المتن المجهول

هذا عنوان كتاب صدر عن دار المتوسط للصحافي والشاعر سيد محمود. ظللت فترة مشغولا عن قراءته لأسباب تتعلق بالنسيان والآلام التي تفاجئني والانشغال في انتظار غودو. أجل كنت مثل القطط التي تلوذ بالجدران في انتظار شيء لا أعرفه. كل صباح أطل على الكتاب فأرى وجه محمود درويش يبتسم من الغلاف. ربما لذلك تأخرت حتى لا أنقل الكتاب من فوق مكتبي إلى رف في المكتبة. أخيرا قرأت الكتاب. قلت فلأعش مع محمود درويش بعد أن عشت معه شاعرا عظيما وصديقا قل أن تجود بمثله الأيام.
وجدت الكتاب عن قضية كدنا ننساها وهي قصة خروج محمود درويش من أريحا في فلسطين إلى مصر، وما واكبها من حوار بين مؤيد ومعارض، ثم عن مقالات كتبت عن درويش لكتاب كبار مثل أحمد بهاء الدين وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وإميل حبيبي، وحوار مع معين بسيسو ورسالة من سميح القاسم ومقالات كتبها درويش في الصحف والمجلات المصرية وقت الأزمة وبعد أن جاء إلى مصر. أحيى الكتاب كثيرا مما حملته الأيام بعيدا عني فعلاقتي بمحمود كانت تتجسد كلما رأيته في القاهرة في الثمانينيات في ما بعد، باعتباره روح كل الأماكن. كل مكان ينتهي إليه تُبعث فيه روح جديدة. كان محمود درويش في سنوات وجوده في فلسطين يعاني من الاضطهاد الإسرائيلي، فقد كان عضوا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي تبنى مطالب الفلسطينيين، ثم في عام 1964 مع ظهور منظمة التحرير الفلسطينية، خرج كل الأعضاء العرب في الحزب ومعهم نحو مئتي يهودي ماركسي، وشكلوا معا ما عرف باسم القائمة الشيوعية الجديدة أو «راكاح» وكان محمود درويش عمود هذه القائمة مع زملائه من شعراء المقاومة.
سطع اسم درويش بعد هزيمة 1967 وفاز بجائزة اللوتس التي يمنحها اتحاد كتاب آسيا وافريقيا فلمع اسمه عربيا ودوليا، لكنه كان من أكثر من تعرض للسجن أوالحبس في بيته لسنوات في المساء لا يغادره. إقامة جبرية، ثم حدث أن أرسل الحزب الشيوعي الإسرائيلي وفدا إلى مهرجان الشبيبة في صوفيا عاصمة بلغاريا عام 1968، وهنا بدأت الانتقادات، كيف يأتي في وفد إسرائيلي. كانت فكرته ردا على ما جرى كيف يمكن الكتابة عن وطن محتل في وطن محتل. وفكر في الخروج. كثير من العرب كانوا ينأون عن الحديث معه هو وسميح القاسم في المهرجان، باعتبار أن الوفد يمثل إسرائيل بينما كانوا يمثلون حزبا معارضا للسياسة الإسرائيلية مع العرب. أمثلة كثيرة في الكتاب عن آراء المعارضين من الكتاب والشعراء، التي وصلت إلى قرار رسمي في دمشق بمنع قصائده ودواوينه من التداول، ومحمود درويش لا تنتهي دهشته. كيف يتهمونه بأنه جاء في وفد يحمل العلم الإسرائيلي، بينما هو يعيش تحته ولا سبيل أمامه بالابتعاد إلا بالخروج. كيف يحسبونه حقا على إسرائيل؟ لا هو كشاعر ولا كمناضل من أجل القضية يمكن اعتباره إسرائيليا. جاءت الفرصة لدرويش في أن يسافر إلى موسكو في الاتحاد السوفييتي عام 1970 للدراسة في معهد العلوم الاجتماعية، وهنا تغيرت حياته، أو بدأت تتغير. حديث وبحث ضافٍ عن من الذي أقنع درويش بالذهاب إلى مصر. هل هو مراد غالب سفير مصر هناك، حمل له رسالة من عبد الناصر؟ أم أحمد بهاء الدين الذي كان يزور الاتحاد السوفييتي وقابله وكتب مقالا عظيما عنه نعته فيه بابني العزيز؟ أم عبد الملك خليل مراسل «الأهرام» هناك أم آخرون؟
