هل يمكن لذاتِ إنسانٍ أن تعيش ملايين قصص سحق ذات الإنسان واقعاً غير افتراضيٍّ، بمختلف أشكال الانتهاك والتعذيب والتهجير والقتل، ولا تنفجر، وهل يمكن لهذه الذات أن تقي نفسها حتميّة الانفجار من دون أن تصنع واقعاً افتراضياً يزيحها إلى مصحات الغياب النفسي، أو إلى الرواية التي تلتقط شظايا ما يحدث للذات كما حبّاتِ عقدٍ انفرطت بعنفِ يدٍ لا تعرف الرحمة عن عنقٍ سوف يُغتصب بعد قليلٍ، وتناثرت ذرّاتٍ في الكون، لتعيد لظمها بتأنٍّ لا يغيب عنه ألم لحظة الفرط؟ وهل يمكن للذات المراقِبة أن تتخيّل أن هذا يحدث فعلاً أمامها في مكانٍ تاريخي معروف على الكرة الأرضية أنه اخترع أبجدية المعرفة والمساواة للإنسان، ولا تَخرسُ من هول ما يحدث، وتهرب هي الأخرى عن الواقع المرعب إلى واقع افتراضي يقيها عنف الانفراط، أو إلى الرواية؟ وهل يمكن لقارئ الرواية إلا أن يضع يده على قلبه ولا شرط أن تنزل دمعته أو لا تنزل، ويزفر القول بــ: آخ؛ يا سوريا. ماذا يفعل بك العالم، وماذا تفعلين بهذا العالم:
«انهالوا بالضرب على رأسه وعلى خاصرته. كان مثل لعبة من عيدان وخيطان واقعة بين أقدامهم. كنت أفكر كيف أنقذه من هذا الخبط، حين التفتَ المحقق إليّ، واقترب مني بابتسامة فاجرة، صرت أرتجف، ومفاصل ركبتيّ تتقصفّان، كان جسدي لا يحملني، وفوق هذا غاضبة من تعذيب زوجي. شدّ كنزتي وخلعها ثم مزّق بنطالي، ووقعت على الأرض عارية، أمسك بي اثنان والمحقق فوقي. لا أتذكر في غيبوبتي إلا صوت زوجي يعوي، وهم يرفعون وجهه كي يشاهد الاغتصاب. وسمعتُ صوت عنقه وعويلي، مات وظلت عينه مفتوحة تشاهدني وتشاهد العار».
رواية «الوشم»، للسورية منهل السرّاج ليست الوحيدة من بين عشرات الروايات التي حاولت لملمة آلاف القصص إلى جانب ملايين الشهادات الظاهرة والمكتومة حول ما حدث ولا يزال يحدث في مسلخ الأسد، أمام سمع وبصر العالم الذي تغريه الفرجة، كما يبدو، لكنّها تتميّز بكشفها الغطاء الذي تُحكم وضعَه البنات والنساء المغتصبات على أرواحهن وأجسادهنّ خِزياً، إن لم تُحكم وضعه عوائلهنّ باستحكامات يمكن أن تصل إلى قتلهنّ: «زحفت ألملم ثيابي وأرتديها أستر بعضاً مني… بضع خطوات وصرت في المنفردة حرة ألطم وجهي فوق لهيبه، وأحاكِم نفسي عاريةً أُغتَصب أمام زوجي، أبِ أولادي.. هل حدث هذا؟ لمْ أطق مواجهة نفسي والهول، قررت أن أتوهّم أنه لم يحدث شيء، لم ألتق أحمد، ولم يحدث شيء. تكوّرتُ على جسدي، وحاولت أن أنام بعد أن أنكرت كل ما حدث».
وليس هذا فقط ما يفعله وشم السراج، الذي يجعل كشف حكايات انتهاك النساء السوريات داخل سجون النظام السوري (إلى جانب كشف مخازي المعتقدات والعادات الاجتماعية الظالمة للنساء)، ترتقي إلى فن الرواية الرفيع المميَّز بمتعة القراءة والتشويق رغم توقُّع الأحداث التي يُكررها الواقع في مآسي السوريين بمختلف الاحتمالات. وبالعمق من خلال العرض البسيط لمأساة الإنسان، وبالتعامل الناجح مع الزمن من خلال ثلاثة فواصل في عمر الساردة، رغم سير الزمن بخط واحد في حياة بطلة الرواية، إضافة إلى سحر الرواية الأهم: شبْك الثيمة التي يمثّلها عنوان «الوشم»، كتأكيد عن وجود الذات أمام محاولات محقها، بمحاور الرواية وأهدافها الرئيسية، وسير هذه الثيمة متداخلةً بنجاحٍ في نسج الرواية إلى نهايتها المفتوحة على احتمالات يتوقّع القارئ أن تنتهي إلى ما يرضيه، بسبب وصول شخصية المرأة المنتهكة إلى وعي ذاتها كذات حرة فاعلة في العالم، وشبك هذا الوعي بتجارب السوريين في مسيرة وعي ذاتهم الجمعية التي تدفقت بعفوية غير مدرَكة في نهر مظاهرات الحرية والكرامة.
من جهة الموضوع، تقود السرّاج حياة بطلتها، بتقديم الرواية كـ»أحداث حقيقية تقارب حياة لولا الأغا، التي كان لها تجربة مريرة في سجون النظام السوري». ونعرف عن هذه الحياة، بارتداء الروائية قناع البطلة وسرد تطوّر ذاتها على لسانها، أنها فتاة ولدت في مجتمع حلب المتوسط الأقرب إلى الفقر، التقليدي الذي تجذّرت فيه قيم الذكورية إلى درجة خطيرة على أبنائه ويصعب الخلاص منها إلا بالثورة التي تنفجر خارج الرغبات عندما يصل تراكم المظالم إلى أوجه. وهذا ما حدث مع لولا الأغا التي خرجت تهتف للحرية والكرامة في مظاهرات الثورة السورية السلمية، بعد أن عانت طفلةً من ضرب المعلّمة، السائد في المدارس، ومن تحجيم الشخصية داخل العائلة رغم مسارب قيم الرجولة النبيلة التي لا يُستهان بفعلها غير المرئي في مقاومة التحجيم، ومن التزويج طفلةً في الخامسة عشرة، لزوج يكبرها بتسعة أعوام، ويمارس عليها اضطهاد مفاهيم الحماة السيدة والكنة العبدة إلى درجة ضربها إن خالفت، ويقع في شرّ أخيه الكبير الذي يزج بها في معتقلات مخابرات النظام حين ترفض منح ابنتها له كمتبناة تعوّض عقمه عن الإنجاب، ويزجّ بزوجها معها عندما يقف إلى جانبها، في مأساة السجن والاغتصاب والموت.
في هذه السردية التي تشمل غالبية عوائل حلب المتوسطة، تكسو السرّاج عظامَ حكاية بطلتها بلحم الرواية لتُخرج جسداً حياً تتطور فيه شخصية لولا الأغا، التي يكمن داخلها ما زرعه والدها فيها من أنها «الأغا الصغير» المتمرّد إلى جانب كونها لولا المطيعة التي سميت بلولا: «الملامة يا هوى» في أغنية وردة التي تحبها أمُّها. وفي هذه السردية الواقعية التي تتحول في سجون النظام السوري إلى السردية التي تفوق الخيال في سحق الإنسان، تتطوّر شخصية لولا، بعد جرعة حرية التظاهر، بسُقيا فولاذ العذاب، من شخصيةٍ منتهَكة مطعونة في كل جوانبها، من سجّانيها ومما يخلقون من وحوش كانوا بشراً معها. بتفاعلٍ حساس وحقيقي مع مثيلاتها من نساء يعانين ذات المصير. بكفاحٍ مرير عليها، ومُرّ على القارئ الذي يتعاطف ويشتم ويتمنّى مع بطلة الرواية المغتصبة تمزيق السجانين في الحياة خارج الرواية.
تتطور شخصية لولا، إلى امرأة تداوي جراحها في افتقاد أبنائها، وسرقة عائلة أبيهم لهم منها؛ إلى امرأةٍ تعي ذاتها وواجبها تجاه المعتقلات اللواتي شهدتْ سحقهن وتضامنهنّ مع بعضهن ومعها؛ إلى امرأة تتحول شاهدةً على جرائم نظام بشار الأسد ضد الإنسانية؛ إلى امرأة تخرج من شرنقة اغتصابها إلى أجنحة الحب، في بيئات غير آمنة على المرأة تحت سلطة جبهة النصرة التي تمحو النساء بالسواد، وتحت ذلّ ومقاومة تحرّش الرجال في العمل بتركيا؛ وتتطور في الرواية إلى مثال عن مقاومة النساء السوريات، وصنعهنّ للحياة تحت نار الاغتصاب والتهديد والقتل. وتضيف بطلة السراج إلى ذلك كفاحات الرجال السوريين من أجل الحرية وسلوكهم النبيل، كما حدث مع زوجها الذي مات معتذراً منها أمامها، وابنها الذي وقف معطياً دوره للنساء في سباق صراع البقاء الذي ينسي الإنسان إنسانيته ويُظهر الوحش فيه، حيث: «لم نهتمّ أن نتلقى إشارة التحرك من المهرِّب، كنا قد تراكضنا جميعاً فوجاً واحداً، كأننا شاهدنا أبواب الجنة تُفتَح أمامنا، وأنا ورغم الإنهاك الشديد وجروح اليدين، ركضتُ حتى سبقتُ أولادي، وصرتُ مثل بطة تُسرع أمام صغارها لتستحثهم على العبور. قفزتُ الأولى في صندوق السيارة الفان، وسحبت سعداً ونورا ولم أجد محمداً، بحثت عنه بين الهاجمين لأجده يقف للناس بحبٍّ واحترام، ليصعدوا قبله. أيّ أدب في هذا الظرف؟ دعستُ على الناس المتجمّعة فوق بعضها وسحبته من قبة قميصه وأصعدته وهو يتذمر مني خجِلاً من ملامسة النسوة».
من جهة الشكل، تضع السرّاج وشمَها في بنية بسيطة تتدفق من دون فصول، وتكتفي بفواصل لا تزيد عن خمسة عشر، بنجمات. فيما عدا عنوان واحد يؤرخ صباح 20 ــ 10 ــ 2013 فرع المخابرات الجوّية. وتلتزم السرّاج بصيغةٍ واحدة للسّرد تقوم بها بطلة الرواية عن حياتها وتجربة سجنها. مع مفصلة تشويقية بسيطة لزمن السرد نعرف منها أخيراً أنها تسرد من مكان لجوئها في فرنسا، بعد مآسي السجن والهروب واللجوء. كما تلتزم اللغة الفصحى التي تكسرها بقليل من العامية في الحوارات وتورد فيها شتائم السجانين القذرة البذيئة للنساء كما هي.
من جهة الشكل والموضوع معاً تحاول السرّاج كسر واقعية الرواية إلى القليل من السحريّة، بالأحلام التي تتحقق، وبإيراد شخصيةِ سجينة عرّافة تخشاها السجينات، ويقدّرها عقيد سجن عدرا، لجلاء ما ترى، ولتحقق نبوءاتها. وفي كل نسيج الرواية الذي تسوده مشاهد قاسية مرعبة من العدو، وصور مخزيةٌ محبطةٌ للنفس عن الأهل والأصدقاء، والوطن الذي تحول إلى ساحة نهش، يتولّد، على عكس الخوف من مواجهة مصير الخذلان والسجن والاغتصاب والقتل، لدى القارئ غضب تؤجّجه وساخة ودناءة الجرائم، على الديكتاتورية، على التطرف الديني، وعلى مفاسد الإنسان، مع التحدّي لمواجهتها بوعي الذات.
يُشار إلى أن منهل السراج كاتبة وروائية سورية من مواليد حماة، حاصلة على إجازة في الهندسة تعيش في السويد منذ عام 2006. أصدرت قبل «الوشم» مجموعتها القصصية «تخطّي الجسر» 1997، وخمس روايات على التوالي: «كما ينبغي لنهر» 2003، «جورة حوا» 2005، «على صدري» 2007، «عصيّ الدم» 2012، و«صراخ» 2018.
منهل السراج: «الوشم»
دار موزاييك للدراسات والنشر،
اسطنبول، 2022
246 صفحة.