عُرضت أوبرا نورما للمرة الأولى سنة 1831 على مسارح إيطاليا، أما أحداثها فتقع قبل الميلاد في بلاد الغال، عندما كان يحتلها الرومان. وتُعد هذه الأوبرا من أجمل نماذج الأسلوب الإيطالي Bel canto أو الغناء الجميل، وفيها تجتمع الموسيقى الرائعة مع الدراما القوية والأداء الصوتي الصعب، ولكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة جمالياته، التي يمكن تناولها منفردة، فالألحان التي وضعها الموسيقار الإيطالي فينشينزو بيلليني تحيط السامع بمتعة ساحرة، منذ أول لحظة وحتى نهاية الأوبرا، التي تمتد لساعتين ونصف الساعة تقريباً. وتبدو هذه الألحان كلحن واحد طويل منسجم الأجزاء، يود المرء أحياناً أن يسمعه كموسيقى خالصة دون مصاحبة الغناء، ولا يشعر بأي انتقالات حادة من المقدمة الموسيقية الخلاّبة، إلى الفواصل الموسيقية بين مشهد وآخر، أو إلى الألحان الفردية والثنائية والثلاثية والجماعية، وتحتفظ الموسيقى بالمستمع وهو يتابع الدراما وتعقيداتها وتصاعداتها، ويصغي إلى الغناء وأحاسيس الأصوات المختلفة وانفعالاتها. والدراما الكائنة في ليبيريتو هذه الأوبرا أو نصها الغنائي، أعدها المؤلف الإيطالي فيليس روماني، من وحي مسرحية نورما للكاتب الفرنسي ألكسندر سوميه. وحكايتها لا تختلف كثيراً عن الحكايات التقليدية، التي نجدها في الأوبرا عادة، حيث قصص الحب المعقدة التي تخوض صراعات، إما مع القدر أو الواجب والضمير، أو سلطة ما تقهر هذا الحب وتقضي عليه بالشقاء، بالإضافة إلى النهايات المأساوية للعشاق.
أما الغناء في أوبرا نورما، فإنه يُحلّق بالسامع نحو الذرى الشاهقة، ويشعر هذا السامع كما لو إنه داخل معرض ضخم، لجماليات وتقنيات صوت السوبرانو، الصوت النسائي الأرفع مقاماً في الأوبرا. وأوبرا نورما أوبرا نسائية بمعنى الكلمة، لا لأنها تحمل اسم بطلتها وحسب، لكن لأن البطولة الصوتية فيها للأداء الأنثوي وصوت السوبرانو، وهي من الأوبرات القليلة التي تحررت من البطولة الذكورية، المحتكرة لصالح صوت التينور، فهناك أوبرات تحمل اسم البطلة كأوبرا توسكا، وأوبرا عايدة، على سبيل المثال، لكن أهم الآريات في مثل هذه الأعمال، وُضعت للبطل الرجل أو صوت التينور. أما في أوبرا نورما، فإن صوت السوبرانو (شخصية نورما) هو الصوت البطل، صاحب الآريات الرئيسية، الذي يغني أصعب وأجمل الألحان المعبرة عن الأحداث والعقدة الدرامية. كما يوجد صوت سوبرانو آخر هو صوت البطلة الثانية (شخصية أدالجيزا)، التي وضع لها بيلليني أيضاً ألحاناً رائعة، وجعلها تشارك نورما في دويتو رائع، أبرز من خلاله جماليات صوت السوبرانو بتركيز مضاعف، ونبّه أذن السامع إلى التنوع الموجود فيه، وما يمكن أن يحدث عندما يتحاور الصوتان الأنثويان موسيقياً.
ويقوم صوت التينور (شخصية بوليوني) بالبطولة الذكورية التي تعد محدودة، وقصيرة المساحة في هذه الأوبرا من ناحية الصوت، رغم أهميته المركزية في الدراما. وفي دور ثانوي يوجد صوت تينور آخر (شخصية فلافيو) صديق بوليوني، وكذلك صوت ميتزو سوبرانو (شخصية كلوتيدا) خادمة نورما، ويؤدي صوت الباص (شخصية أوروفيزو) بعض الآريات القليلة، بالإضافة إلى بعض مقاطع الإلقاء الملحن، وأوروفيزو هو رئيس الكهنة ووالد نورما. واعتمد بيلليني ملحن أوبرا نورما على الأصوات الجماعية في أجزاء مختلفة من العمل، وخصوصاً في بداية الأوبرا وفي نهايتها، والحق إن الغناء الجماعي في أوبرا نورما يعد لافتاً ومميزاً للغاية، طبعه بيلليني بطابع الجلال الديني، وبهاء الإيمان والمشاعر الروحية المقدسة، وطبعها أيضاً بالطابع الحماسي، المعبر عن مشاعر القوة والغضب والاستعداد للحرب، والرغبة في التحرر ومقاومة العدو المحتل.
وكذلك تعد أوبرا نورما أوبرا نسائية، لأن الدراما فيها تتناول المشاعر العميقة للمرأة، وتضعها في مواجهة مع الحب والأمومة، والخيانة والمسؤولية الدينية والسياسية والوطنية. وقد يرى البعض في هذه الدراما معالجة تقدمية لتلك الجوانب، بينما قد يرى فيها البعض الآخر، نظرة متأخرة، تضع المرأة في إطار كائن لا يستطيع التحرر من مشاعره، وتطغى عاطفته على كل واجب وكل مسؤولية. وتظهر بعض التشابهات بين فكرة أوبرا نورما، وفكرة أوبرا عايدة، من حيث الوقوع في الحب مع العدو، فالعقدة الدرامية في أوبرا عايدة، هي وقوع القائد المصري راداميس، في غرام عايدة، الأميرة الحبشية ابنة ملك الحبشة المحارب لمصر والمعتدي عليها. وفي أوبرا نورما تقع نورما كبيرة الكاهنات في بلاد الغال، وابنة رئيس الكهنة وصاحبة الرؤية والقرار السياسي، في غرام بوليوني القائد الروماني المحتل لأرضها، الذي يقسو على أهل بلادها ويذيقهم البأس. وكما كان على راداميس في أوبرا عايدة، أن يدفع ثمن خيانته وغرامه، وأن يُدفن حياً، أو أن يحبس في المقبرة حتى الموت، واختارت عشيقته عايدة أن تموت معه، وسبقته إلى المقبرة. كان على نورما أيضاً أن تدفع ثمن خيانتها وغرامها، وأن تذهب إلى المحرقة، واختار بوليوني أيضاً ان يصاحبها، وأن يذهب معها إلى تلك المحرقة ممسكاً بيدها. لكن ما بين بداية حب نورما وبوليوني والنهاية المأساوية، هناك بعض التقلبات الدرامية، كاكتشاف الخيانة ووجود عشيقة أخرى، ومحاولات الانتقام، واشتعال الكراهية التي تتحول إلى حب مرة أخرى.
يعد دور نورما من أصعب الأدوار النسائية في تاريخ فن الأوبرا، لا يقدر على أدائه إلا الأصوات الذهبية رفيعة الطراز، وقد ارتبط هذا الدور بأشهر مغنيات الأوبرا العالميات، مثل ماريا كالاس ومنتسرات كاباييه. ويتطلب الدور بالإضافة إلى الإمكانيات الصوتية المذهلة، القدرة على الأداء التمثيلي الذي يتسم بالمبالغة، خصوصاً في بعض المشاهد، كمشهد محاولة قتل الأطفال، ومشهد اكتشاف وجود العشيقة الأخرى، ومشهد مواجهة الموت في النهاية بطبيعة الحال. كما يكون على من تلعب هذا الدور، أن تعبر بصوتها وبأدائها التمثيلي عن الجانب الضعيف في نفس نورما، المختبئ وراء الشخصية الظاهرة للجميع، شخصية الأنثى القوية الحكيمة، صاحبة الرأي والقرار، فلسبب ما نجد أن القوم في بلاد الغال يأتمرون بأمر نورما، وأنها هي صاحبة الحق في اتخاذ القرار بالحرب أو السلم مع المحتل الروماني، حتى إن كان قومها يعترضون على السلم، فإنهم يطيعونها على كل حال، ويبتهلون إلى الإله إرمنسول لكي يلهمها الغضب والرغبة في الحرب والقتال. وعندما تكون نورما في وئام مع حبيبها بوليوني، تظل تحث القوم على السلام، وتخبرهم أنهم ليسوا على استعداد لمواجهة العدو الآن، وأن عليهم الانتظار لحين مجيء الوقت المناسب.
وعندما تكتشف نورما خيانة بوليوني، وتفشل في استعادته عندما يفضل عليها العشيقة الأخرى، تذهب لتدق طبول الحرب على الفور وتحشد المقاتلين، لا لتحرير أرض بلادها، وإنما للانتقام ممن أهان كرامتها كامرأة وحطم قلبها، والإتيان به مقيدا أمامها.
