ربما لا تكون من قيمة على الإطلاق لزيارة وزير الخارجية الأمريكي الصهيوني أنتوني بلينكن الأخيرة للمنطقة، ولا لجولته المكوكية من «القاهرة» إلى لقائه مع بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو، ثم مع محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، وفي «هوجة» المؤتمرات الصحافية التي أعقبت كل اللقاءات، كان تناول الموضوع الفلسطيني محصورا في عناوين تهدئة التوتر وتخفيف التصعيد، بينما الكلام عن ما يسمى السلام و»حل الدولتين» مؤجل إلى المدى البعيد، والمعنى ظاهر خازق للعين، فلا حل سياسي مطروح للقضية الفلسطينية، ولا خطة ولا تحرك في اتجاهه، بل تطابق واندماج استراتيجى كامل بين واشنطن وتل أبيب، واستئناف لخطط دفع دول عربية مضافة إلى حظيرة التطبيع، فوق تنسيق العمل مع الدول «المطبعة» أصلا، وبهدف إطفاء نور ونار المقاومة الفلسطينية الشعبية والمسلحة.
قضية التحرير الفلسطيني، التي خذلها بل خانها الآخرون، تعود باطراد إلى أهلها، وتكسب لنفسها سكة الانتفاضة الثالثة الدائمة، وتبدع في أساليبها التلقائية الكفاحية
وقد تكررت سوابق الزيارات الأمريكية المريبة كثيرا، وبالذات منذ عام 2014، الذي توقفت عنده «مونولوجات» المفاوضات بين نتنياهو والسلطة الفلسطينية، بعد عشرين سنة سبقتها من اللف والدوران في حلقات «أوسلو» المفرغة من أي مضمون، وجرى التوقيع فيها على أوراق طارت مع الريح، ومن غير أن يستبقي منها كيان الاحتلال شيئا، اللهم إلا اتفاق حجز تحصيل الضرائب المستحقة للفلسطينيين، وتوريدها في يد «تل أبيب»، والأهم «اتفاق التنسيق الأمني»، والاتفاقان لم تلتزم بهما «إسرائيل»، وأقدمت في السنوات الأخيرة على اقتطاع ما تشاء من حصيلة الضرائب، وهي المورد الأساسي لموازنة السلطة الفلسطينية، وقد استخدمتها حكومات الاحتلال للضغط وعقاب سلطة رام الله، مرة لحرمانها من دفع مستحقات عائلات الأسرى والشهداء، ومرة أقرب بدعوى تعويض الأسر الإسرائيلية المصابة بأضرار في العمليات الفدائية الفلسطينية، وفي الحالتين، لم يكن للسلطة الفلسطينية سوى الاحتجاج، وهو ما جرى مثله وأفدح في اتفاقية «التنسيق الأمني»، فقوات الاحتلال تجتاح وتقتل من تريد في القدس ومدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، ومن دون أدنى التفات ولا إبلاغ للسلطة وأجهزة الأمن الفلسطينية، التي تلزمها حكومة العدو بمسؤولياتها المفترضة، وبالذات في تقديم المعلومات الأمنية، وملاحقة منظمات وخلايا الفدائيين الفلسطينيين، وهو جوهر المطلوب من السلطة لحفظ أمن إسرائيل، وقد امتعضت السلطة من إكراهات «إسرائيل» مرات، وصدرت تلويحات وقرارات موقوتة بوقف الالتزام الفلسطيني بالتنسيق الأمني، بعضها وقت إعلان خطة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب المعروفة إعلاميا باسم «صفقة القرن»، ثم في وقت اجتياح قوات العدو لمدينة نابلس، وقتل فدائيين من جماعة «عرين الأسود»، وأخيرا بعد «مجزرة جنين» الأخيرة، التي أعقبتها عملية الفدائي الشهيد «خيرى علقم» في مستوطنة النبي يعقوب على حواف القدس، ثم عملية الطفل محمد عليوات ـ 13 سنة ـ من حي سلوان المقدسي، وبعد ما جرى في مدينة و»مخيم جنين»، أعلنت سلطة رام الله قرارها الجديد بوقف «التنسيق الأمني»، وليس إلغائه من الأساس، على الرغم من أن قرارات هيئات حركة «فتح»، وهياكل منظمة التحرير كلها، دعت إلى شطب التنسيق الأمني، وإلغاء الالتزام من طرف واحد باتفاقات «أوسلو» وإكراهاتها، بل سحب الاعتراف بأي شرعية وجود لكيان الاحتلال بكامله، فوق إعلانات الرئيس عباس نفسه، وتهديداته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أكد فيها عزمه التوقف عن طرح تصور «حل الدولتين»، الذي نسفت «إسرائيل» أي إمكانية لقيامه، بتوسع الاستيطان والتهويد، وقد تضاعف مرات منذ عقد اتفاق «أوسلو» الأساسي قبل ثلاثين سنة، وهدد الرئيس الفلسطيني مرارا بالعودة إلى المطالبة بتنفيذ قرار التقسيم (181) الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، الذي كان يستبقى للفلسطينيين 44% من فلسطين التاريخية، بدلا من خطة إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، التي تعطى الفلسطينيين نظريا 22% لا غير من أرض فلسطين التاريخية، أو نفض اليد من أي مفاوضات، والتحول إلى حل «الدولة الواحدة» الديمقراطية، التي يحظى فيها الفلسطينيون بأغلبية سكانية متزايدة، تتجاوز باطراد مجموع المستوطنين اليهود المحتلين لفلسطين كلها، وهذا أكثر ما يفزع حملة راية المشروع الصهيوني، إذ تتحول فيه فلسطين كلها إلى حقل صراع واحد، تتعدد فيه صور المقاومة الشعبية والمسلح حسب الظروف المرئية، ويتوحد فيه الشعب الفلسطيني بلا حواجز، وبلا تمييز بين الأراضى المحتلة عام 1967 وسابقتها المحتلة في نكبة 1948، وعلى نحو ما دلت عليه حوادث السنوات الأخيرة، وصار اتجاها مطردا بعد «حرب سيف القدس» في مايو/أيار 2021 بالذات، ثم زادته حضورا وأثرا تحولات جرت في خرائط سياسة الكيان الإسرائيلي، وصعود نفوذ تيار الصهيونية الدينية، المفرطة في التوحش والقتل، وتبني خطط لطرد الفلسطينيين من فلسطين كلها، ربما شعورا بالرعب النفسي والعصبي من تكاثر الفلسطينيين المتسارع، والقفز إلى حل نهائي وحيد، هو إبادة الفلسطينيين التي لم تعد ممكنة، أو طردهم جماعيا على طريقة ما جرى في حرب 1948، التي صارت مستحيلة اليوم وغدا، خصوصا مع رسوخ وثبات الفلسطينيين فوق أرضهم المقدسة، وشعورهم المتصاعد، بأنه ليس لديهم شيء سيخسرونه، مع تحطم كل صيغ التسويات الجزئية، على نحو ما ورد في تدوينات نشرها الشهيد الفلسطيني خيرى علقم قبل رحيله، كتب الشهيد في أكتوبر/تشرين الأول 2021 «من قال إننا نريد سلاما، نريد حربا لا نهاية لها»، وكأن الشهيد الذي قتل بعد عمليته الفدائية، ولم يكن منتسبا لأى تنظيم فلسطيني، ولا واردا اسمه في السجلات الأمنية لكيان الاحتلال، كأن الشهيد كان يلخص الشعور السائد بين جيل اللحظة الفلسطيني، وكأن ابن حي «الطور» المقدسي، كان يستعيد عظة جده خيري الذي لم يره، وقد قتل طعنا بيد مستوطن إسرائيلي في 13 مايو 1998، كأن خيري الشاب (21 سنة)، كان يثأر لدم جده القتيل، ولكل شهيد وشهيدة في فلسطين، وهكذا هي حال كل خيري آخر في فلسطين اليوم، أيا ما كان الاسم الذي يحمله، وهو ما يفسر تزايد عمليات الفداء الفردية، وتكوين خلايا وكتائب فداء تلقائية، وعلى غير ارتباط مسبق بأي سلطة أو تنظيم فداء فلسطيني، ويدفع حتى هذه التنظيمات في طريق التسابق لإثبات الحضور، والتمرد على الأطر الجامدة المتيبسة، والخروج عن نص الارتباطات الإقليمية المقيدة الملوثة لنقاء الوجدان الفلسطيني، الذي بات يدرك يقينا، أن قضية التحرير الفلسطيني، التي خذلها بل خانها الآخرون، تعود باطراد إلى أهلها، وتكسب لنفسها سكة الانتفاضة الثالثة الدائمة، وتبدع في أساليبها التلقائية الكفاحية منذ عام 2015، من الطعن بالسكاكين، إلى دهس جنود الاحتلال وقطعان المستوطنين، وإلى إطلاق الرصاص عند حواجز القهر، فالجيل الفلسطيني الجديد، الذين أرادوا له التدجين والذوبان والنسيان، تحول إلى جيل عفي مقاتل، بما ملكت اليد من سلاح، وبطلاقة روح لا تقبل أخماسا ولا أرباعا ولا أنصاف الحلول، وهذا هو الرد الطبيعي على همجية أجيال الصهيونية الدينية الجديدة، واقتحاماتهم التي لا تنتهي للمسجد الأقصى المبارك، وخططهم لهدمه وبناء هيكل الأوهام على أنقاضه، وتهويد القدس قبلة الإيمان وعاصمة فلسطين الأبدية، وما من رد يصح على هذه الوحشية المتعجرفة المسلحة حتى الأسنان، سوى المقاومة بكل السبل والوسائل، فالفداء الفلسطيني هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وكلما زاد القهر تضاعفت ظواهر وصور المقاومة، وهذا هو الخطر الذي تواجهه «الصهيونية الأمريكية» المتحالفة عضويا مع جرائم «الصهيونية الدينية» اليوم، وما زيارة بلينكن ومن سبقه ومن يلحقه، سوى مساع لحفظ أمن «إسرائيل»، الذي لن يتحقق لها أبدا، حتى لو ساندتها كل الحكومات العربية، وحتى بعض الفلسطينية، فالخطر عليهم جميعا، يأتي من عنوان آخر، والألفاظ التي يرددونها لها معنى وحيد، فالتهدئة التي يرفعونها شعارا، ليس لها من معنى سوى دفع السلطة الفلسطينية لإعادة التنسيق الأمني، وسوى غل يد الفلسطينيين الفدائيين، وسوى إطلاق يد العدو، وافتعال «القداسة» و»التنزيه» لجرائم جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين، ووعود السلام «على المدى البعيد» حسب بلينكن، تعنى ببساطة، أنه ما من فرص لنيل سلام بغير قتال إلى حدود النهايات، وحتى عودة النجوم والأوطان إلى مداراتها الأصلية.
والمعنى الباقي من قبل ومن بعد، أن زيارات الأوهام الأمريكية التي تروح وتجيء، قد تكون أحداثا مهمة عند عبيد واشنطن وخدم «إسرائيل»، لكنها لا تعني شيئا عند الشعب الفلسطيني وعند مقاوميه، ولكل شعب خونته ومقاوموه، والنصر دائما للمقاومين، حتى لو تأخرت المواعيد، وراجت أوهام التسوية المستحيلة، ولغات التهدئة الخشبية المسمومة.
كاتب مصري
ربما يتمنى بعض المصريين الموت قبل انزياح السيسي عن السلطة لان الموت عنده اهون من ان يواجها بما كتبه او لم يكتبه عن عصر السيسي
الذي توقفت عنده «مونولوغات» المفاوضات بين نتنياهو والسلطة الفلسطينية – والأنسب:
الذي توقفت عنده «ديالوغات» المفاوضات بين نتنياهو والسلطة الفلسطينية
(لأن الـ«مونولوغ» هو “حوار” طرف واحد فقط، بينما الـ«ديالوغ» هو حوار بين طرفين أو أكثر!)
التهدئة يطلبونها ويعملون من أجلها لصالح العدو وأفراده، ولكن السلطات العربية لا تسعى أبدا إلى التهدئة مع شعوبها المستباحة.
شكرًا أخي عبد الحليم قنديل. بكل بساطة هل يمكن مقاومة الإحتلال إلا بالمقاومة. لكني لفتني تعبير “التي خزلها بل خانها الأخرون” اهـ. أعتقد سنكون أكثر إنصافًا لمقاومة الشعب الفلسطيني للإحتلال الصهيوني الفاشي، إذا وضعنا النقاط على الحروف!
تحية ودعم من الشعب المصري والشعوب العربية بكل دياناتها وشعوبالأرض التي تقف الى جانب الحق والحرية والمساواة وحقوق الإنسان ، وعار على إزدواجية المعايير التي تمارسها أمريكا والغرب الفجة ( الأكراني بطل والفلسطيني إرهابي ) .تحية للمقاومة الفلسطينية الحقيقية وللمقاومين الأبطال وأمهاتهم كل الإجلال والتقدير والدعم
الحرية لكل سجناء الرأي المحبين والمخلصين لمصر من شبابها وشيبتها، وعقولها المخلصة المبدعة من محمد أكسجين الى د.محمد أبو الفتوح