«تـواريخ السينما» لجان لوك غودار: السردية كما يجب أن تُفكَّك

حجم الخط
0

خسارة سينمائية كبرى شهدها العام الماضي، رحيل أحد أبرز الأسماء في تاريخ السينما جان لوك غودار، لاستثنائية تجربته وغناها وامتدادها في أفلام متفاوتة، كماً ونوعاً. لغودار ذاته مكانة خاصة بمثابة التلخيص لتاريخ سينما العالم، من خلال مرحلته التأسيسية منذ «الموجة الجديدة» حتى آخر أفلامه التجريبية، مروراً بمرحلته الثورية والماوية، المكانة هذه تجمع بين الفيلم المستقر في نوعه، الصالح للصالات والمهرجانات الكبرى، والفيلم القلق في نوعه، شديد الفنية والتجريبية، الأقرب إلى الفيديو آرت الطويل الصالح لمعارض الفن المعاصر. لكن، بمعزل عن تجربته هذه، كان لغودار مساهمته في تأريخ السينما، خارج سياق أفلامه التي تؤرخ بذاتها لجانب من هذا التاريخ. الحديث هنا عن أحد أشهر أعماله، فيلم عصي على التصنيف، حتى عنوانه عصي على الترجمة.
هو فيلمه Histoire(s) du cinéma، الذي أقترح ترجمته إلى العربية بـ «تـ)و(ـاريخ السينما» في دمج خطّي ما بين مفردتَي تاريخ وتواريخ وتحويل )المفهومَين إلى حالة القَصّ(، ما يَسهل عموماً في لغات أجنبية، حيث اللواحق تُضاف أحرفاً أخيرة نهايات الكلمات. لكن للصدفة ربما، أمكن اجتراح هذه الصياغة بالعربية، في ضرورة حضور معنيَي العنوان: التاريخ والتواريخ، بتماهٍ كتابي ما بينهما. فأي إلغاء لأي منهما يسحب من العنوان الغوداريّ معناه ومبتغاه. سنأتي على تصنيفه، لكن لنبقَ في العنوان. ما يقدمه غودار هنا هو رواية مضادة للتاريخ الرسمي للسينما، أو لأي تاريخ مكتوب ومكرَّس، في أي مجال، السياسة والفنون والاجتماع وما بينها. وكما يقول في المجلد الثاني لكتابه Jean-Luc Godard par Jean-Luc Godard (1998) التاريخ الأكبر هو تاريخ السينما، فالسينما، بخلاف مجالات العلوم والفنون الأخرى، تعرض تاريخها ولا تحجّمه، كما يمكن لكتاب في أي تاريخ أن يفعل، السينما تقدم تاريخ الأفلام بالأفلام. ما يصنعه غودار هنا هو نفي الرواية الرسمية الواحدة وإدراج روايات غيرها، في إضافة S إلى كلمة يصعب على البعض تقبلها بصيغة الجمع. فحتى في الفرنسية، مع S الجمع، تتخذ كلمة histoire معنى القصة، وبحرفH كبير ودون S، تتخذ الكلمة معنى واحد هو التاريخ، Histoire. وغودار يقدّم قصص السينما وتواريخها، بألسنتها، أو بشرائطها، أو بأفلامها.

من عنوان فيلمه، نقضَ غودار المفهوم الأحادي، ليبني نقضه هذا على طول الفيلم المكوّن من 8 أجزاء وبمدة تطال266 دقيقة، قدّم فيها قراءة نقدية جذرية دامجة ما بين السياسي والاجتماعي والفني (سينما وأدباً ومسرحاً ورسماً) عمّرها طبقات، على طول عمله الاستثنائي، عارضاً قراءته التفكيكية لتاريخ السينما التقليدي، بمرجعيته الماركسية التي تناول من خلالها هذه السينما بصفتها وسيلة إنتاج يتحكم فيها أصحاب السلطة، الساعين إلى الاستهلاك، فالسينما لديهم «امرأة وسلاح» كما وضّح، والحروب الإمبريالية خارج الحدود كانت استكمالاً استهلاكياً ضرورياً يتخطى الوظيفة السلطوية للسينما كما يتحكم بها أصحابها (استديوهات هوليوود تحديداً) في مجتمعاتهم.
الفيلم عصي على التصنيف، كالكثير من أفلام غودار التي تُراوح في أساليبها ما بين عناصر تصنيفات جاهزة مسبقاً، ماحيةً الحواجز ما بينها كما ترسّمت مسبقاً. القسم الأكبر من أفلام غودار يمكن أن يكون كذلك، أستثني منها أفلام الموجة الجديدة حتى «آخر نفس» و»الجندي الصغير» و»أن تعيش حياتها» وغيرها) وبعض الروائيات العظيمة، فغودار المقل في أفلامه الروائية بشكلها الكلاسيكي، حيث قصة تتطور وشخصيات، كان له أحد أفضلها في التاريخ، «احتقار» المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته للإيطالي ألبرتو مورافيا، والمتخلل أو المقتحم لتجربته الثورية فنياً، في الموجة الجديدة، في الستينيات. أما فيلمه «تـ(و)ـاريخ السينما» فهو دامج ما بين الوثائقي والتجريبي، والفيديو آرت، وعمليات الكولاج البصري والصوتي، والروائي ففيه سردٌ لقصة، والموسوعي ففيه إلمام شاسع وإحالات لا تنتهي، هو أقرب ليكون بحثاً في فيديو (video essay) . هو فيلم غوداري وكفى. لا ضرورة لتصنيفه، فهو في شكله كما في مضمونه، فكّك منطق التصنيف وماهى في الفنون وما بينها، في أشكالها وأساليبها وأنواعها. وابتعد غودار أكثر في ذلك، إذ لم يقدم فيلمه كمادة للتلقي الواحد الوحيد. حين يشاهد أحدنا وثائقياً أو روائياً، يكون متعرّضاً لكلام واحد وصور واحدة، ليصل المُدرَك ويكون حدثاً أو معلومة. هنا، يطابق غودار بين عنوان فيلمه ومضمونه وشكله، إذ لا يقدم فقط تفكيكاً للسيرة المكرَّسة لتاريخ السينما وحسب، بل بطريقة تقديمه هذه، يعكس أصلية التفكيك التي ألّف فيها فيلمه، فلم يأت ليكرس روايات أخرى، ليست الغاية نقض رواية واستبدال أخرى بها، أو إتاحات لغيرها وحسب، بل نقض منطق التكريس والسيطرة لسردية واحدة، أو لقصة واحدة وتاريخ واحد، فالفيلم في حد ذاته، تكسير للسطة المكرَّسة المحتكِرة للحكي. فعل غودار ذلك من خلال طبقات الأصوات في فيلمه، فجاور ما بين الضجيج والموسيقى والكلام المسرود والحوارات والأرشيف، فلا يكاد أحدنا يستوعب إحداها حتى تدخل الأخرى لتكسر سير الإدراك الواحد للسردية، ولا تكون الغاية فهم وإدراك واحد للفيلم، بل إدراكات متجاورة لا تنفي إحداها الأخرى بل تنفي، معاً، إمكانية سيطرة إحداهما على الباقي، وهذا يحيلنا مجدداً إلى المرجعية الماركسية لغودار، التي تتجاور فيها متناقضات تتفاعل وتتجادل إلى أن تخرج معاً بشكل جديد مختلف تماماً، هذا الشكل قد يكون إدراك أحدنا النهائي لما شاهده، لكنه نهائي، إن توصّل أحدنا إليه، لصاحبه (أشكال نهائية لأصحابها) وليس الفيلم معنياً به.
ليست هذه المقالة وافية لهذا الفيلم الموسوعي، وليست المساحة المتاحة له كافية سوى للإشارة إلى منجز غودار العظيم، عموم منجزه، وبالأخص منه هذا الدليل النقدي الجذري الماركسي لا لتاريخ السينما حسب، بل لتاريخ العالم، وأساساً، لكيفية إدراك كل هذه التواريخ وقراءتها.

كاتب فلسطيني سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية