الصيف الماضي، انشغل الناس في الجزائر بقضية القضايا. بات الجميع يتكلم عنها، في المقاهي أو في الجلسات الخاصة، لاسيما الشبان منهم. تلك القضية فُردت لها أعمدة في الصحف اليومية، فلم تكد تخلو إصداراتها من إطالة الحديث عنها، على الرغم من أنها لم تكن قضية سياسية، ولا تخص شؤون الاقتصاد، لم تكن مسألة رياضية، ولا تتعلق بواحد من لاعبي الكرة.
إنها قضية تتعلق بما اصطلح عليه أنها جنحة المشاركة في النصب على الجمهور. والمحاكم تعالج، كل أسبوع، هذا النوع من القضايا من دون أن يلتفت إليها أحد، ومن غير أن يهتم الناس بالنصّاب أو الضحية. لكن في تلك المرة تغيرت الأمور، ظلت القلوب تخفق في انتظار ما ستسفر عنه قرارات القضاء، لأن المتهمين في الموضوع ثلاثة شبان، أعمارهم في أوائل العشرينيات، كان يمكن أن يكونوا مثل غيرهم من مراهقين جزائريين لا ماضٍ لهم. لكنهم حازوا شيئاً ميزهم عن غيرهم. إنها ثلاثة «مؤثرين» على السوشيال ميديا، يتابعهم ما لا يقل عن اثني عشر مليون شخص. هذا رقم يتجاوز عدد سكان أربع دول أوروبية، لا شيء يربطهم في ما بينهم سوى متابعة نجومهم على الإنستغرام أو سناب شات، يعلقون على خرجاتهم، من صور وفيديوهات، منذ قهوة الصباح إلى غاية ركونهم إلى أفرشتهم للنوم ليلاً.
تلك الواقعة، التي جعلت صيف الجزائر مضطرباً، وتطايرت فيها التكهنات والآراء، جعلت غير المهتمين وغير المنشغلين بالعوالم الافتراضية يكتشفون شيئاً اسمه «المؤثرون»، يكتشفون أولئك الشبان، الذي وُلد غالبيتهم في سنوات الألفين، ويتابعهم الملايين. صارت ظاهرة المؤثرين واقعاً وليست مجرد دعابة، فهناك شيء حرج يدور في مواقع التواصل، وقد لا يوليه البعض أهمية، لكنه سرعان ما يطفو على الواقع، وينتقل من الافتراضي إلى الحقيقي. فصلت المحكمة في قضية المؤثرين الثلاثة، ولم يطل الحال أن غادروا السجن مع تبرئة أحدهم. وإذا أردنا تتبع شكل حياتهم، وكيف وصلوا إلى جمع الملايين من حولهم، فتكفي العودة إلى المحتوى الذي يعرضونه على حساباتهم في إنستغرام، أو غيره من المواقع الأخرى، لكن ما يهمنا في هذا السياق هو أمر آخر. كيف يصير شخص عادي، متابعاً لنشاطاتهم؟ من أين يأتي أولئك الملايين المغرمين بحياة افتراضية لنجومهم وما الذي يجعلهم يتعصبون إلى نجم في السوشيال ميديا على حساب آخر، كما لو أننا في حلبة صراع ثيران؟
الشركات التجارية لم تعد تثق في الميديا الكلاسيكية، أو ربما تفكر في الكسب السريع، ما يحملها إلى التعاقد مع مؤثرين، نظير سرعة علاقتهم وتأثيرهم على متصفحي النت، بدل اللجوء إلى التلفزيون مثلاً، كما كان معمولا به.
صورة النجم وتمثلها
قبل سنوات قليلة، لم يكن الجزائريون يتابعون، على مواقع التواصل الاجتماعي، سوى مؤثرين أجانب، على غرار كيم كاردشيان وأخواتها أو سيلينا غوميز، أو نجمي الكرة كريستيانو وميسي، هؤلاء المؤثرون لهم حياة تختلف تماماً عن الواقع الجزائري، ومتابعوهم يصرون عليهم، من باب التسلية والحلم أيضاً، وهم يعلمون أنهم لن يصلوا أبداً إلى ما وصل إليه أولئك الأشخاص من مال وشهرة.
ثم ظهر مؤثرون محليون ولقوا رواجاً، والسبب الأول في تهافت الناس عليهم هي رغبة المتابعين في تمثل حياة أولئك المؤثرين، يتلصصون على صورهم وفيديوهاتهم، ليس من باب الإعجاب فقط، بل من باب التشبه بهم، والرغبة في وصول المرتبة ذاتها. فعندما يحلق المؤثر شعره بشكل ما، سوف يفعل المتابع الشيء نفسه، في التشبه به، وإذا لبس ثوباً فسوف يلبس مثله. صارت الحكاية محصورة في تشبه التابع بالمتبوع، في رغبة الأول في كسب متابعين له، في مدرسته أو في حيّه، حيث يسكن، من مجرد تمثل صورة النجم الذي يتابعه الملايين. إذن الغيرة دافع أساسي في الربط بين الطرفين، فيصير الشاب التابع مولعاً بما يظهر عليه نجمه، ومقياس النجاح في نظره هو أن يأكل ويلبس ويتصرف ويتكلم مثلما يفعل ذلك المؤثر، الذي يصرف وقته كاملاً في نشر فيديوهات، ويشارك متابعيه حياته اليومية، بحيث يتنازل عن حياته الشخصية، مقابل إرضاء متابعيه.
سباق نحو المال
في السابق، كي يصير شخص ما «مؤثراً»، سواء كان سياسياً أو صحافياً أو كاتباً أو رياضياً، فهو يحتاج إلى جهد سنوات، أن يلمع في مجاله ويبسط عليه هيمنته، ثم تحشد له صفحات الجرائد ونشرات الأخبار في التلفزيون والراديو. أما اليوم فقد تغيرت المعطيات، يكفي أحدهم أن يجمع عشرة آلاف شخص، من نشاطه اليومي، في إنستغرام، فيصير مؤثراً وصانعاً للرأي.
بعدها تبدأ عملية الحسابات، ويشرع مريدوه في حساب ما بوسعه أن يكسبه من مال. يظن البعض أن مجرد كسب الآلاف من المتابعين من شأنه أو يوفر لصاحبه دخلاً مريحاً، والحقيقة ليست كذلك. فالمؤثر ـ في تعريفه ـ هو وسيط بين شركة منتجة وزبون. إذا عدنا إلى قضية سجن المؤثرين الثلاثة، فالسبب يعود إلى ترويجهم لشركة توهم الطلبة بالدراسة في الخارج. وفروا لها دعاية، على حين غفلة، فصاروا محل الاتهام بالنصب. إذن فمدخولهم يتأتى من الترويج لعلامات تجارية، قد تكون سلع تجميل، ثيابا، وكالات سياحية أو ماركات تجارية أخرى. هذا العمل الذي يشغلون به أنفسهم في صورهم وفيديوهاتهم يجعلهم محل اهتمام أكبر من متابعيهم، الذين يتزايدون رغبة منهم في مسايرة ذلك المؤثر، بأن يصيروا يوماً ما مثله، تتاح لهم فرصة الترويج لعلامة تجارية، فيكسبون من عملهم المريح مالاً، ولاسيما أن أتيحت لهم مثله فرص نيل تأشيرات سفر إلى أوروبا. هذا هو العنصر الثاني والحاسم في علاقة التابع بالمؤثر، حيث إن الثاني يصر في دفاعه عن مؤثر وهو يفكر يوماً ما بأن ينوب عنه في مكانه، في سفرياته، فيجلس في بيته ويكسب مالاً من مجرد عرض منتوج على المتابعين، ويُسافر من دون أن يشقى في الحصول على فيزا إلى فضاء شنغن.
فالشركات التجارية لم تعد تثق في الميديا الكلاسيكية، أو ربما تفكر في الكسب السريع، ما يحملها إلى التعاقد مع مؤثرين، نظير سرعة علاقتهم وتأثيرهم على متصفحي النت، بدل اللجوء إلى التلفزيون مثلاً، كما كان معمولا به. بالتالي لا سلطة للمؤثر من دون جمهور، كما لا سلطة له من دون عقود مع علامات تجارية. وحيلته في استمالة الآخرين هي الإكثار من نشر صور سفرياته إلى الخارج، لذلك فإن هذا المؤثر يحاول أن يقف دائماً في منطقة أمان، لا يغامر بإبداء رأيه في القضايا الشائكة، لا يعبر عن موقف تجاه المسائل التي تفرق بين الناس، من أجل الحفاظ على موقع متزن بين متابعيه، فلا يفقد لايكات، من أجل كسب رضا شركات تجارية، فيكسب الحد الأقصى من عقود الإشهار ومن السفريات إلى الخارج.
روائي جزائري
هي التفاهة…وللتفاهة رجالها…