رغم أن العنصرية تعتبر إلى حد كبير نتيجة الخوف والجهل، فقد استخدمت تاريخياً في النزاعات السياسية والدينية والعرقية، وحتى الاقتصادية، تعتبر العنصرية وكراهية «العدو» من أهم العوامل في استفزاز وحشد الجماهير للمشاركة الفعالة في الحروب، ورغم أننا وصلنا في عصرنا هذا إلى تقدم معرفي لا مثيل له إلا أن العنصرية ما زالت مشكلة اجتماعية مستمرة لدى البشرية ولا تزال تستخدم من قبل الأفراد والمجموعات والسلطة بطريقة منهجية ومنظمة.
جذر العنصرية
توجد آراء عدة حول منشأ العنصرية أبرزها السبب النفسي، يعتقد علماء النفس الاجتماعي، أن جذر العنصرية ناتج عن مزيج من التحيز المعرفي «خارج المجموعة» ومن حيث الماهوية يقسم الأفراد إلى قسمين «نحن وهم»! إن الشخص الذي ليس لديه مكان في مجموعة سيلجأ إلى الاندماج في مجموعة أخرى ويعلن العداء لتلك المجموعة، ومن هنا يوقعون على كاهلهم نفسياً الدفاع عن مجموعتهم؛ فمهما كانت الصفات الذاتية لمجموعته جيدة أم سيئة، تُعرّف على أنها إيجابية وحسنة في رأيه، أما صفات الآخر «هم» فتعرف بأنها غير مقبولة وسلبية ودونية!
تترسخ مع مرور الزمن التحيزات والتشوهات المعرفية الناجمة عن طبيعة التنشئة الأسرية، والعادات والتقاليد والثقافات والأعراف المجتمعية، وكتب التاريخ، وسائل الإعلام، هيكلية وبنية وتوجهات السلطة، واللغة، وكيف تجذرت ونمت في العقل الجمعي وذهنية الأفراد، حتى لم يعد من السهل محوها أو حتى التعامل معها ومجابهتها! عندما يوضع الآخرون في مكانة متدنية، يكون لديهم استعداد لقمع وأذية ومضايقة الآخرين، ويصبح لديهم لزوماً التعدي على الصفات الحسنة والإنسانية للآخرين، بأساليب عدة ممكن أن تصل إلى إراقة الدماء والاعتداء بشتى طرقه. كلما قل عدم معرفة الآخر والتفاعل الاجتماعي معه، وكلما زاد انغلاق مجموعة بشرية على نفسها، زاد تحفيزها لقتال ومصارعة وكراهية الآخرين، وبقدر ما يكون التفاعل والمعرفة والوعي بين الناس منخفضاً فإن الحساسية والشكوك وسوء الظن تجاه الآخر تزداد وتتضاعف. لهذا السبب فإن المستفيدين من العنصرية وكراهية الآخر، هذه الحالة مناسبة ومربحة لهم، فإنهم يحاولون إبقاء الأفراد في حالة من الأمية والجهل والوعي المعدوم، عبر الضخ الإعلامي التحريضي وتعزيز التفوق العرقي العنصري، إنه تفاعل ثنائي الاتجاه، يستفيد المستفيدون من جهل الناس، والعنصريون يشعرون بالراحة والتفوق في الفضاء الموجود! يمكن تقسيم العنصرية العرقية إلى: العرقية البيولوجية والعرقية الشعبية أو التقليدية.
في العنصرية التقليدية، يتمثل الهدف الرئيسي للعنصريين في القضاء على الأشخاص الذين ليسوا في فئة «نحن» وتدميرهم وإبادتهم بشكل مباشر أو غير مباشر. يبدأ الأمر من مسافة اجتماعية وتتطور إلى الإهانة. كلما زاد ضغط الجماعات البشرية داخلها، زادت الأسوار العرقية، ولا يُسمح لأحد بإقامة علاقة مع الطرف الآخر؛ لآنهم يعتبرون الآخر دونيا وسفليا ومحتقرا. لربما قل هذا النوع من العنصرية في العصر الحديث، لكنها ما تزال موجودة لدى العديد من الجماعات.
مهد العنصرية
يحاول البعض محاربة العنصرية من خلال إبراز التنوع العرقي والتمسك بالتعددية؛ لكن أفضل طريقة هي البحث وتعزيز الوعي تجاهها، يعتقد الكثيرون اليوم أنه يجب البحث عن العنصرية في السياسات والأفكار داخل السلطة، وليس بين الأفراد، لأن العنصرية ترتبط ارتباطا وثيقاً بالسلطة وتنشأ من الدفاع عن السلطة وامتيازات مجموعة عرقية على حساب سحق وتقويض قيم الآخرين. أبرام كينيدي يقول: إنه لمحاربة العنصرية لا يمكنك اللجوء إلى الوعي والقيم الأخلاقية، لأن مصدر العنصرية هو السلطة، وليس الجهل والمبادئ الأخلاقية للإنسان! وإن المعرفة والوعي فعالان عندما يعملان على مكافحة العنصرية. وقد ينطبق ذلك على العنصرية التي تعاني منها بلادنا، حيث تعتبر السلطة هي أبرز من يصب الزيت على نارها. هناك عنصرية وسط المثقفين أكثر من الأفراد العاديين، أحياناً يساهم هؤلاء، مدعو مناهضة العنصرية في ازدهار بازار العنصرية، من خلال استمرارهم في تكرار القول: إنهم ليسوا عنصريين. هذه النظرة في حد ذاتها هي فكرة عنصرية، وكأنه أصبح من الرائج والمألوف ذلك اعتياد الجميع قولهم: إنهم ليسوا عنصريين، هذا القول بحد ذاته ناتج عن مشاعر وأحاسيس وأفكار عنصرية.
