أخرج باكرا قاصدا عملي البعيد هناك في المدينة، أترك الريف نائما إلا من نباح كلاب تتظاهر بالحراسة وتتسكع بين الأزقة، مطلقة قهقهات نباحية عجيبة، لا أسمعها إلا في هذا الوقت من الصبح.. أحمل مطرية مغلقة خوفا من أن يصيبني طل وأنا لا صبر لي على البلل.. لكن وسوساتي تقول إني سوف أعود في المساء بالمطرية مغلقة، فهي لن تفتح ولن تبل.. عام جاف لم ينزل شيء في شهر الصبيب.. استرنا يا رب تقول عجوز تخرج من بعض أنهج المدينة، تشتري رغيف خبز ثم تقول لي بعد أن انتظرتني أن أبادر: صباح الخير.. لا أحد يقول لك من الغرباء صباح الخير في المدينة، إلا من أراد أن يدرب حنجرته على التصويت.. لذلك تعلمت ألا أبادر.. يخرس لساني في المدينة فيظل صامتا كمطرية مغلقة لم تفتح من مطر العام الماضي..
أتكئ على مطريتي كأنها عصا راع أفقدته المدينة أغنامه، أمشي تحت فوانيس نصفها منير، فوق رأسي خيط مسترسل من شجرات المدينة المتشابك وبين خطاي قطط تموء بشيء من الصلف المنكسر، تريد شيئا تأكله وتخشى في الوقت نفسه أن تمارس التسول العلني، الذي يمارسه أبناء آدم جهارة.. ليس مهما أن تتسول في المدينة المهم أن تمتد لك يدٌ بعد انحباس… أن تنفتح في وجهك اليد كمطرية مغلقة اشتاقت أن تنفتح فجأة لتعانق السماء.. تكون السماء مثل يد لا تحبس الخير فتسترسل خطوط مائها وتنزل خفيفة لطيفة لا تضر.
أنظر بعين راجية متسولة إلى سماء المدينة، التي لا يراها إلا الغرباء مثلي، وأهم بالدعاء فيصيبني شيء من الخوف أن يذهب صوتي هباء.. لست أدري لماذا تصوغ ذائقتي الدعاء بالفصحى: اللهم أرسل علينا صيبا يسقي برسيما لضرع جاف ولمطريتي العطشى من شهور.. مطريتي المغلقة كعيني كادح تعبان يعمل كل يوم، ولا يعرف عطلة إلا ما كان ضرورة.. قررت أن أفتح المطرية إذ لا مانع لديّ، فتحتها مترنما بصوت يطربني، وأنا أمشي وحدي في هذا المسار الطويل الذي لا ينتهي.. يخرج من نهج قريب رجل سبعيني يلبس البرنس يخرج وأنا في نشوة الحلم بالمطر فيربكني.. يقول: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ويلف طرف برنسه على الآخر كأنه وهو يدعو يطبق دفة باب على أخرى. أغلق المطرية في وجهه ثم أعيد فتحها وأضحك.. لباسه البرنس من غير برد يشبه فتحي المطرية بلا مطر.. فلماذا يعتبرني سفيها ويدعو عليّ؟ غلبت مطريتي برنسه فمضي لاعنا شياطين الصباح والمساء.. كل شيء يمضي هذا الصباح عبر بوابات السماء: عبر الدعاء.. الدعاء كلام يطلقه كل صوت يعتقد أن السماء سماؤه والأرض أرضه والشفاء آت إلى روحه دون بقية الأرواح… الدعاء يجعل الكلام مطرية مغلقة تنفتح طائرة منك إلى خالق صانعها وقد كتبت عليها كلمات زكيات توصلها إلى ما يعتقد المرء الداعي أنه مستقر كلامه.. هو بريد رباني ورسالة يريدها كل داع أن تصبح فعلا.. تطير مطريتي بكلامي إلى خالق الأنام بدعاء لا مثيل له: يا إلهي يا رحيما.. أدلق على مطريتي بالولا يسقي ويطفي..
في المقطع السردي السابق صنعت من صورة المطرية المغلقة كثيرا من التشابيه غير المألوفة واستعملتها في مشاهد تصويرية مختلفة وهذا يعني أمرين: أن التشبيه يمكن أن يكون إبداعيا من غير نظير وهذا معروف لكثيرين؛ وثانيها، وهو غير معروف لكثيرين أن الصور ما هي إلا نوع معلوم من التمثيلات الذهنية المرسلة غير المقيدة.
لقد عالج الذهن هذه التمثيلات بواسطة قدرة مهمة عند البشر، هي القدرة التصويرية التي تعني أن نبني وضعيات تواصلية بأشكال من التصوير مختلفة ومن زوايا نظر متعددة.
المطرية لم تستعمل في كلامي على أنها آلة واقية من البلل.. لقد جعلها السرد أعلاه تغادر بلادها الهادئة الساكنة، وهي قريتها المعجمية التي لا تغادر فيها المعاني منازلها، بل تظل عاكفة فيها حتى يطرق بابها طارق اسمه المتكلم الابتداعي. ليس المتكلم الابتداعي متكلما مبدعا بالمعنى الذي هو في الفن والأدب مقتصرا على جنس من المتكلمين يأتون بالكلام على غير أصوله العادية.. المتكلم الابتداعي هو أي متكلم يستعمل الألفاظ في سياق غير سياقها الذي وضعت لأجله.. هو على النقيض مما يسميه تشمسكي «المتكلم المستمع المثالي» الذي يتقن لغته كلاما وفهما ويستطيع أن يصلحها متى لاحظ أن أجنبيا أخطأ فيها. المتكلم الابتداعي لا يستعمل الكلام على أنساقه الأصلية المثالية ولا يتحدث إن تحدث عن المطرية حديث الناس عنها.. المبتدع يلعب بالمطرية في كل اتجاه إلى أن يستعيرها في التعبير عن أشياء لا علاقة لها بالمطر، كعين النائم الجذل السكران أو دعاء المتزمت الحيران.. المطرية لا تلعب أدوارها في هذا السياق إلا خارج أنساقها الأصلية، هي تدخل في نظام قياس غريب عنها في الأصل لكنها تلعب فيه دورا مهما وجيدا بواسطة الإيهام بالشبه.
لا أعلم عن أحد استعمل المطرية المغلقة في هذه السياقات المتتالية لتشبيه أشياء لا تستعمل فيها المطرية للتشبيه.. هناك شيء اسمه الخروج من بيت طاعة التشبيه.. يحاول الناس أن يبنوا للتشابيه والاستعارات حدودا ويمنحون الناس جوازات للسفر إليها وهذا عبث يشبه في قداسته غير الشرعية صكوك الغفران التي كانت تمنحها الكنيسة في عصور يشترى فيها الغفران.. لا واسطة بين التشابيه ومبدعيها ولا حدود يصنعها النقاد لها يكفي أن تتبع الكلام كيف يبدع في اليوم الواحد آلافا من الصور وبلا استئذان حتى تصدق أن الجمال خارج الصكوك.
ما جعلني في المقطع السردي السابق أنوّع من استعمال صورة المطرية المغلقة في تصانيف مختلفة من التشبيه هو انسيابية النص السردي نفسه من ناحية، ودائرية الكلام. لقد صنع السرد حكاية مطرية تشتاق لعملها: أن تفتح وتغلق، لكنها لا تقوم بدورها عند انحباس السماء. كأن عملها جبري، صحيح أن الخلق حر أن يفتح ويغلق المطرية، لكن العادة والوظيفة يجبرانه على ألا يفعل إلا إذا بكت الماء… لذلك سفه الشيخ الشخصية في القطعة القصصية.. المطرية، في هذا النص لعبت دورا آخر بناء على دائرية الكلام كان الكلام يعود كل مرة إلى مصب تصويري واحد متكرر ويتمثل في أن الشخصية تستعمله تشبيها في مقطع سردي قصير. كل شيء في المقطع القصصي هو تمثيل ذهني بمعنى أنه صورة يبنيها المرء عن شيء أو عن كيان، عن فكرة أو عن موضوع، ولا يوجد تمثيل إلا إذا استعملنا عبارة أو شيئا لكي نمثل بهما شيئا آخر. فكلمة مطرية هي تمثيل لمرجع هو المطرية الفعلية، ولذلك يقال إن كلمة مطرية لا تحجب المطر مثلما تفعل المطرية الحقيقية. من خلال هذه الكلمة يمكن أن نصنع صورا رمزية مثلما فعلنا مع التشابيه التي استخدمنا لها المطرية المغلقة. إن كانت عبارة مطرية العربية تمثيلا رمزيا فلأنها استطاعت أن تحفظ في الذهن صورة مرجعية للمطرية الحقيقية؛ فالكلمة قيدت باللغة مرجعا وخزن الذهن الكلمة والمرجع معا. غير أن عبارة مطرية وهي تستعمل في الكلام صنعت صورا أو تمثيلات غير مقيدة، بل كانت مرسلة.. بعبارة أخرى لبست الكلمة حللا مختلفة واستعملت في تمثيلات تصويرية متنوعة فقفزت إلى حديقة الحيوانات ومشت مع الكلب والقط ودخلت محراب المتدينين وسافرت إلى السماء بواسطة الدعاء..
لقد عالج الذهن هذه التمثيلات بواسطة قدرة مهمة عند البشر، هي القدرة التصويرية التي تعني أن نبني وضعيات تواصلية بأشكال من التصوير مختلفة ومن زوايا نظر متعددة. ومما جعل التمثيلات خفيفة في رقصها في المشاهد المختلفة طبيعتها الرمزية.. يسمح لك الرمز بأن تنقل العلامة من تمثيل إلى آخر ليس عليك أن تحمل في هذا النقل رخصة عبور أو جواز سفر، إذ لا حدود بين الرموز لو عرفت كيف تيسر التعامل بينها.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
جميل
المطرية ليست آلة واقية من البلل ، بل بكل بساطة آلة واقية من المطر
عندما تفتح المطرية في يوم ماطر فإنها تقيك من وقع المطر المباشر عليك
ولكنها بالتأكيد لا تقيك من البلل والرطوبة المتغلغلين في كل مكان وحتى في الجوارب
في مناطق عربية متفرقة تُستعمل (الشمسية) أو (المظلة) بدلا من (المطري)
(المطرة) أو (المطّارة) أو (المطرية) في لغة العسكر هي حاوية الماء التي يحملها الجندي متصلة بحزامه وخاصة عندما يمشي ويناور في الصحراء