عن أيام ما قبل اختراع اللغة الإنكليزية: لولا الأستاذ عبد القادر لكنا سقطنا جميعا

حجم الخط
0

الأستاذ عبد القادر لم يكن يعلَّم، هو فقط المدير، لكن كان يخطر له أن يدخل إلى صفّ من الصفوف ليرعب التلاميذ أحيانا، وأحيانا أخرى ليمتحن معرفتهم باللغة الفرنسية. «قوم إنت طلاع عاللوح» يقول للتلميذ الذي اختاره عشوائيا. « أكتب فيس، يعني ابن بالعربي»، فيكتب التلميذ الكلمة الفرنسية مثلما سمعها: FIS. وهذا خطأ. يعرف الولد الممتحَن ذلك من النظرة المؤنّبة التي تلقّاها من المدير، ومن توجّه هذا الأخير نحو التلاميذ ليسألهم من منهم يعرف. لكن يبدو أن لا أحد، إذ يظلون ساكتين جميعا ومنكمشين في مقاعدهم بلا حركة. ثم يختار واحدا منهم، عشوائيا أيضا، ليسأله: إنت بتعرف؟ فيقف التلميذ متخذا هيئة من يفكّر. لكن يبدو عليه مسبقا أنه لن يصل إلى أن يعرف. لا أحد يعرف «لأنو أستاذ الفرنسي بعد ما علّمنا ياها». وهنا يستدير المدير إلى اللوح. يأخذ الطبشورة من يد تلميذه، أو ضحيّته، ويكتب الكلمة: FILS.
هذه الـ L لا تٌلفظ، يقول الأستاذ عبد القادر قبل أن يعيد الطبشورة إلى التلميذ ويخرج من الصفّ. هذا درسه. كلمة واحدة تعلّمها التلاميذ وحفظوها. مع كلمة أخرى أو كلمتين أخريين كانوا سيضيعون. وهذا بالنظر إلى أنهم، جميعا، يعانون مع هذه المادة. في صفوف الشهادات، من السرتيفيكا حتى شهادة الفلسفة، التي لن يصل إليها إلا قليلون، كانوا يخافون مما كان يسمّى «العلامة اللاغية»، وهي تلك التي تُسقط التلميذ حتى لو حصل على مجموع العلامات من المواد الأخرى. وفي البكالوريا كانت نسبة النجاح لا تتعدّى الأربعة في المئة من المتقدّمين. هذا بسبب الكسل، كما كان يقول الأهل، أو بسبب الفرنساوي كما كان يقول الأولاد».
أما أنا فنجوت بعد نجاحي في أول شهادة (السرتيفيكا) لأن أبي قرّر، هكذا فجأة، أن المستقبل هو للإنكليزي وأن الفرنساوي انقضت أيامه. ولم أكن في ذلك وحدي، فآباء كثيرون كانوا قد أدركوا أشياء عن كيف سيكون المستقبل، فنقلوا أولادهم. ولم تتأخّر المدارس الخاصة عن تلبية ذلك، فأنشأت صفوفا لهؤلاء المنتقلين اسمها «سبيشال». أنا كنت، في حصص الإنكليزي للتلاميذ الذين هم في الأصل إنكليزي، أذهب إلى السبيشال لأدرس إنكليزيتي. وكان هذا هيّنا إذ كانت أسماء الأشياء: Door, Window, School، إلخ سهلة الحفظ، ومثلها الأفعال Eat, Run, Study ومثل ذلك أسماء الإشارة وهلمّجرا.
أقصد أن الدخول إلى الإنكليزي كان سهلا والتقدّم فيه يجري بلا عوائق. في أربعة أشهر أو خمسة صرت بالإنكليزي أقوى مني بالفرنساوي، وقد أدرك تلك السهولة أولئك الذين ظلّوا يسقطون حتى قرّروا في الأخير ترك المدرسة. صار هؤلاء ينتسبون إلى المعاهد التي انتشرت بما لا يقلّ عن انتشار المحلّات المختصة ببيع القرطاسية. في 1976 قرّرت وزارة التربية، منتبهة إلى ما يجري، أن تخصّص مدرسة ثانوية (واحدة) تعلّم بالإنكليزي، وذلك في سنة 1976.
كنت بلا حرج أجيب بالإنكيزي حين يسألني أحد سؤالا بالإنكليزي. في السابق، مع الفرنساوي، كان التلعثم سيّد الموقف. لا في ما يعنيني أنا وحدي، بل في ما يعني أنطون أيضا، ذاك الذي كان أشطر زملاء صفّه في اختصاص الفرنسي في الجامعة. تلعثم، بل سكت نهائيا، حين بدأ يسأله المسؤول في إدارة «الأغراض المفقودة» في باريس، يوم نسي محفظته مع السائق. وأنا رحت أقول له، بالعربي، «إحكِ يا أنطون، عميسألك»، وأنطون لا يجيب، وهذا ما جعلني أنا، المتوقف عن الفرنسي من أيام السرتيفيكا، أشرح للرجل متى وأين أنزلَنا السائق ورحل. أعرف الآن لماذا كنت أشجع من أنطون: لأنني لم أشعر بأنني أمام امتحان، أي لست مسؤولا عن قلّة معرفتي بالفرنساوي، فأنا صرت إنكليزي. أما أنطون فمسؤول ولم يستطع تحمّل المسؤولية، بل إنني أجد نفسي أحيانا متنطّحا للتكلّم بالفرنسي، رغم علمي القليل بها، أي أنني، وإن تكلّمت بها، فقد سبق لي أن ارتحت منها.. أعني من رهبتها، تلك التي ما زلت أشغل رأسي بالتفكير، لماذا كنّا نخاف منها هذا الخوف. لماذا لا تكون الفرنسي مثل المواد الأخرى، التاريخ مثلا، أو الجغرافيا، أو الحساب، تلك التي نُقبل على درسها بشكل عادي، أو طبيعي، حيث ندرس فنحفظ. أما هي، أقصد اللغة الفرنسية، فكأن بيننا وبينها مسافة يصعب اجتيازها. مسافة صعبة وغامضة حتى لتبدو مستحيلة. في أحيان كان يخطر لي أن تعلّم العربية أسهل على الفرنسيين، فهم بذلك ينزلون إليها نزولا، أما نحن فعلينا أن نصعد إلى لغتهم صعودا. كما أنهم لا يخافون من لغتنا، ألا ترى أنهم، حين يحفظون من العربية جملة أو جملتين، يظلون يردّدونهما وهم يبتسمون، بل يضحكون. كان عليّ أن أصل إلى تفسير لهذا العجز التعلّمي الذي تأصّل حتى بدا غريزيّا فينا. وقد أمعنتُ في ذلك إلى حدّ أنني كدت أصل إلى وضع نظرية حول علاقتنا بالاستعمار ولغته، ذاك الذي لم يعد التفكير فيه يشغلني منذ زمن. لكن صديقا رأى حيرتي فأسرع إلى رفدي بتفسير من عنده «المسألة طبقية أيضا، وإلا كيف لا يخاف تلاميذ الليسيه والمدارس الخاصة مثلما نخاف»، قال مضيفا فرعا آخر على انشغالي وتشوّشي.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية