عندما كنت تلميذا ثم طالبا كنت مواظبا، مثل كثير من أبناء جيلي، على سماع الإذاعة الوطنية بقناتيها العربية والفرنسية. القناة العربية لأنها كانت تبث برامج أدبية وتاريخية من تقديم مثقفين أجلاء من أمثال الأستاذين منجي الشملي ومحمد العروسي المطوي، إضافة إلى البرامج المنوعة التي كانت تجمع بين الفقرات والحوارات الإعلامية الهادفة والفقرات الغنائية والموسيقية الراقية. وقد امتاز في هذا المجال المذيعون صالح جغام والبشير رجب، ثم نجيب الخطاب قبل أن يسطع نجمه في التلفزة أيضا فيصير من المشاهير لا في تونس فحسب، بل وفي بعض البلاد العربية. وأذكر أن أول مرة أسمع فيها أصوات محمود درويش، ومعين بسيسو، ومحمود صبح (شاعر العربية والإسبانية والأستاذ في جامعة مدريد المركزية) وتوفيق فياض، وصباح قباني (شقيق نزار ووالد المثقفة اللامعة رنا قباني) على سبيل المثال، إنما كانت في محاورات على الإذاعة الوطنية التونسية من تقديم فرج شوشان أو صالح جغام. أما القناة التي تبث بالفرنسية فقد كنا نتابعها لأنها تبث الأغاني الجميلة، المسماة «أغاني النصوص» لأنها مقتبسة في معظمها من قصائد ونصوص شعرية قوية. وقد تألق في هذا النوع مغنون من أمثال جاك بريل، وليو فري، وجان فرا، وشارل أزنافور، وجورج موستاكي. كما كانت تبث أغاني فرانسواز هاردي، وجيرار لنورمان، وآدامو، الخ. وما كان يوم يمر إلا وتبث الإذاعة أغنية أو أكثر لسيدة الطرب الفرنسي إديث بياف التي درج الكثيرون على تشبيهها بأم كلثوم لعظم مكانتها في قلوب الفرنسيين، ولو أن المقارنة ظالمة لكوكب الشرق، كما سبق أن لاحظ شيخ المستشرقين جاك بيرك.
المجتمع الذي تضمن الإرادة السياسية فيه أكبر قدر من شروط تكافؤ الفرص هو المجتمع الذي يضمن لأفراده أفضل الشروط المؤاتية لتحقيق السعادة الشخصية
وكان من أكثر ما يجذبني إلى الإذاعة الناطقة بالفرنسية أنها كانت تبث محاضرات مسجلة من جامعة السوربون في مختلف المجالات (تاريخ، بيولوجيا، لسانيات، الخ). وبما أني كنت أواظب على سماع المحاضرات الفلسفية، فقد علقت بذهني أصوات جيل ديلوز، وفليكس غواتاري، وجاك دريدا، وبول ريكور. أما سلسلة المحاضرات التي رسخت في ذاكرتي بأقصى الوضوح فهي تلك التي قدمها روبر مزراحي بعنوان «إشكاليات السعادة». لم أكن آنذاك أعرف مدى ارتباط سيرة مزراحي الفكرية بسارتر الذي أمده بالعون المعنوي والمالي، فبقي مزراحي ملازما له حتى وفاته. وقد تواصل اهتمامي بهذه المسألة حتى حصلت بعد أكثر من عشر سنين على كتاب مزراحي «رسالة في السعادة» وكتاب بول ديزالماند عن «طلب السعادة عند مونتاني وباسكال وفولتير وروسو». ولعل تصور السعادة الأقرب إلى مشاغل عصرنا هو تصور روسو لأن السعادة عنده سياسيّة أو لا تكون. بمعنى أن المجتمع الذي تضمن الإرادة السياسية فيه أكبر قدر من شروط تكافؤ الفرص هو المجتمع الذي يضمن لأفراده أفضل الشروط المؤاتية لتحقيق السعادة الشخصية. ورغم أنه لا يكاد يوجد ذكر لمفردة السعادة عند فيلسوف السياسة الأمريكي جون رولز في كتابه المرجعي الشهير «نظرية في العدالة» فإن نظريته هي بوجه من الوجوه بحث في الشروط السياسية لإحقاق العدالة الاجتماعية باعتبارها هي أيضا شرطا من شروط السعادة الشخصية والعائلية.
في هذا السياق بالضبط تتنزل مسألة الإضرابات العارمة التي تشهدها فرنسا هذه الأيام احتجاجا على مشروع القانون الرامي إلى تأخير سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة (علما أن جميع دول أوروبا الغربية الأخرى قد أقدمت، منذ زمن، على تأخير سن التقاعد إلى ما لا يقل عن 67 سنة). ذلك أن البشرية قد ظلت على مدى القرون تمحور جوهر حياتها حول أفق «السعادة المؤجلة». أتباع الديانات السماوية يأملون أن السعادة تأتي بعد الممات (ثوابا في الجنة) والماركسيون يأملون أن السعادة تأتي بعد الثورة (في مجتمع المساواة) والتلاميذ أن السعادة تأتي بعد المدرسة، أي في العطل الموسمية. أما العمال والموظفون فأملهم، الواقعي بدرجة ما، هو أن السعادة تأتي بعد التقاعد.
لكن الذي حصل، كما أوجز المؤرخ ميشال وينوك، هو أن مجرد طرح فكرة تأخير سن التقاعد قد أدى، في فرنسا، إلى زعزعة أسطورة «السعادة المستحقة» بجهد العمل. فما هو تفسير تباين المواقف بين الفرنسيين وبقية الأوروبيين من مسألة السعادة المستحقة أو المؤجلة؟ هل التفسير هو أن الفرنسيين كسالى، كما سألت النيويورك تايمز؟ سؤال إجابته مؤجلة أيضا، لأن المسألة أعقد سياسيا وثقافيا مما توحي به الأحداث.
كاتب تونسي