لا أحد يدلك في مدينة أوروبية على موقع كما نفعل نحن في مدننا العربية، عليك أن تعتمد خريطة إن كنت من هواة الورق، وستكون نادرا من نوعك عندئذ أو عليك استعمال الخريطة الرقمية الموجّهة بالأقمار الاصطناعية، وستكون معاصرا حتى النخاع. سيحدّد موقعك برمز يعلن أنك «هنا» على خريطة فيها تفصيل كبير، عكس خرائطنا في درس الجغرافيا لذلك العهد. القمر الإصطناعي أدرى منك بموقعك في هذا الاتساع المترامي الأطراف، تقول له أنا لن أضيع فأنت الأدرى! استعارة «مدن التيه» لم تعد صادقة، بعد أن صرت معلوم الموقع معروف المسار مساقا بأقمار السماء الاصطناعية ودليلك هاتفك الذكيّ.
حين يقصدك في مدينة من مدننا العربية البسيطة رجل بسيط ويسألك عن اسم حيّ، أو شارع أو محل، أو إدارة فذلك يعني أنّه يعتقد أنك أنت الأدرى بتفاصيل المكان وتشعبات الشوارع ومتاهات المدينة، هو يتكهّن بذلك ويحدس به. في كثير من الأحيان يختار السائل المسترشد عن المكان من يسأله ويختاره بحدس وفراسة يقولان له ذاك هو الأدرى بجغرافية المدينة الغامضة.
أنت الأدرى لا تعني أنت الأعلم في سياق الاسترشاد هذا، أنت الأدرى تعني ههنا أنك صاحب أفضل معرفة بشيء مخصوص.. أنت الأدرى يراد بها أنك أكثر من يعرف المكان الذي سئلت عنه وكيفية الوصول إليه.. أنت الأدرى تعني بعبارة معاصرة أنك كقمر اصطناعي لديه معطيات يمكن أن تقودك إلى المكان المفقود. أنت في وضع السائل لا تدري أين تقع الإدارة الفلانية، أو الحيّ الفلاني، لكنهم حين يخبرونك وتصل بسلام إلى المكان ستصبح داريا، بعد أن كنت لا تدري. من لا يدري من السهل عليه أن يكون داريا بأن تحدّد له بالخبر والإشارات والمؤشّرات أين يكون المكان الذي عذّب ذهنه فلا يلقاه.. سينتقل من عدم الدراية إلى الدراية سريعا. لكن لن يحدث ذلك لمن لا يعلم لأنّ العلم بالشيء لا يحدث سريعا، ففي العلم حيثيات وتفاصيل تكتسب بطول الوقت وشدّة التمرس وكثرة المران. حين أستعمل وأنا في المدينة تطبيق الهاتف الإلكتروني الذي يقودني ودونما سؤال، عليّ أن أكون عالما على الأقل بالطريقة التي أشغّل بها التطبيق في الحاسوب وأن أكون عارفا بقراءة أسماء الشوارع والإشارات المصاحبة على الخريطة الرقمية وغيرها من العناصر التي أكون قد تعلمتها في المدرسة أو تعلمتها لوحدي..
وهذه معطيات لا تُتعلم سريعا، كما لا شكّ تعلمون.. منكم من له معرفة أكثر منّي فأنا على سبيل المثال لا أعلم من وضع تطبيق الإرشاد هذا في الحاسوب، ولا كيف وضعه، ولا كيف يشتغل كما يشتغل ولا كيف يشتغل الهاتف تدقيقا، لكل منّا دائرة علم توجد دوائر أعلى منها تتطلب كي يقال له فيها أنت الأعلم، أن يكون مبرّزا فيها متقدّما متخصّصا غير موسوعي.
يستعمل النص القرآني عبارة الأعلم ولا يستعمل عبارة الأدرى، يقول تعالى في سورة الكهف (26): (قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدا) يقول الطبري في تفسير هذه الآية وكيف أنّ – «الأعلميّة « أي أن يكون الله أعلم من غيره – صفة مقصورة عليه:) يقول تعالى ذكره: لله علم غيب السماوات والأرض، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يخفى عليه شيء، يقول: فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السماوات والأرض، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار) ويقرن المفسّر بين هذه الذروة في العلم الرباني وقدرته على أن يستوعب المرئيّ والمسموع في كلّ نقطة من الأكوان التي خلقها فيقول: «وقوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ يقول: أبصر بالله وأسمع، وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه. وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكلّ موجود، وأسمعه لكلّ مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
في سعيك اليومي في مدن الأرض وفي أريافها أنت تستعمل اللغة والإشارات لكي تنتقل من شخص لا يدري إلى شخص يدري، لكنّك وأنت تستعمل اللغة والإشارات لكي تتنقل بين هذه المعرفة، أو ذاك فأنت شخص لا يعرف في ذلك الحين، وهو يريد أن يتلقى علمه من شخص يعرف أكثر ممّا يعرف هو.
