أسئلة السينما العربية الآن

بما أن سؤال السينما العربية يظل خجولا أمام العدم، حيث يمتزج الموت بالولادة والمأساة بالفرح، فإن سؤال الميتافيزيقا يسعى إلى تقصير سؤال العدم بواسطة الوجود، ذلك أن الحفر في العواطف الجميلة غالبا ما يخفي العدم عن الجمهور، إذ يعتمد على سلب الموجود بنسيان الوجود، ولعل هذا بالذات ما يضعهم في حضرة العدم. والعامة محبة للعدم أكثر من الوجود، ولذلك نجدها تهرب من الفلسفة كما يهرب المريض من المستوصف.
ففي فيلم «إلى آخر الزمان» للمخرجة الجزائرية ياسمين شويخ، يبدو الموت وكأنه احتفال بالعرس، حيث ينطلق موكب العرس نحو المقبرة، بدلا من موكب الجنازة، هكذا تحولت المقبرة إلى فضاء للفرجة، والحب، بل السخرية من تراجيديا الموت، وكانت توجد احتفالات ديونيزوسية. أبطال الفيلم عبارة عن أموات يريدون العودة إلى الحياة، لكن أنطولوجيا المقبرة تحولت عندهم إلى أنطولوجيا الحاضر، إذ أضحى الموت استحالة للممكن، ينبغي تدميره بقصة حب مستحيلة، فإذا كان سقراط يعرّف الموت بأنه مجرد ثمرة ناضجة حان موعد قطفها، فان فيلم «إلى آخر الزمان» حوّله إلى عرس يحتفل به في فضاء المقابر، وربما يكون هذا الاحتفال بالعدم هو شعار السينما العربية بكاملها، لأنها غالبا ما تقطف الورود التي تقدمها لعشاقها من المقابر.
نعم إن هذه الاستحالة الجوهرية هي بمثابة افتقار خالص لروح المطلق، ما يحكم عليها بتعين المكان غير المناسب للاحتفال، فتصبح المقبرة هي قاعة الاحتفال، هكذا تبدو المسافة بعيدة بين هذه السينما والوجود، وربما سيؤثر ذلك في مصيرها الفني.
فيلم يحتفل بالموت، فماذا ننتظر منه، قد تكون هذه الشوبنهاورية في الرؤية إلى العالم محفزة على التشاؤم، لم يتردد في الإعلان عن تذمره من الحياة، والحب والجمال، عندما قال: «لن أسامح النساء لأنهن عشن شغف الحب، من أجل تخليد النوع البشري الذي لا يساوي شيئا في الحقيقة». لا بد من أن تتلاشى استيطيقا التشاؤم، أمام استيطيقا الفرح، من أجل تأسيس السينما على الفرح الديونيزوسي.

الإنسان لا ينفصل وجوده عن الاهتمام بالوجود والتساؤل عنه والقلق عليه، بل إنه يظهر على صورة توتر في الكينونة، ولذلك فإن أنطولوجيا الموت تنبثق انطلاقا من الوجود في العالم، إذ من المستحيل أن نتصور إنسانا دون عالم، أو عالما دون إنسان، فالعلاقة بينهما: «هي علاقة وجودية قوامها الشعور بالاهتمام.. ومعنى هذا أن الإنسان موجود يحمل دائما عبء وجوده». قد يبدو هذا التحديد الأنطولوجي غامضاً وبعيداً عن اهتمامات السينما العربية، بيد أن الوجود في العالم هو من مقومات الوجود مع الآخرين: «إن الوجود دون الآخرين هو نفسه صورة من صور الوجود مع الآخرين». ولعل السينما هي صور من أجل الآخرين، فلا يمكن أن نتصور السينما دون جمهور، وإلا تحولت إلى شطحات ذاتية، فمن طبيعتها أن تحيلنا إلى الفن الذي يعني الاحتفال بالوجود فهي أداة، ولا تنكشف على حقيقتها إلا من خلال الاستعمال، فالساعة موجودة لبيان الوقت، والحذاء وجد للاستخدام في المشي، والمطرقة للعامل «كل أداة تستلزم ضرباً خاصاً من المعرفة، وتفترض طريقة خاصّة في الاستعمال، فالأدوات مشروطة بوجودنا البشري، ما دام أن الإنسان هو غاية الكون» أو لذلك فإن السينما، باعتبارها فنا، وثيقة الصلة بالإنسان، كما أن الإنسان وثيق الصلة بالسينما، لأن كلا منهما يحيل إلى الآخر.

