المؤسّسات الدولية والاعتماد المتبادل والترابط الثقافي بين الأمم، هي عناوين رئيسية بشّرت بها العولمة والأنظمة الليبرالية التي تقود قاطرتها. ولكنّها فشلت في المضي في هذه المخرجات الإيجابية، على نحو أعاد إحياء السياسة الواقعية التقليدية الباحثة عن توازن القوى، والاتجاه نحو تعزيز وضع الهيمنة والنفوذ بين الدول، بشكل يجعل الديمقراطيات الليبرالية الغربية اليوم تعاني من تبعات تحوّلات القوة العالمية، ضمن سياق دولي معقد بالأزمات على اختلاف مناحيها.
في اجتماع ثلاثي عُقد بأنقرة شهر سبتمبر 2019، وضمّ كلاًّ من أردوغان، بوتين وروحاني، أجاب الرئيس الروسي حينها بعبارات ذات دلالات عميقة في تعليق له على سؤال بخصوص إمكانية مساعدة روسيا للمملكة العربية السعودية بعد هجمات أرامكو، حيث قال «يكفي أن تتّخذ القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية قرارا، كما فعل قادة إيران، وهو شراء منظومة إس-300، أو كما فعل الرئيس أردوغان الذّي اشترى من روسيا أحدث منظومة للدفاع الجوي إس-400. بذلك سيتمكنون من حماية البنى التحتية في المملكة».
ستبقى الدول في القرن الحادي والعشرين في حالة تنافس وصراع من أجل المكانة والهيبة والنفوذ، في عالم تحكمه السياسة الواقعية وحسابات توازن القوى
مثل هذا التلميح الذي يمكن ربطه بما يحدث الآن على الساحة الأوكرانية من حرب بالوكالة بين موسكو من جهة، والغرب الأطلسي من جهة أخرى في نوع من اختبار للأسلحة الحديثة في المجالات العسكرية الاستراتيجية، يجعل كلام بوتين هنا يحيل على إدراكه العميق بأنّ بلاده دخلت مرحلة التفوّق النوعي على حساب منافسها الأول الولايات المتحدة. وهذا المسار الذي تقوده روسيا والصين يتقدم شيئا فشيئا نحو كسر مركزية الغرب، ومنهجية الهيمنة وسيطرة القطب الواحد. ويحيل على طموحات تحرّرية واضحة تجعل من قومياتهما مركزا للعالم. إنّه صراعٌ دائم لأجل الاعتراف، في وقت أثبتت فيه السياقات التاريخية أنّ أيّ نظام دولي أيديولوجي ارتكز على أيديولوجيا عالمية شمولية، على غرار الليبرالية أو الشيوعية، مُقدّر أن تكون له فترة حياة قصيرة. وسبب ذلك يرجع أساسا إلى الصعوبات الداخلية والعالمية التّي تتصاعد حينما يسعى القطب الواحد إلى إعادة صنع العالم على صورته هو. فهل أنّ هدف الصين الاستراتيجي مثلا، هو دفع الولايات المتحدة خارج آسيا، وتحقيق الهيمنة الإقليمية في نهاية المطاف؟ ربما يحيلنا هذا إلى تساؤل ميرشايمر: لماذا ينبغي أن نتوقّع أيَّ تصرّفٍ مختلفٍ للصين عن الولايات المتحدة عبر مسارها التاريخي؟ هل هم أكثر تمسّكا بالمبادئ من الأمريكيين؟ هل هم أكثر أخلاقيةً؟ هل هم أقلّ قوميةً من الأمريكيين؟ أو أقلّ اهتماما وقلقا على بقائهم؟ لا يوجد في الحقيقة أيّ أمر من هذه الأشياء، بالطبع من المرجّح أن تُحاكي الصين الولايات المتحدة، وتحاول أن تكون مهيمنا إقليميا. وبالتالي ستبقى الدول في القرن الحادي والعشرين في حالة تنافس وصراع من أجل المكانة والهيبة والنفوذ، في عالم تحكمه السياسة الواقعية وحسابات توازن القوى. منذ ابتعاد الاتحاد السوفييتي عن الساحة الدولية، لم يعد هناك اهتمام كبير بالحديث عن سياسات القوى العظمى. ولكن الصعود الصيني غيّر من هذا الموقف، لأن هذه التنمية لديها القدرة على إحداث تغيير جذري في هيكلية النظام الدولي. ناهيك من انبعاث روسيا وريثة الإمبراطورية السوفييتية ذات الثقل العظيم في نظام الثنائية القطبية في وقت ما. وعلى عكس روسيا التي تتورط في مشكلات دولية ذات طابع عسكري تقليدي مباشر، تتجنب الصين قدر الإمكان التورط في أي مشكلات دولية، وتسعى في الوقت نفسه لتنمية اقتصادها بشكل ملحوظ بما يجعل هيمنتها على آسيا أمرا واقعيا. ويبدو أنّ بكين تستفيد كثيرا من المواجهة الروسية الأطلسية، حيث يزيدها هذا الواقع الجيوسياسي والعسكري إدراكا بأنّ فكرة دخولها حربا ممتدة، أو سباقا عسكريا مع الولايات المتحدة والغرب عموما، سيرهق اقتصادها بشكل كبير، بما يؤثر في نموه. وبالتالي، فمن الأفضل لها أن تنتظر حتى تصبح في وضع يُخوِّل لها القدرة على المواجهة مع نظيرتها الأمريكية. وحتى التهديد بشن حرب على تايوان فهي ليست واقعية من منظور جيوستراتيجي، فالصين تناور بشكلٍ صريحٍ لأجل استبعاد الولايات المتحدة من الإقليم، من خلال تعزيز اتفاقية التجارة الحرّة مع دول آسيان، رغم الاستفزازات الأمريكية المتواصلة في بحر الصين الجنوبي التي تزعج بكين كثيرا، بالإضافة إلى سعي واشنطن الواضح لتشكيل أكبر عدد ممكن من التحالفات مع جيران الصين من أجل تقييد حركتها، ورغبة في تحقيق الاحتواء الحتمي للصعود الصيني الذي تراه أمريكا أمرا ضروريا، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي سابقا، من خلال تشكيل حلف الناتو لاحتواء امتداده. والقمة الأخيرة التي عقدها بايدن مع بعض الدول الآسيوية المجاورة للصين تأتي لخدمة هذه التوجهات على نحو أكيد.
محاولة فرض الديمقراطية الليبرالية على دول تُفضّل شكلا بديلا للحكم، أمر يثير في أغلب الأحيان مقاومة شرسة. ومن المؤكّد أن تُسبّب النزعة القومية مقاومةً كبيرة داخل الدول المستهدفة بتغيير النظام، وسوف تساعد سياسة توازن القوى أيضا في إعاقة المشروع في حالات معيّنة كما نراها الآن في عالم التحالفات الجديدة بعد عقدين من الزمن على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي كانت كافية لإنهاء لحظة الأحادية القطبية التّي بشّر بها تشارلز كروثامر يوم انهزم السوفييت وتفكك صرح معسكرهم الاشتراكي الشرقي. لقد صارت ملامح هذه النهاية بادية للعيان، كما أكّدها جون ميرشايمر وستيفن وولت، مع كلّ حرب جديدة تُشن، أو حلف جديد يُعقد، أو اعتراض فيتو مشترك في مجلس الأمن على إرادة الولايات المتحدة في مسألة دولية ما. حتّى صرنا نتحدّث اليوم عن ميزان قوى جديد يقسم العالم نصفين، تقف في نصفه الشرقي قوى منافسة صاعدة تُوصف بالتعديلية على غرار الصين وروسيا، في مواجهة قوى مقابلة تمثّلها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون تجد مصالحها محفوظة عبر الإبقاء على وضع الهيمنة قائما في النصف الغربي من العالم، ومنع قوى الشرق من أن تُحاكي نموذجها في الهيمنة.
الدول التعديلية كما يراها راندل شفيللر، هي تلك التّي تُعظّم ما تشتهيه أكثر ممّا تمتلك حاليا، لذلك سوف توظّف هذه الدول القوة العسكرية لتغيير الوضع القائم وتوسّع حدود ما تُعظّمه وتشتهيه. لهذا ستسعى الصين، كما فعلت الولايات المتحدة إلى أن تكون لها مصالح عسكرية على مستوى العالم، وخصوصا في مناطق النفوذ الأمريكي، وأهمها منطقة الخليج العربي التي تعتمد الصين بشكل كلي على دولها لتزويدها بالبترول. كما ستسعى الصين وروسيا أيضا بشكل كبير لتحقيق قدر من التعاون العسكري مع تلك الدول، بما يؤكد أن المستقبل سيشهد منافسة محمومة بين هذه الأطراف لتحقيق مصالحها مع دول هذه المنطقة. يبدو أنّ كل ما نراه يلخص عودة المشهد الدولي إلى حالة الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى.
كاتب تونسي