فعل الدراية في القرآن هو فعل يرتبط بأمر مجهول يمكن كشفه كقوله تعالى (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) ( النساء، 11) فإنّ الدراية فيه مرتبطة بمعرفة تفاصيل الميراث وقسمة الموروث على سبيل ما يتقرّر نصّا؛ ويمكن كشف المجهول لأنّه غيبي مرتبط بعلم الأعلم كقوله تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» (لقمان، 31) فإنّ الدراية بميقات الموت وبمكانه ما يزال إلى يوم الناس هذا أمرا مجهولا مهما حصّلنا من العلوم.
العلم الإلهي الذي يستعمل له صيغة المبالغة (أعلم) هو درجة من العلم بما خفي عن الناس ولم يدركوه ببصر ولا ببصيرة بسمع ولا برواية في آية الكهف أعلاه ضرب من السكوت عن المعلومة التي سؤالها كم لبث أهل الكهف في كهفهم؟ هو سؤال غرضه معرفة شيء مجهول يكتنفه الغموض، وليس كسؤال من يسأل في المدينة أو في القرية عن كهف أثريّ يريد أن يزوره في رحلة. السيّاح المستكشفون يمكن أن يرافقوا خبيرا في الكهوف أو في المسالك السياحية سيكون هو «الأدرى» بالتفاصيل لكنّه لن يكون ‹الأعلم» حين يتعلّق الأمر بمسائل تاريخية وبحفريات ونقوش غريبة سيكون العالم بالأحافير والكتابات وبالحيثيات التاريخية هو الأعلم منه وهذه الدرجة الرفيعة من العلم لن تجعله يشتغل مرافقا للسيّاح، ربما جعلته باحثا مرافقا للكتب أو للمواقع التي تخبره عن نفسها ولا يخبر هو عنها غرباء مثلما يفعل المرافقون. لكنّ هناك شيئا في نطاق صيغة المبالغة (هو الأعلم ) الدينية يميّز الذات الإلهيّة من غيرها من العالمين العارفين: إنّه يعلم ولا يخبر عن علمه، لا لأنّه يتفرّد بالأعلميّة (أي كونه هو الأعلم) فذلك من تحصيل الحاصل، بل لأنّ السؤال المستفسر عن هذا العلم بالغيب لا حدود له ؛ هو سؤال ينفتح على سؤال إلى ما لا نهاية، فحتى تعلم كثيرا عليك أن تكون مشحونا بأدوات علم مجاوزة لأدواتك الحاليّة التي لا تعلمك إلاّ بالمحدود.
في سعيك اليومي في مدن الأرض وفي أريافها أنت تستعمل اللغة والإشارات لكي تنتقل من شخص لا يدري إلى شخص يدري، لكنّك وأنت تستعمل اللغة والإشارات لكي تتنقل بين هذه المعرفة، أو ذاك فأنت شخص لا يعرف في ذلك الحين، وهو يريد أن يتلقى علمه من شخص يعرف أكثر ممّا يعرف هو.. في السياق الوضعي لا يتداخل «الأدرى» بـ»الأعلم» ولا يتداخل من يكون أعلم بحيثيات الأمور بمن هو أعلم بالغيب وما يخفى، فلكلّ مداراته التي تكشفها اللغة ويخبر عنها السؤال ويجليها الجواب.
أين كنت؟ أنا أنتظرك من الصباح هنا؟ تأخّرت.. لماذا تأخّرت؟ أقول: الله أعلم.. وأسألها لماذا انتظرتني أكثر وقد تأخرت كثيرا.. قالت: أنت: الأدرى.
من داخل دكّان بسيط يبيع الثياب القديمة غير بعيد من مجلسي تنبعث أغنية للعندليب الأسمر ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت… أقول مردّدا مع الصوت الحليم: «كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي.. تقول معي: لست أدري.. ويصفق الجمهور.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة
هل معنى الدراية ينطوي على العلم النابع من تجربة أو خبرة؟ شكراً.