ومن الحكمة أن لا تروج السينما لحياة جماعية زائفة، تدعو إلى الانغماس في عالم الجمهور، ولعل فيلم «إلى آخر الزمان» يروج إلى هذا الوجود الزائف، حين يصور عالم الأحياء وكأنهم أموات، وتبدو الذوات غريبة عن ذاتها والعالم في الآن نفسه، لأن الناس لا يعيشون الموت إلا كتجربة الآخرين. فالفيلم لا يفرق بين وجود حقيقي أصيل ووجود زائف غير مقبول. هناك فيلم آخر سقط في الأسطورة المبتذلة نفسها للفن السينمائي، وهو فيلم «ستموت في العشرين» للمخرج السوداني أمجد أبو العلا، فمن خلال عنوان الفيلم نكشف الطابع الأسطوري والخرافي للفيلم، ذلك أن الترويج للخرافة هو ذاته نشر العدمية بواسطة السينما، لأن الفيلم يحكي قصة دجال تنبأ لمولود جديد بأنه سيموت في العشرين، وما يهمنا هو الاعتقاد في هذه الخرافة من قبل الأم ومحيطها، ولعل تأثير الفن على مجتمع أكثر من تأثير الأفراد الأشقياء عليه، لكن هل الفيلم يقدم متعة بصرية؟ أم سجن نفسه في السيناريو؟

باستثناء تلك المشاهد الجميلة نهر النيل وأشعة الشمس وزرقة السماء، يحكم علينا المخرج بالبؤس اليومي السوداني، ذلك أن زمن الفيلم هو نفسه زمن الواقع الخرافي المنحط، الذي لا يرى في الحياة سوى محطة عبور نحو الموت، لان أهم معرفة تجليات الروح، لا تتجاوز القرآن وتأويل الفقهاء، إنها معرفة دينية متشددة، ذلك أن الأسرة التي سترزق بالمولود عادة لا تذهب إلى الفقيه، لكن الفيلم يؤكد هذا الحدث، وربما يكون هو فكرة الفيلم الأساسية، لأن ما سيقوله الشيخ يصبح هو ميتافيزيقا الفيلم، هكذا يسعى المخرج إلى تبسيط الميتافيزيقا، من خلال الخرافة، ولا يعلم بأنها علم الموجود بها هو موجود، من العبث أن يصارع الإنسان الموت منذ شبابه، تسكنه في لاوعيه، تفرض عليه الخضوع للهيمنة، كما هو الحال بالنسبة لكل أهل القرية. هنا يجد هذا الشاب المقهور مدفوعا إلى التخلي عن وجوده في الوجود، فيأخذ بأحكام الشيخ كمفسر للقدر، وسرعان ما يتحول وجوده الشخصي إلى وجود عقل عديم الشخصية، وعندئذ تصبح حياته صورة من صور المجموع، بل يجد نفسه مقذوفا في العدمية، توجه اهتمامه تلك المشاغل العادية التي قد تحرضه على الانصراف نهائيا عن التفكير في مصيره الحقيقي، بل أضحى يسكن في فكرة ستموت في العشرين.

شيئا فشيئا نتوجه نحو القناع الذي يحجب السينما العربية المعاصرة عن إدراك معنى وجودها في الفن، وما الذي ينتظرها من مقاومة ثقافية لكل الأشكال الزائفة للعدمية التي تدعم الاستبداد العسكري والديني، لكي ينشر هيمنته على الأرض والسماء، ويقوم بتحطيم الأرواح بواسطة الوعي الشقي الذي يتم تلقينه في المدارس والجامعات.
لا يستطيع الفن السينمائي أن يسترد ذاته الحقيقية، وأن يعمل على تحقيق وجوده الأصيل، وهو يعتقل نفسه في الاغتراب كمقدمة الاستبداد، وكمدخل للاستلاب، وكلما كان الفنان بعيدا عن الحرية، كان بعيدا عن الفكر، فلا حرية دون الفكر، والفكر موجود، يتعلمه الإنسان من خلال عشقه للتأملات الفلسفية، لأنه من العيب أن لا يقرأ المخرج السينمائي كتب الفلاسفة عن السينما.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية