لم تُنكب ظاهر بلاغية بيانيّة في عصرنا مثلما نكبت الكناية. الكناية أسلوب بلاغي يعرّفه عبد القاهر الجرجاني بقوله: إن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، لكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه فيجعله دليلا عليه» (دلائل الإعجاز). ومن الأمثلة التي يذكرها البلاغيون (كثير الرماد) يراد به كثير القِرى لأنّ الإضافة والإكرام تتطلب إشعال النار للطهي. وهذه كناية عربية بدوية قديمة، لا تستعمل اليوم إلاّ على وجه الإغراب بالتشبث بالمعاني القديمة وبصورها. ومن الكنايات العربية القديمة (فلان جبان الكلب) كناية عن صفة صاحب الكلب وهي الجود والكرم.
تبدأ الرحلة في شرح الكناية بالربط بين المعنى المصدر وهو (جبان الكلب) والمعنى الهدف، أو المصب وهو (الكريم) هنا عليك أن تحفر في حياة العرب ستجد كلبا جبانا لا ينبح حين يرى الزائرين الغرباء. الجبن في الكلب يعني ألاّ يكون كما في المثل العربي (شرَ أَهَرَّ ذا ناب) في هذا المثل أيضا كناية عن الكلب بأنّه ذو ناب. الكناية تحاصرك من كلّ جانب في الأمثال وفي الأشعار وفي الكلام القديم. كأنما يترك اللفظ الصريح ويبحث عن رحلة متعبة وممتعة ذهنا بين الكلام الصريح ومعناه الخفي.
لا يجبن الكلب إلاّ إذا كان المقبلون على الدار أصحابه، أو كأصحابه فتكون بينهم وبين الكلب ألفة فيجبن عن أن ينبح، وهذه خصلة كلبيّة أنّه يراعي العشرة ويخجل من أن يزعج أهل الدار وصحبهم ومعارفهم، جبن الكلب إذن من كثرة الرائحين والغادين على البيت فهو بيت استجارة وإطعام وإيثار، هو بيت يطلبه الناس حين يعزّ الطلب، جبان الكلب هو الكريم الذي لا يحول الكلب بين طالبيه وكرمه.
اليوم ما زلنا نصف بالكرم أصحابنا الكرام، غير أنّنا لا نستعمل في هذه الصفة كنايات قديمة وقلما نستعمل الكنايات الجديدة. ارتبطت الكنايات بالإطعام وما تعلق بها واليوم يرتبط الكرم بإطلاق اليد بالمال النقد، ولذلك ارتبطت بعض الكنايات باليد أو بالجيب فيقال مثلا (ما في جيبه ليس له) أو (يده طلقة) الكناية الأولى قصيرة الطريق بين المعنى المراد والمعنى الحرفي فهي كناية لا تمشي طويلا ولا تجهد صاحبها في البحث عن معنى الكرم، بل إن معناها الكنائي يكاد يرتبط بمعناها الحرفي. قصر المسافة من قلة الجهد الإدراكي ومن الكسل في إخفاء المعنى والعثور عليه. فمن المعلوم أن ما في الجيب هو المال في ثقافة المال العيني الذي بات قليلا في العالم.. أن تنفق ما في جيبك على غيرك ضرب من المبالغة المرادة والمحبذة، والتي تنتج طرازا من الكرماء لا يبقي شيئا من المال لنفسه. هذه صورة توحي بالتبذير لأنّ التبذير أن تنفق بلا عقل وبلا حدّ على نفسك وفي الأثناء على غيرك؛ لكن أن تهب مالك لغيرك كرما هو شيء لا يقبله منطق الحضارة الحديثة. أمّا كناية اليد المطلقة فهي بدورها قصيرة الطريق تحيل على نقيضها اليد المغلولة وهذه كناية قديمة على ربط العطاء باليد الممدودة في اتجاه من يطلب المال. هذه الكناية تحيلنا على الآية القرآنية «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا» (الإسراء، 29). في تفسير الطبري ما يدل على أن هذا الكلام لا يعني الكرم مباشرة، بل نفقة المال على ما تنبغي عليه النفقة يقول: «وهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى للممتنع من الإنفاق في الحقوق التي أوجبها في أموال ذوي الأموال، فجعله كالمشدودة يده إلى عنقه، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء. وإنّما معنى الكلام: ولا تمسك يا محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله، فلا تنفق فيها شيئا إمساك المغلولة يده إلى عنقه، الذي لا يستطيع بسطها «وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ» يقول: ولا تبسطها بالعطية كلّ البسط، فتَبقى لا شيء عندك، ولا تجد إذا سئلت شيئا تعطيه سائلك ( فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورا) يقول: فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك، وتلومك نفسك على الإسراع في مالك وذهابه، محسورا: يقول: مَعِيبا، قد انقُطِع بك».
شيء من معنى الكرم وكنايته اليدوية دخل بيت الطاعة الديني لأنّه صار واجبا، لكن أيضا يمارس باعتدال فلا تقتير ولا تبذير. في هذا السياق لا معنى لأن يكون الكلب جبانا ولا تكون اليد طليقة كل الانطلاق.
شيء من معنى الكرم وكنايته اليدوية دخل بيت الطاعة الديني لأنّه صار واجبا، لكن أيضا يمارس باعتدال فلا تقتير ولا تبذير. في هذا السياق لا معنى لأن يكون الكلب جبانا ولا تكون اليد طليقة كل الانطلاق. الكرم بات حقّا داخلا في باب إيجاب الحقوق الدينية وداخلا في سياق تقديم العون للفقراء والمساكين، وهذا تؤدّيه مؤسّسات الخلافة أو الدولة ويسهر عليه أهل الحسبة، ويمكن أن يكون في جنح الظلام فلا تسمع به أقرب عضو لليد التي أعطت، إذ الواجب ألا تخبر اليد اليمنى اليد اليسرى بما قدمت. وما الحاجة عندئذ لكلب ينبح ثم يجبن؟
حين يكون الكرم جبرا لا اختيارا يذوب معنى الكرم والكريم في وعاء المؤسّسة، ويصبح الشخص موضوع الكرم طالبَ حقّ هو حق الله لكنّ الامتناع عن تأدية حقوق الله عقابه في العالم الآخر لا في الدنيا، وهو عقاب يستوي فيه من لم يمنح وأمسك يده مع من منح وأطلق لسانه يتباهى بما منح على عادة الحياة الجاهلية. القيمة الجاهلية قيمة محورها الفرد مفيدا ومستفيدا لكن أيضا هي قيمة لها بوق وإعلام وإشهار مأجور أو دون مقابل إذ يريد المرء حين يمنح شيئا أن يُعترف له بجميله بإشاعة خبر فضله بين الناس فبعض الناس لا يكفيهم الشكر، أو الصمت عن الشكر خوفا من الله ورهبة. حين يحكي الناس عن خصال الكريم أن يصبح رمزا لتلك القيمة. لكنّ ذلك توارى في الثقافة الإسلامية خلف «فعل الخير لله» في هذه الثقافة ينسب كل شيء إلى المقدّس ويتراجع البشريّ.
ماتت كنايات الكرم القديمة لا لغياب البلاغة أو لتعطّل دور الرمز، بل لأنّ الخلفيات الثقافية تغيرت ففي مجال آخر غير الكرم كان يقال عن الجميلة إنّها بعيدة مهوى القرط، واليوم ما زالت النسوة تلبس القراط غير أنّنا بتنا أقلّ انتباها إلى هذه المسافة التي يتدلى منها القرط والتي تفصل الأذن عن الكتف. ولماذا ننتبه إليه ونحن تشدنا ألبسة غير القرط، لكننا لا نصف ولا نتكلم بالكنايات ولمَ ترانا نتكلم بالكنايات والمعنى الحرّ يجري مباحا. الحديث عن المرأة أنها بعيدة مهوى القرط يعني بناء المعنى الكنائي البعيد بالمسافة نفسها التي يبتعد بها القرط وهو يتأرجح على مدى جيد كأنه المرمر. يسافر المعنى بالقدر الذي يسافر به القرط، لكن القرط يذهب إلى الأذن والكناية تنطلق من الفم وتعمل في ذهن متلقيها عملها حتى يجد سرّها الدفين. لا أعتقد أن الرجل كان يقول لامرأته أنت بعيدة مهوى القرط، فالكناية هذه جعلت لتحكي لنا عنها لا لتحدثها عن نفسها. والأمر نفسه يقال عن المرأة المخدومة بأنّها مكسال الضحى، تنام ضحى لأنّها مخدومة وليست خادمة. تنام النسوة اليوم إلى طلوع الشمس، وليس في هذا ما يدلّ لا على الشرف ولا على غيره من المعاني العليّة؛ تنام النسوة إلى طلوع الشمس فرارا من زمن لا عمل فيه ولا رفيق فيه غير النوم.
تموت الكنايات صرعى أكثر من غيرها من المظاهر البلاغية، غير أنّها تترك في الذاكرة شيئا هو كالنجوم التي تراها في السماء، والحق أنّها اندثرت من عقود أو من قرون.. أنت تراها مزهرة وهي تبدأ سفرها إلى عينيك ثمّ حين يسافر نورها تموت.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية
مقال جميل حقًّا…شكرًا دكتور قريرة.يبدو أنّ الأمثال طفقت تنافس الكنايات.ففي المثل دلالة من الكناية والتورية معًا.لأنّ الكناية من علم البيان؛ وهو أحد علوم البلاغة الثلاثة: علم البديع/ علم البيان/ علم المعاني.ومضمون المثل فيه تمثيل واستعارة وتشبيه…وكلّها من علم البيان كالكناية.ولأنّ المثل فيه المعنى المكثّف؛ كذلك يقال للكناية: معنى المعنى؛ سواء أكانت كناية عن صفة أو عن موصوف أو عن نسبة الصفة إلى الموصوف.للبلاغة عندي مكانة من السّمو قرينة لمجمل اللغة.بل أرى أنّ البلاغة بعلومها الثلاثة؛ هي مفتاح تجديد النصوص العربيّة؛ خاصّة تفسير القرآن.ومهما
كما يبدو انحسار البلاغة في الواقع العربيّ؛ فهي أساس العربيّة كلغة وهويّة وشخصيّة؛ فهي خالدة حتى مطلع الفجر.
ومن جانب آخر، نحن الآن في عصر AI، Open AI، ChatGPT
ماذا يعني ذلك؟!
يعني تحويل الآلة/الروبوت التي في يدك، إلى مصدر (الحكمة)، لك في كل شيء،
حتى تكون الأكثر (خبرة)، من غيرك، دون أن تفهم، أو تعي، أي شيء، في أي موضوع، سبحان الله، أليس كذلك، أم لا؟!
هل هذا منطقي أو موضوعي أو له علاقة بالعلم والتّعلّم والتكوين المهني، كما نشأنا عليه في أي دولة، حول العالم، أم لا؟!??
??????