي على قنال السويس. بل هو لم يُدن أعمال التعذيب الوحشيّة بحقّ الوطنيّين الجزائريّين، على غرار مثقّفين فرنسيّين شرفاء راعهم أن تكون فرنسا قد انحطّت إلى تلك الدرجة من الهمجيّة. وفي حين كان الجزائريّون يسُتشهدون بالآلاف من أجل استقلال بلادهم، نجده يقول: « أنا أناهض جميع مظاهر الاستسلام، ومهما يكن من حسن النوايا المتعلّقة بمطالب العرب، فإنّ علينا أن نسلّم بأنّ استقلال الجزائر القومي؛ دافعه العاطفة لا أكثر ولا أقلّ». والغريب أنّه قال هذا، على إقراره بأنّ «سياسة فرنسا في الجزائر كانت متخلّفة دوما بعشرين سنة عن واقع الأحداث». أو قوله :» مهما تكن مصادر مأساة الجزائر، قديمة متأصّلة، فثمّة أمر ثابت: لا مبرّر البتّة لموت البريء». وفي تعليق بعضهم على مثل هذا الموقف، من أنّه لا يفعل أكثر من إبقاء الوضع على ما هو عليه؛ مقدار من الصواب. وقد ذكر امانويل مونيه أنّ الذين يرفضون استعمال العنف للإطاحة بالحكم الجائر، يتناسون أنّ الجور هو صنو العنف وقرينه. فالحرية ملازمة أو تكاد لوضع أيّ منّا؛ الواقعي، بل هي محصورة في نطاق حدوده هو. وهي مصدر قوة عندما لا تضيق بنا أو نضيق بها. «الحرية كالجسد، لا تتقدم إلاّ بين الحواجز وبالاختيار والتضحية… والعبد هو من لا يرى عبوديّته، مهما كان سعيدا تحت وطأتها». ونحن نعرف أنّ كامي وقف بقلمه إلى جانب الجمهوريّين الاسبان، وقد أفضى نضالهم ـ على عدالة قضيّتهم ـ إلى مصرع أبرياء؛ كما هو الشأن في كلّ الحروب والثورات. بل هو سوّغ العنف في مقاومة الاحتلال النازي :» لست بالقائل إنّ الردّ على العنف، يكون باستدرار الدعوات والبركات. وأقدّر أنْ لا مفرّ من العنف. لقد علّمتني سنوات الحكم ذلك». أمّا عندما يتعلّق الأمر بثورة التحرير الجزائريّة، فالأمر مختلف؛ ففي الندوة الصحافيّة التي عقدها إثر استلامه جائزة نوبل، ردّ على شابّ جزائريّ سأله عن موقفه من هذه الثورة : «أنا ما فتئت أدين الإرهاب، وعليّ أن أدين عمليّات الإرهاب الأعمى تلك التي تجري في أزقّة الجزائر، وقد تصيب أمّي ذات يوم. إنّي لمؤمن بالعدالة، غير أنّي أدافع عن أمّي قبل العدالة». والحقّ أنّ كامي كان على طرف النقيض من ذلك، وقد ساق «حججا» هي من المضحكات المبكيات، فكتب: «علينا أن نعدّ مطالبة الجزائريّين باستقلالهم، مظهرا شأنه شأن مظاهر الامبرياليّة العربيّة الجديدة[هكذا] التي تحلم مصر بتزعّمها، في نعرة من الادّعاء؛ تستخدمها حتّى الآن، روسيا من أجل نواياها الاستراتيجيّة ضدّ الغرب». ويردف أنّ ثورة الجزائر؛ وكأنّ صوته صوت لاكوست وسوستيل: «تواطؤ غريب تتألّب فيه علينا مدريد وبودابيست والقاهرة، وأنّها تشيح بوجهها عن سدّ ضرورات الحياة الماديّة؛ لجماهير يزداد عددها يوما بعد يوم، وهي تحلم بوحدة إسلاميّة شاملة قد تكون أوضح صورة وملامح؛ في مخيّلة حكّام القاهرة، منها في الواقع التاريخي».
هل كان الأمر يتعلّق في مواقف كامي هذه، بعقدة ما؟ ربّما. فقد كتب جول روا وهو صديق له يقول :»إنّ ما يكنّه كامي من برّ عميق، لشخص تلك العجوز الأميّة؛ كان يتحوّل إلى شعور دينيّ. ولقد كان تراب الجزائر يتجسّد في طيف أمّه النابضة حياة… وكان الجزائريّون يصرّون على أنّ كامي رجل عظيم، وإن فرّقت بينهم وبينه الحياة والمقادير. وما هي هذه الحياة؟ أليست سوى صورة مجرّدة في نفسه، من المرأة التي وهبته الحياة: الأمّ… ولقد كان بميسور كامي ما دام الأمر يتعلّق بقضايا فكريّة مجرّدة، أن يدين حماقات بني قومه، وأن يشهّر بجرائمهم. أمّا والحياة هي المقصودة؛ فقد انضمّ إلى جانبهم، كما هو الشأن في التراجيديا الإغريقيّة، أثناء النطق ببعض الألفاظ النحسة؛ فتسيل على إثرها الدماء.» ويقول أحمد طالب الابراهيم، إنّه زار كامي عام 1956 في وفد الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريّين، وممّا قاله لهم، وهو يودّعهم :»ألا خذوا حذركم. لقد أوشكت الساعة تدقّ، ولا سبيل لأيّ كان أن يبقى على الهامش أو في الوسط أو على الربوة. وإذا ما تفاقم العنف واستفحل، فالواجب المحتوم؛ حتى بالنسبة إلى مثلي، هو العودة إلى رهطه وذويه، حيث يستحيل الحياد أو البقاء خارج المعمعة».
خمس رصاصات تلك التي أطلقها «مورصو» على «العربي» المجهول، ما يزال صداها يتردّد؛ وكأنّها صورة أخرى من مسرحيّة مرجريت دوراس «أغنية الهند» حيث أصوات في بهو الاستقبال، تهيّئنا لظهور نائب قنصل لاهور:
ـ هل قتل أحدا ما؟
هو معتاد على إطلاق النار ليلا في حدائق شاليمار.. أتعرف ذلك؟… عثروا على رصاصات في مرايا منزله بلاهور.. لقد خانته أعصابه.. هذا أمر عادة ما يحدث.. اعتاد أن يصرخ.. مجرّد خليط من الكلمات.. اعتاد أن يضحك أيضا…
ربّما هي رصاصات غريغ ستيفان وهي تجهزعلى الفلسطينيّين الثلاثة.. بدم بارد أو دم عنصريّ حارّ.. سيان.. وهل للعنف عينان؟

منصف الوهايبي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول النهدي الحضرمي:

    اﻷعمال اﻻدبية والفنية العظيمة ﻻ تجعل من أصحابها رجال عظام مادامت مواقفهم اﻻنسانية واﻻخﻻقية اتجاه بقية البشر فيها تحامل على اﻵخر لمجرد انه يختلف معه عراقيا وثقافيا ودينيا،فالناس تنظر الى مواقف هؤﻻ من خﻻل انحيازهم المجرد الى قضايا البشرالعادلة بعيدا عن أي حسابات أخرى ،أعرف الحق تعرف اهله هذا يلخص كل شي. وﻻيمكن لبيير كامو ان يكون مفكرا وكاتبا عظيما،وهو يرى في اﻵخر مجرد هامش وعاطفه تتحرك في فراغ الجغرافيا التي يراها انها غنيمة فرنسية ويجب ان تبقى كذلك

  2. يقول م.طنفور:

    مقال رائع، تصورت أن يمتد التحليل إلى رواية كمال داود : Meursaut, contre-enquête، التاريخ لا يعيد نفسه، وإن حدث ذلك، فسيكون على شكل مهزلة ، ليس إلا.

إشترك في قائمتنا البريدية