يحتل البحث هنا مساحة كبيرة حتى يصل الكاتب إلى يقين ويستعرض أقوال من كتبوا عن درويش مثل، ليلى شهيد سفيرة فلسطين في باريس، وفيصل حوراني وعبده وازن، وشربل داغر وغيرهم، لكن لا يصل إلى إجابة شافية. المهم لم يعد درويش إلى فلسطين وجاء إلى مصر في فبراير/شباط 1971. هل كان الوقت خطأ؟ لقد مات عبد الناصر وجاء السادات، وستبدأ سياسة جديدة. في كل الأحوال تم احتضانه في مصر من قبل أحمد بهاء الدين الذي كان رئيسا لتحرير مجلة «المصور» ورئيسا لمجلس إدارة دار الهلال ليكتب في مجلة «المصور» ودعاه المذيع محمد عروق للتعاقد للعمل محررا في إذاعة «صوت العرب» باعتباره يجيد العبرية، ثم لطفي الخولي للعمل في الملحق الأدبي لمجلة «الطليعة» اليسارية. قامت معركة خارج مصر وداخل فلسطين نفسها تلومه على السفر، وكيف يكون النضال بعيدا عن فلسطين، يوثقها المؤلف سيد محمود بدقة بأسماء الصحف وصور المقالات وأصحابها، وما كتبه درويش ردا عليها. في مصر نزل درويش في إقامة مؤقتة ضيفا في فندق شبرد، فأثار سخرية بعض الشعراء مثل نجيب سرور الذي قال «احنا كمان شعراء الأرض المحتلة، عايزين نسكن في شبرد». يورد سيد محمود قصيدة لاذعة لأحمد فؤاد نجم غناها الشيخ إمام، وكيف قيل إنها عن محمود درويش. كنت أنا وقتها في الإسكندرية بعيدا عن هذا كله، لكنني عرفت درويش عام 1969 من كتاب رجاء النقاش «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة» في النهاية يقف الكتاب كثيرا عند هذه المعركة التي رآها درويش غريبة كأنه يجب أن يستسمح الناس قبل أن يتزوج مثلا.. كانت سعادته بالغة وهو يرى على الرصيف في مصر الصحف والكتب العربية، ليس من بينها صحيفة عبرية. كانت أماكن بيع الكتب والصحف تؤكد له عروبة مصر. انتقل درويش بعد الاستقرار إلى شقة في جاردن سيتي، سرعان ما غيرها إلى شقة صغيرة لأن الأولى كانت كثيرة الغرف، ومن ثم كان يفد إليها الكثيرون ليناموا وهو يريد ان ينفرد بنفسه وشعره وهمومه. رآه البعض من الصحافيين متكبرا لأنه لا يرد على سؤال كيف حقا غادر فلسطين وما معنى النضال خارجها، ولم يعرف أحد أن محمود درويش لم يحب أبدا إرفاق كلمة الشاعر بالمناضل فالشعر أوسع وأعمق من السياسة. كتب في ذلك أكثر من مقال موجود في الكتاب. كما أنه كان يتجنب الاحتفالات العامة. يحفل الكتاب بالمقالات بعد البحث المضني في أرشيف جريدة «الأهرام» الذي وصل فيه سيد محمود حتى إلى راتبه بعد أن عينه محمد حسنين هيكل فى «الأهرام» وصار يجلس في غرفة الأدباء في الدور السابع التي فيها توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وثروت أباظة وغيرهم. المقالات التي عثر عليها سيد محمود نُشرت وقتها، لكن طواها النسيان وهو يعيدها، فيعيد بها زمنا كأنه يصنع رواية تسجيلية. لا تغيب عنه القصة التي شاعت عن علاقة درويش بنجاة الصغيرة وما فيها من حقائق وأوهام. مقالات عن درويش ومقالات وقصائد له. تغيرت الأمور في مصر بسرعة مع السادات، ورغم أنه تم تعيين درويش في «الأهرام» لكن السياسة الجديدة لأنور السادات جعلته في وضع حرج، خاصة بعد أن سُجن من سماهم السادات مراكز القوى وكان فيهم من سعد بمجيئه إلى مصر مثل محمد فائق وزير الإعلام. هنا بدأت رحلة الخروج التي أخفاها عن الجميع، كما أخفى من قبل رحلة الحضور إلا عن القليلين، وإن ظل يرسل المقالات إلى جريدة «الأهرام» وغيرها. خرج إلى بيروت في منتصف عام 1972 ليلتحق بمركز الدراسات الفلسطينية هناك، لتبدأ رحلة أخرى إلى باريس ثم عمّان وفي الحياة.
المتن المجهول هو هذه المقالات المنسية وهذه المعارك وخبيئاتها، احتاج من الكاتب سيد محمود وقتا طويلا. لقد انشغل بالأمر من قبل ثم صرفته الحياة عنه حتى قرر أن يكتبه، فكان هذا الكتاب الوثيقة من ناحية، والحكاية من ناحية أخرى، يعتمد فيه على مراجع مهمة، واتصالات بمن عايش الأمر واسماؤهم كثيرة. جهد رائع ممتع رغم ما فيه من آلام تسعد بأن درويش خرج منها شاعرا كبيرا ملأ بالنور فضاء الحياة.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خالد عبد الهادي:

    المقصود هو الدور السادس في جريدة “الأهرام”، لا السابع كما ورد في المقال.
    ثروت أباظة لم يكن ضمن من جمعهم الأستاذ هيكل في “الأهرام”..
    سلمت

  2. يقول عادل الأسطة:

    لم يخرج محمود درويش من أريحا كما كتب الكاتب ، بل من حيفا .

  3. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. أحب هذه المقالات التي تستعرض الكتب الأدبية لسبب بسيط لأني لاأقرأ الأدب وأهتماماتي بعيدة تمامًا عن الأدب. وألاحظ كم نجهل هذا العالم وكم نجهل عالمنا نحن دون أن أعني الإقصاء بتعبير نحن. لابد لي من القول بأن أستاذنا في اللغة العربية في المرحلة الثانوية (البكالوريا) كان يفضل الشاعر محمود درويش بلا منازع. لكن كنت ومازلت أفضل أبو العلاء المهري بلا منازع. ولهذا أتمنى أن يتقبل البعض رأيي الذي أريد أن أعبر تعقيبًا على هذا المقال.
    من الناحية الشعرية لاأحد يجادل في شعر محمود درويش ويرقى إلى العالمية.
    لكن في الحقيقة أكثر مايحزنني أن محمود درويش كان يضيق بوصف شاعر فلسطين (مقال رياض معسعس في القدس العربي 19 – مايو – 2020). هو شاعر فلسطين العالمي بلا شك. لكن برأيي نحن العرب لدينا عقدة تسمى العالمية وننسى أن الشجرة العالية تستند على جذورها العميقة في الأرض التي تنبت فيها.

  4. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    بعض من النقد كتبته زوجته الذكية بحق الأديبة أرنا قباني في القدس منذ بضع سنوات ورأيت فيه دقة وموضوعية.
    من ناحية أخرى سياسية أتعجب تمامًا مالذي دعا محمود درويش للإنتساب للحزب الشيوعي ولماذا كان يغض النظر عن الأنظمة الشيوعية ولم يكن الوحيد لكنه شاعر كبير وشاعر القضية الفلسطينية, وقد أضر ذلك بالنضال الفلسطيني عمومًا. لم يكن محمود درويش مثالًا جيدًا للنضال وربما هذا هو السبب لماذا كان يرفض أن يقال له الشاعر المناضل, وطبعًا هذا رأيي وربما لاأدرك حيدًا ماأقول لأني لاأتابع الأدب وربما أنا جاهل بالأدب والأدباء.

إشترك في قائمتنا البريدية