وعندما تكتشف نورما خيانة بوليوني، وتفشل في استعادته عندما يفضل عليها العشيقة الأخرى، تذهب لتدق طبول الحرب على الفور وتحشد المقاتلين، لا لتحرير أرض بلادها، وإنما للانتقام ممن أهان كرامتها كامرأة وحطم قلبها، والإتيان به مقيدا أمامها. ما يظهرها كامرأة غير صالحة للقيادة وتحمل المسؤولية. لم تكن خيانة نورما بالأمر الهين، ولم تكن العلاقة مجرد علاقة عابرة، بل كانت زواجا سرياً، لا يعلم به سوى فلافيو صديق بوليوني، وكلوتيدا خادمة نورما ومربية طفليها، المختبئين دائما في مكان ما بعيدا عن الناس. أما العشيقة الأخرى أدالجيزا، فهي كاهنة شابة تحت قيادة نورما ومقربة منها ومحببة إليها، يتقرب بوليوني من أدالجيزا، ويُضعف قواها تدريجياً، فتحس بالذنب الفظيع عندما تشعر ببوادر الحب تجاهه، وهو القائد الروماني العدو لبلادها، وتذهب لتعترف لنورما بذنبها، وهي لا تعلم أن بوليوني قد أغوى نورما من قبلها، وأنجب منها طفلين في السر، وبعد اعتراف أدالجيزا لنورما، يجتمع هذا الثلاثي، نورما وأدالجيزا وبوليوني، على خشبة المسرح، وتحدث المواجهة الرهيبة، وتحاول نورما استعادة بوليوني، لكنه يختار أدالجيزا. فترفضه أدالجيزا وتذهب لتحتضن نورما وتطلب عفوها. بعد هذا تكاد نورما أن تتحول إلى ميديا أخرى، تقتل أطفالها انتقاماً من الزوج الخائن. وإن كانت تبرر ذلك أثناء غنائها وهي تمسك بالسكين، وتنظر للطفلين النائمين، بأنها سوف تقتلهما خوفاً عليهما من العبودية في روما. تتراجع نورما عن القتل، وتشفق على طفليها، وتنتهي تلك الآريا باستيقاظ الطفلين واطمئنانهما في أحضان الأم.
لا تنطفئ نار نورما ولا تهدأ، وتحاول استعادة بوليوني هذه المرة عن طريق تهديده، بإفشاء سر أدالجيزا، وإخبار الجميع بأنها أحبت رجلاً من أعداء بلاد الغال، وأن اعترافها هذا سيؤدي بأدالجيزا إلى المحرقة، ويرفض بوليوني أيضاً العودة إلى نورما، لكنه يحاول أن يجعلها تعفو عن أدالجيزا، وعندما تقف نورما أمام الجميع وتخبرهم أن هناك من دنست شرفهم الديني والوطني، ويثور الجميع ويطالبون نورما بالإفصاح عن اسم تلك الآثمة، تقول نورما إنها هي الآثمة التي يجب حرقها، ويذهل بوليوني من المفاجأة، ومما فعلته نورما، ومن اعترافها وتضحيتها بنفسها، ويستعيد حبه لها من جديد ويقرر الذهاب معها إلى المحرقة ليموت معها. تطلب نورما الغفران من والدها رئيس الكهنة، وترجوه أن يعتني بطفليها وألا يعاقبهما على ذنب لم يرتكباه، وتذهب نورما إلى المحرقة وقد استعادت رجلها بوليوني، واحتفظت به إلى الأبد.
كاتبة مصرية
يعجبني فيديو لسارة برايتمان و اندريا بوتشيلي بأغنية “وقت الوداع”. !
Andrea Bocelli & Sarah Brightman (Time to say Goodbay)
أفضل غناء أوبرالي على الإطلاق !! ولا حول ولا قوة الا بالله
«آن أوان الوداع » وليس “وقت الوداع” بهذه الحرفية المباشرة والفاقعة ،،،،
مقالاتك دائما مفيدة و ممتعة يا دكتورتنا العزيزة. Bel canto الغناء الجميل في بعض المدن الأوروبية مطاعم و مقاهي راقية تتخصص في هذا النوع من الغناء الكلاسيكي. شكرا لك.
شكرا جزيلا أستاذ هيثم. جميل اعتزاز أوروبا بفنونها وحفاظها عليها. تحياتي لحضرتك ومساؤك سعيد