العنصرية البيولوجية.. العلم والعنصرية
في العنصرية البيولوجية يُنسب كل ضعف وقوة لدى البشر إلى الأصل العرقي، وهذا ما لم يثبته علمياً علماء الوراثة والجينات. لقد أثبت العلم اليوم أن الناس هم نتاج أناس مختلفين، وحتى من قارات مختلفة، لأنه لا أحد يستطيع الاحتفاظ بحمضه النووي لأكثر من 11 جيلاً. تماماً مثل تصنيف البشر إلى أبيض وأسود، فإن هذا أو ذاك ليس مؤشراً دقيقاً وصحيحاً للاختلافات الجينية وأوجه التشابه بين البشر، لا يمكن أن تكون قدرة أو عدم قدرة البشر نتاجاً لعرقهم وجيناتهم فقط. ومع ذلك، ما زال العنصريون يعتقدون أنه من الناحية البيولوجية تحدد الخصائص المتأصلة والوراثية سلوك البشر، وتشير إلى هويتهم القومية والعرقية، التي تتحول في بعض الأحيان إلى عنصرية.
لا يوجد شخص عنصري منذ ولادته، ولا يؤمن بالتفوق العرقي المعتاد، لكن مع مرور الأيام والزمان، يكتسب ذلك من البيئة والأسرة، إن العائلة في مجتمع متزعزع وغير مستقر لديها قلق دائم من المستقبل، يخلق هذا الأمر إحساساً بعدم الأمان الداخلي لدى الشخص، وهذا جزء من العلاقة المرتبطة بالعنصرية، في الواقع عقدة التفوق الافتخار والاعتزاز القومي، أو العرقي أو اللغوي، أو المناطقي والتاريخي، إلخ، ناتج عن هذا الشعور بعدم الأمان الداخلي والدونية، يحتاج الناس لإخفاء مثل هذا الشعور، لذلك يعتبرون أنفسهم أكثر تفوقاً وفوقية وتفاضلية عن الآخرين. من هذه الزاوية يمكننا النظر إلى استجابة الناس لمشاعرهم واحتياجاتهم النفسية المكلومة، تكون استجابة عبر العنف والخشونة وتخلية مشاعرهم غير المريحة تجاه الآخر.
الشعور بالأنفة والتفوق الأنوي المرضي لدى العنصري تشبه كفتي الميزان، كلما زاد شعور التفوق المفرط، انخفض الشعور بالنقص والدونية. رغم النمو والتقدم المعرفي والعلمي لكنه لا يعتبر عاملاً كافياً يؤدي إلى الحد من العنصرية والوقاية منها والقضاء عليها، الدول التي ليست لديها سبل وطرق وحلول للتخلص من مصائبها كمصيبة العنصرية من أجل تحقيق الهدوء والسلام والاطمئنان، تسعى وتحاول دائماً تعظيم تراثها الماضي والغلو في تمجيده أمام إنجازات الآخرين، إضافة إلى جعل إنجازات الآخر تبدو صغيرة وعديمة القيمة، وغالباً من خلال إضفاء طابع أيديولوجي عدائي تجاهها.
من أجل معالجة العنصرية، يجب أولاً تحديد أسبابها، ودوافعها ومكامن قوتها، لا يمكن معالجة هذه الآفة القاتلة والمميتة الآخذة بالتوسع والانتشار من خلال إنكارها، بل من خلال الاعتراف بوجودها أولاً، ومن ثم توافر الرغبة والدافعية والإرادة الحقيقية للتعامل معها. كلما كنا صادقين في التقبل والاعتراف بأن العنصرية والتعصب الأعمى يمثلان مشكلة ومعضلة كبيرة حقاً، اختصرنا الطريق للوصول إلى المقصد والوجهة الواقعية في مجابهة العنصرية، يمكن العمل على تعزيز المزيد من التفاعل الاجتماعي الحيوي والإيجابي، وأن يكون للمراكز العلمية والتعليمية والدينية والثقافية وغيرها من مراكز مجتمعية والجامعات دور فاعل في هذا التأثير المعرفي الواعي في أوساط الجيل، قبل أن يزداد غرقاً وتيهاً وضياعاً في أتون الغطرسة والعنصرية والكراهية والعصبية العمياء المدمرة للبلاد والعباد.
كاتب سوري