الدبيبة وأمريكا أو قصة الراعي وخالته

يردد الجزائريون مقولة شهيرة تُساق في مواقف الطمع، عن امرأة طلبت من ابن أختها أن يرعى غنمها فوافق. الفتى يتمتم في داخله بأن خالته من طيبتها ستكافئه بثروة لأنه ابن شقيقتها، وهي تطمئن زوجها بأن الفتى سيرعى قطيعهما مجانا لأنها خالته.
هذا الكلام ينطبق على الصفقة الأمريكية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية التي انتهت بتسليم المواطن مسعود أبو عجيلة المريمي للسلطات الأمريكية لاتهامه بدور رئيسي في قضية لوكربي. عبد الحميد الدبيبة طامعا بأنه بهذا التصرف أمنَ شرَّ الإدارة الأمريكية وانتزع رضاها وبعض المزايا، وواشنطن طامعة بأنها بهذه الصفقة وضعت ليبيا وخيراتها في جيبها. بينما واقع الحال أن في ليبيا الكلمة الأقوى لشبكة معقّدة من الميليشيات المسلحة والقبائل النافذة، وأن الدبيبة وحكومته أضعف ما في هذه الشبكة. وفي واشنطن تتوزع السلطات والصلاحيات بين توليفة من مؤسسات الحكم واللوبيات المرئية والمخفية، الإدارة هي إحدى أضعف حلقات هذه التوليفة، جمهورية كانت أم ديمقراطية.

 هناك عوامل تجعل من الصعب على رئيس حكومة لا هدف له سوى البقاء في الحكم مقاومة إغراء تسليم رجل مريض في أرذل العمر محسوب على نظام بائد

ما أقدمت عليه حكومة الدبيبة بحق أبو عجيلة خطير ومنبوذ بكل المقاييس. من المفروض أن واجب الحكومة حمايته والبحث عن طرق مع واشنطن لإسقاط التهم عنه لأسباب موضوعية منها التقادم وظروفه الشخصية مثل تقدمه في العمر وتردي حالته الصحية. كان بإمكانها أيضا أن تبحث مع الأمريكيين عن حلول وسط بديلة مثل محاكمته في ليبيا وتركه يقضي محكوميته في سجونها إذا ما أُدين. لكن الدبيبة ومَن معه اختاروا الحل السهل، رغم خطورته، طمعا في أرباح سياسية وعسكرية وربما بعض الأموال تخدمهم في صراعهم المزمن مع معسكر اللواء خليفة حفتر.
تعمّدت الإدارة الأمريكية توريط حكومة الدبيبة والميليشيات المسلحة التي تدعمها. كان في استطاعة واشنطن أن تختطف أبو عجيلة كما اختطفت كلًّا من أبو أنس الليبي وأبو ختالة. في بداية تشرين الأول (أكتوبر) 2013، وفي ليلة حالكة الظلام، نزلت قوة أمريكية خاصة في العاصمة طرابلس واختطفت أبو أنس الليبي الذي تتهمه واشنطن بالانتماء لتنظيم القاعدة والضلوع في تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا صيف 1998. اقتادت القوة أبو أنس إلى بارجة حربية أمريكية أبحرت بعيدا عن المياه الإقليمية الليبية وبدأت التحقيق معه. توفي أبو أنس في نيويورك يوم 2 كانون الثاني (يناير) 2015، قبل أيام من بدء محاكمته، متأثرا بسرطان الكبد، وفق الرواية الأمريكية آنذاك. يوم 15 حزيران (يونيو) 2014، وفي ليلة صيفية دافئة، نزلت قوة أمريكية أخرى (ربما القوة ذاتها) في مدينة بنغازي واختطفت أبو ختالة من بيته. تتهم واشنطن أبو ختالة بالمشاركة في تدبير الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي في أيلول (سبتمبر) 2012 وقتل أربعة أمريكيين بينهم السفير كريستوفر ستيفنس. من بنغازي اقتيد أبو ختالة إلى خليج غوانتانامو.
في حالة أبو أنس احتجت السلطات الليبية آنذاك وإنْ باحتشام، لكن إدارة الرئيس باراك أوباما صمَّت آذانها ورفضت بحزم أيّ طلبات.
هذه المرة اختارت الإدارة الأمريكية ترك أمر أبو عجيلة لحكومة الوفاق وميليشياتها إدراكا منها أن طرابلس ليست في وارد رفض طلب أمريكي. بهذا الاختيار جعلت واشنطن من العملية شأنا داخليا ليبيًا، وحافظت على سمعتها كدولة تحترم سيادة الدول وشؤونها، وتراعي القوانين الدولية.
على العكس من واشنطن التي خرجت منتصرة من هذه القضية، خرجت حكومة طرابلس، والدبيبة شخصيا، أقرب إلى الخيانة، خصوصا وأن الدبيبة لم يعترف بمسؤوليته في العملية بدافع الشجاعة والصدق مع مواطنيه، وإنما خوفا من اتساع نطاق الغضب الشعبي بعد انتشار الإشاعات واشتداد الضغط عليه من خصومه في شرق ليبيا.
وزاد وضع الدبيبة حرجا بعد انتشار تقارير عن أنه كان على وشك تسليم عبد الله السنوسي، صهر القذافي وذراعه الأمنية الضاربة، إلى واشنطن لاتهامه في لوكربي وقضايا أخرى. من الصعب تصديق الدبيبة وهو ينفي نيته تسليم السنوسي. الذي سلَّم أبو عجيلة بتلك السهولة يسلّم السنوسي وغيره بسهولة أكبر. كما أن انتماء الرجلين للنظام السابق يُسهّل الدفاع عن تسليمهما، خصوصا وأن الولايات المتحدة هي التي تطلبهما.
هناك عوامل تجعل من الصعب على رئيس حكومة لا هدف له سوى البقاء في الحكم مقاومة إغراء تسليم رجل مريض في أرذل العمر محسوب على نظام بائد. أبرز هذه العوامل أن المقابل (المأمول وليس الأكيد) من الأمريكيين مُغرٍ، ثم وضع الدبيبة، السياسي والشخصي، الهشّ وافتقاده لحنكة رجل الدولة، وصراعه المرير مع معسكر الشرق المدعوم حديثا بغريمه فتحي باشاغا.
ربحت أمريكا، داخليا وخارجيا، باسترجاعها متهما انتظرته أكثر من ثلاثين سنة، دون أن يكلفها ذلك الكثير ماديا أو أخلاقيا. وخسر الدبيبة وحكومته الكثير، ماديا وأخلاقيا (وخسر أبو عجيلة).
هناك دروس من المفيد استخلاصها من هذه الواقعة. أول هذه الدروس أن أمريكا، مثل إسرائيل، لا تنسى ولا تغفر. ثانيها أن الجشع الأمريكي لا حدود له. ثالثهما أن الكلمة العليا في ليبيا، شرقها وغربها، لأصحاب المدافع، فلولا الميليشيات لما استطاع الدبيبة تسليم أبو عجيلة. رابعها أن الليبيين تعبوا بدليل أن السخط على تسليم أبو عجيلة اقتصر على عائلته وبعض الفضاء الإلكتروني. خامسها ألَّا أحد في ليبيا في أمان بعد اليوم، ودور عبد الله السنوسي آتٍ، مخطوفا أو مُسلَّمًا، ما لم تحدث تطورات أو صفقة ما. سادسها أن الدبيبة لا يفهم أمريكا، ومخطئ إذا صدّق أنه سينال منها مقابلا، ومخطئ أكثر إذا وثق في وعود دبلوماسيين أمريكيين من الصفوف الدنيا بأن واشنطن لن تعيد فتح اتفاقيات التسوية والتعويضات التي توصلت إليها مع القذافي. تستطيع الإدارة أن تعد بما تشاء، هناك لوبيات قوية وشركات علاقات عامة ومكاتب محاماة يسيل لعابها لمثل هذه القضايا وتستطيع بسهولة إيقاظ طمع عائلات الضحايا لتبدأ معها رحلة قضائية جديدة ومضنية لليبيا.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية