ترتبط كلمة «إبداع» أو «مبدع» بالابتكار، أو إنشاء أو اختراع شيء جديد غير معهود، أما ما هو معروف بعلم البديع المرتبط بالكلام والشعر والأدب فهو يعني تحسين الكلام وتزيينه بالألفاظ التي تبديه جميلا. ارتبطت كلمة الإبداع أيضا بصنّاع الفنون في كل أنواعها، بدءا بالعمارة إلى تنسيق الجنائن، إلى هندسة المدن، إلى ابتكارات لا تنتهي من ابتكار المعنى إلى ابتكار الملموس.
لكن هذا السؤال الذي عنونت به مقالي، لفت نظري في مقال نقل فعاليات نُظِّمت للسنة الثالثة عشرة في باريس، لمواجهة عملية تدمير العالم من طرف أرباب التجارة والصناعات، التي لا تهتم سوى بتحقيق الأرباح الهائلة على حساب صحة كوكب الأرض والبيئة. المشاركون في النقاش كانوا مبدعين من كل المجالات فتحت لهم وسائل الإعلام أبوابها للإدلاء بآرائهم وأفكارهم، وهذه في حدّ ذاتها فكرة مبتكرة أتمنى لو يتم تعميمها في العالم أجمع. تمّ طرح الفكرة على هذا النّسق: «إن انغماس الفرد في كتاب أو لوحة أو زي جميل لا يعني أبدا أنه سيُحدِث ثورة، لكنّه يكسر الاضطراب اليومي الذي يحدثه إيقاع الحياة المألوف، لدرجة أن الجميع يتقبّل بشاعاته أو بمعنى آخر يألفها». على هذا الأساس فالمقصود هنا هو الوصول إلى إحداث ثورة جمالية، لكن من المؤسف أن المضي نحو هذا الهدف يتطلّب قطع مسافات طويلة لإبراز أن عالمنا وعالم الفن ليسا منفصلين، بل إن فصلهما هو الذي أدّى بكل تأكيد إلى تعقيدات جعلت الفن والإبداع يعيشان على هامش حياتنا، حتى إننا أصبحنا نسمع مقولات سائدة مثل التي تقول: «نحن لسنا بحاجة للفن لنعيش» وهذا حقيقي، ولا يمكن إنكاره، لكن لنتذكّر «أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»
للإبداع القدرة على جعل الناس يبتسمون، ويعشقون الحياة، مع تغير كامل لرؤيتهم لنوع الحياة التي يطمحون إليها. يمنح الفن مثلا طاقة إيجابية للفرد لبدء يومه، أو لتغيير مزاجه من سيئ إلى جيد، إنه مصدر لا تفسير له لخلق أفكار مغايرة وجميلة لجعل الفرد أكثر إنتاجا وحركة. الأغنية التي تجعلك تضحك، أو تبكي أو تبتسم أو تحلم هي في الحقيقة أداة تُظهر أفضل أو أسوأ ما فيك، وهذا ما نسميه «قدرة الفن على تحليل المجتمع، ما دام في إمكانه الكشف عن أعمق المشاعر المخبأة في داخله». وهذا أيضا يمكننا تبسيطه بمفهوم أفضل مرتبط بالتخلّص من الفيض العاطفي السلبي أو تحرير فيض إيجابي منه، وقد يسميه البعض بلغة أهل الطاقة بـ»التطهير العاطفي».
للإبداع القدرة على جعل الناس يبتسمون، ويعشقون الحياة، مع تغير كامل لرؤيتهم لنوع الحياة التي يطمحون إليها. يمنح الفن مثلا طاقة إيجابية للفرد لبدء يومه، أو لتغيير مزاجه من سيئ إلى جيد، إنه مصدر لا تفسير له لخلق أفكار مغايرة وجميلة لجعل الفرد أكثر إنتاجا وحركة.
لنعد لسؤالنا الأساسي: هل يمكن للفن أو الإبداع إنقاذ العالم؟
في الحقيقة الفن ليس منعزلا عمّا يحدث في العالم، ولهذا فقد يُستعمل لغايات أيديولوجية، أو لغايات ترويجية لصناعات مدمرة للعالم. ولنأخذ مثالا بسيطا على ذلك، في عشرينيات القرن الماضي لعبت الإعلانات التي قدّمتها شابات جميلات دورا مهما جدّا لجعل الناس يقبلون بجنون على اقتناء الكثير من الزيوت النباتية المضرة، على أنّها البديل الجيد والصحي للإنسان. لم يتطلب الأمر أكثر من موسيقى جيدة ورسالة مؤثرة تتلفظ بها شابة جميلة متأنقة لإحداث ثورة في نسب المبيع، كان ذلك الجانب السيئ من استغلال الإبداع في مآرب ضارة، إذ بعد نصف قرن من ذلك كشف العلم أن تلك الزيوت مجرّد سموم تناولها البشر عن طيب خاطر تحت تأثير الإعلانات.
هناك نقطة أخرى تمت إثارتها، ولعلّنا رغم شعورنا بها إلاّ أننا لم نستخدم المصطلح الذي يحدّدها وهو، «القلق البيئي» الذي يعطينا تفسيرات عديدة، لكنّها كلها بعيدة عن الحقيقة، مثل الابتعاد عن الدين والشعور بالخواء الروحي، أو التعرّض للضغوط في العمل، أو المعاناة من البطالة، لأن القلق البيئي مرتبط مباشرة بالتغيرات المناخية، التي يصعب على الإنسان تقبلها بسهولة، مثل موجة البرد والثلوج والصقيع التي ضربت أمريكا مؤخرا، ما أجبر ملايين الأمريكيين على التزام بيوتهم. ومثل موجة الحر التي ضربت الجزء الآخر من العالم، فاندلعت فيه الحرائق بشكل مرعب في الصائفة الماضية، إن الاحتماء بالإيمان قد يكون حلاً لقلة نادرة من البشر، ولكنه لا يخلص الأغلبية من أعراض القلق البيئي، لأن الحل الحقيقي الذي يطمئنهم أكثر هو تدخل الإبداع لإنقاذ العالم من حدة هذه الظواهر، التي تسبب فيها الإنسان باستهتاره في خضمّ سعادته بثورته الصناعية، المبدع يعيش في تناغم مع الطبيعة بعيدا عن هوس التصنيع والتسليع وتعليب العقول.
حول هذا المفهوم تقريبا حدّد إدغار موران المعارف الأساسية السبعة والأكثر ضرورة لإدماجها في المؤسسة التربوية التعليمية، حتى نتمكن من جعل طلابنا يفهمون المشكلات المعاصرة في العالم، مع التركيز على «تعليم الإنسانية والهوية الأرضية»، فاصلا بين ما تقدمه المدارس والجامعات للطلبة من «وهم المعرفة» على أنه «معرفة»، فالمتغيرات التي تحدث في العالم تجبرنا على تغيير مناهج التعليم، لتكون أولا نافعة للإنسان، وثانيا وقائية له.
الكتاب الذي صدر عام 1999 عن الأونيسكو لم يترجم إلى اللغة العربية بعد، ولكنّه نال الكثير من الاهتمام عالميا، عنوان الكتاب «سبع مهارات ضرورية للتعليم في المستقبل»، وهو فعلا مقسّم لسبعة فصول يبين فيها الخطأ ووهم المعرفة، وفهم التدريس ومواجهة الشكوك والأخلاق البشرية وفهم الهوية الأرضية، وهذا الرابط المتين بين الإنسان والطبيعة، وفهم الإنسان ككائن خلاّق مبدع، بشكل مغاير تماما للأفكار التدميرية، التي حوصر فيها حتى تحوّل مع الزمن إلى كائن متوحش، بل إلى أكثر الكائنات تدميرا لكوكب الأرض. لنتوقف عند تلقين الطلاب وهم المعرفة، أو الخطأ على أنه معرفة، من الضروري التذكير هنا أننا في مجتمع لا يرى الانفتاح على ثقافات الآخر سوى مجموعة من الأخطار التي تتهدّده، مع صعوبة إطلاق سراح الأفكار الإبداعية في الأوساط الطلابية، للتمكن من استثمارها في ما بعد.
وهذا ما يشرحه بالتفصيل الفيلسوف الأمريكي ماثيو ليبمان مؤسس «الفلسفة من أجل الأطفال» لتعليم الأطفال طريقة التفكير الجيد، وهي نفسها فكرة موران، الذي نبّه إلى «موت المواد التعليمية» التي تلقنها المدارس للأطفال حول العالم. فإن لم تُستَغل الطاقة الإبداعية للطفل، ستكون النتائج وخيمة، وهي أقرب إلى ما نراه في مجتمعاتنا العربية ومجتمعات افريقية، بحيث يبدو الزمن متوقفا فيها، مع أن ليبمان وموران وغيرهما من أنصار هذا النهج التعليمي يقصدون مجتمعاتهم التي نراها نحن جد متطورة.
وهم، أي علماء التفكير الإبداعي يؤكدّون أن الطبيعة هي التي جعلت الإنسان يفكّر، فالغريزة والمشاعر كانت دائما سبّاقة لقيادة الإنسان قبل عقله، مثل شعوره بالخوف، سواء كان طفلا أو بالغا فالشعور بالخوف واحد أمام معظم الأخطار التي تواجهه، لكن عمل العقل يبدأ في ما بعد، مثل اللجوء لمكان آمن وتحصينه أكثر من تلك الأخطار، ومحاولة فهم طبيعتها للتغلب عليها. هذا أيضا يعيدنا إلى أفكار فريدريك شيللر، الذي سبق الجميع حين قال: «لقد فقدت الإنسانية كرامتها، لكن الفن أنقذها وحافظ عليها» لأن «الفن يقوم على توحيد الملَكات الحسية والشكلية للإنسان، إنه يوقظ مشاعر الرحمة وحرية الروح». ومن شيللر أخذ موران فكرة التربية الأخلاقية، مشيرا إلى أن الوعظ قد يفشل في ذلك، لكن الشعر يحقق هذه الغاية، لأنه يوقظ الإحساس ولا يرهب العقل.
في الأخير علينا أن نشير إلى ارتباط الإبداع الحقيقي بالمتعة الجمالية، وهي أعلى درجة من المتعة، وهي التي تخلق التوازن بين الحواس الغريزية والفعل العقلاني.
هل يجب أن نذكّر بما قاله بروست على أن الحياة الحقيقية تكمن في الأدب؟ ثمة عمق في هذه المقولة المقتضبة، لكنها تحمل جوابا عظيما يتعلق بالسؤال الذي طرحناه في البداية.
شاعرة وإعلامية من البحرين
الأدب يمكن ان يكون عامل ذو تأثير كبير جدا فى قيادة البشرية إلى عالم سلام حقيقى.
دائما نجد أن خبراء علم النفس يُشجع وينصح الإهتمام بهذا العالم الغير مرئي التي هي الأحاسيس والمشاعر , عن طريق الإبداع في التعبير عن النفس لتحقيق التوازن النفسي الضروري لصحة لإنسان وللمجتمع .
مقال جميل ومهم ، شكرا للكاتبة الشاعرة بروين حبيب .