أصبح لكرة القدم دور كبير في ما يعرف بـ»السياسات الناعمة» التي تلعبها الدول والمؤسسات والأحزاب في مختلف دول العالم، فشعبية اللعبة تساعد على تسويق الصورة التي يسعى لها المنظمون، وكأس الخليج لكرة القدم لا تخرج عن هذا السياق، فعلى الرغم من أنها بطولة كرة قدم إقليمية، وليست دولية، إلا أنها تتداخل مع السياسات الإقليمية للمنطقة في تشابكات متعددة.
عندما تبنت البحرين الفكرة عام 1969 بعد أولمبياد المكسيك، كانت خطوة سعت لها دول الخليج العربية لتعزيزاللحمة بينها، فكانت خليجي 1 عام 1970 في العاصمة البحرينية المنامة، وشارك فيها أربع دول هي: الكويت والبحرين وقطر والسعودية، ثم تصاعد عدد الفرق في الدورات اللاحقة التي تقررت إقامتها كل سنتين، فدخلت سلطنة عمان ودولة الإمارات، وبهذا اكتمل نصاب الست دول التي ستعرف لاحقا باسم «دول مجلس التعاون الخليجي».
انعكاس التوجهات السياسية على خيارات الرياضة كان واضحا في استبعاد العراق وإيران، الدولتين المطلتين على الخليج، نتيجة الاختلافات بين الأنماط السياسية بينهما وبين بقية دول الخليج، لكن العراق دخل في خليجي 4 عام 1976، ومثّل حينذاك تحديا كبيرا للفريق الكويتي الذي كان متقدما في مستواه الفني على بقية فرق الخليج التي كانت ذات مستويات مبتدئة في كرة القدم في ذلك الوقت. ثم حظي العراق بتنظيم خليجي 5 عام 1979، وتمكن الفريق العراقي من الفوز بالكأس لتلك الدورة، وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي نظم فيها العراق البطولة وصولا إلى خليجي 25 نتيجة الحروب التي خاضها العراق مع إيران، ثم احتلال الكويت، وحرب تحرير الكويت، حتى الغزو الأمريكي وإسقاط نظام صدام. استبعد العراق من دورات خليجي طوال عقد التسعينيات نتيجة عقوبات الاتحاد الدولي لكرة القدم، التي فرضت على العراق على خلفية العقوبات الدولية التي طالت العراق بسبب غزو الكويت، إذ لم يسمح للعراق بالمشاركة من خليجي 11 التي أقيمت عام 1992 في العاصمة القطرية الدوحة، وصولا إلى خليجي 18 التي أقيمت في الدوحة أيضا عام 2004، وهنا بدا التسامح واضحا بعد أن تم قبول دخول اليمن بعد فترة طويلة من الممانعة الخليجية، لتصبح البطولة تضم ثمانية فرق، دول مجلس التعاون الست بالإضافة للعراق واليمن. بقي وضع العراق في دورات خليجي اللاحقة مشوبا بالكثير من القلق، إذ لم يتمكن الاتحاد العراقي لكرة القدم من اقناع دول الخليج بتمكنه من تنظيم إحدى الدورات نتيجة وضعه الأمني الهش، وتفشي الإرهاب، الذي تسبب في خوف دول الخليج من التهديدات التي قد تطال فرقها إذا حضرت إلى العراق، ما تسبب في عدم موافقة الاتحاد الآسيوي على تنظيم العراق لإحدى بطولات خليجي، لكن بعد إعلان العراق الانتصار على تنظيم الدولة (داعش)، وانتهاء عمليات تطهير العراق من فلول التنظيم الإرهابي عام 2018 بدأ التحرك العراقي الجدي لاستضافة خليجي. بعد مرور 44 عاما على احتضان بغداد لخليجي 5 عام 1979، تمكن العراقيون من إقناع شركائهم الخليجيين بإمكانية العراق تنظيم خليجي 25 عام 2023، وابتدأ هذه المرة استعداد البصرة المطلة على الخليج، أكبر مدن جنوب العراق وأهم مدنه البترولية، على احتضان البطولة وليس العاصمة بغداد، ووضع الكثير من المراقبين تحديات كبيرة أمام إمكانية نجاح العراق بتنظيم البطولة بشكل لائق، نتيجة المقارنات التي طرحت مع قطر التي تمكنت من احتضان كأس العالم لكرة القدم عام 2022 بنجاح كبير.
على الرغم من أن خليجي 25 بطولة كرة قدم إقليمية، وليست دولية، إلا أنها تتداخل مع السياسات الإقليمية للمنطقة في تشابكات متعددة
من ناحية ثانية دخلت إيران على خط مشكلة الهوية في خليجي 25، إذ أفادت وسائل إعلام رسمية بأن إيران احتجت لدى العراق على استخدام اسم «الخليج العربي»، لأن الجمهورية الإسلامية تصر على أنه يجب تسمية الخليج بـ»الفارسي» بدلاً من «العربي» التي تستعملها دول الخليج العربية، وقد أثارت القضية مرارا وتكرارا مع الدول والمنظمات التي تشير إليها بخلاف ذلك. ونقلت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، أنه استدعى السفير العراقي في طهران وأبلغه أنه، «على الرغم من أن لدينا علاقات استراتيجية وأخوية عميقة مع العراق، لكننا نعرب بوضوح عن احتجاجنا على هذه القضية»، وأضاف «لقد عكسنا حساسية الأمة الإيرانية العظيمة تجاه استخدام المصطلح الدقيق والكامل للخليج الفارسي على الجانب العراقي.» تلقف الفرقاء السياسيون في العراق وجيوشهم الإلكترونية قضية التسمية، وابتدأ كل طرف منهم يبحث في الأدلة التاريخية والجغرافية والسياسية عن أصل تسمية الخليج، وتغيراتها عبر الحقب التاريخية المختلفة، واشتعل النزاع بين من يدافع عن «عروبة» الخليج ووجوب تسميته بهذا الاسم، والمقربين من طهران الذين دافعوا عن «فارسية» الخليج، حتى بات الأمر «تريند» على وسائل التواصل الاجتماعية العراقية. ولم يكتف العراقيون بالصراع حول تسمية الخليج، بل تحول الأمر إلى هامش آخر من هوامش افتتاح دورة خليجي 25، إذ انقسم الشارع إلى حزب أنصار الفنان كاظم الساهر، وحزب أعدائه. وانطلق النزاع هذه المرة على خلفية إطلاق الكثير من الإشاعات حول مشاركة الساهر في فعاليات افتتاح خليجي 25، وقد هاجم طيف عراقي واسع الساهر متهمينه بنقص الشعور الوطني وعدم مشاركته شعبه العراقي آلامه وافراحه، بينما نراه يشارك في مختلف المناسبات والمهرجانات العربية والدولية، لكن أنصاره من جانب آخر دافعوا عن مواقف الفنان الذي رفع اسم العراق عاليا في المحافل العربية والدولية، وأنه لم يتلق دعوة رسمية من اتحاد الكرة العراقي للمشاركة، وبينما ازدادت إشاعات مشاركة الساهر في حفل الافتتاح في الأيام التي سبقت الافتتاح حتى وصلت الأمر إلى «تريند» أيضا وبات أقرب إلى المهزلة المضحكة المبكية. نزاع آخر اشتعل في الشارع العراقي بين من يرى إن هذه الفعالية هي عبارة عن غسيل مواقف سياسية للطبقة السياسية الفاسدة، التي تحاول أن تكسب الشارع عبر ترويجها لفكرة أنها تعمل على إبراز الوجه الحضاري للعراق، بينما واقع الحال والخدمات يشي بوضع كارثي يعيشه المواطن العراقي، وإن من بين كوارث خليجي 25 على البصرة، أنه تم بناء جدار عازل يغطي فظائع العشوائيات التي انتشرت بالقرب من المدينة الرياضية، وتمت تغطية الجدار بلوحات فنية وظيفتها تغطية المأساة، لكن المتفائلين من جانبهم رأوا إن كل خطوة في مجال مشاركات العراق الإقليمية والدولية تمكنه من إبراز وجهه الحضاري وفك سطوة الإسلام السياسي على أموره، وحلحلة سيطرة إيران على مقدرات العراق، وبالتالي سيكون خليجي 25 مهما شاب التجربة من سلبيات، خطوة مهمة في استعادة العراق لعافيته. عندما انطلقت فعاليات الافتتاح بعروض الأضواء الليزرية، والفعاليات الفنية التاريخية والحضارية، وركزت الكاميرات التي تنقل الحدث على ملعب جذع النخلة في البصرة والشوارع المؤدية له، بكى عدد من العراقيين من نشوة الفرح التي باتت لحظاتها شحيحة في حياة العراقيين، بينما ركز المنتقدون أبصارهم وهم يشاهدون الاحتفال على الأخطاء مهما صغرت، وأغرقوا وسائل التواصل الاجتماعي بـ»مصائب سوء التنظيم»، والنتيجة المعتادة كانت إن كل طرف من طرفي النزاع العراقي نظر إلى نصف القدح الذي يتواءم مع نظرته الى حال العراق، فكان خليجي 25 ساحة لطرح مشاكل الهوية بكل وضوح.
كاتب عراقي
بطولة ناجحة لغاية الآن !
و لا حول و لا قوة الا بالله