باريس- “القدس العربي”:
قالت صحيفة “لوموند” الفرنسية، إن الحلفاء الغربيين يواجهون اختبارا آخر للمصداقية الأمنية والدبلوماسية، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو النووي الإيراني.
إذ إنه منذ الوقف الكامل في سبتمبر 2022 لمحاولات إعادة العمل بخطة العمل الشاملة المشتركة التي تهدف إلى ضمان الطابع المدني لبرنامج إيران النووي، والموقعة في عام 2015، تبدو الدول الأوروبية المعنية بها (فرنسا، ألمانيا والمملكة المتحدة) والولايات المتحدة الأمريكية في مأزق. فالاعتراف العلني بنهاية الخطة، والمأزق الدبلوماسي، سيعني الدخول في المجهول، وخطر التصعيد بين العقوبات الاقتصادية المضاعفة والعمليات العسكرية المحتملة. لكن خلال هذا التعليق للمباحثات المستمر منذ شهور، صعدت إيران من الانتهاكات المتعددة لالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وفق الصحيفة.
وأضافت “لوموند” نقلا عن رافائيل غروسي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قوله إنه حاول من خلال زيارته لطهران يوم الجمعة الماضي، الحفاظ على خيط من المناقشات مع النظام الإيراني لاستعادة السيطرة على أنشطته. فقد التقى يوم السبت بالرئيس إبراهيم الرئيسي للمرة الأولى، وهي علامة إيجابية في حد ذاتها. وقال في هذا الإطار: “نحن نتخذ خطوات في الاتجاه الصحيح”، مؤكداً أن طهران وافقت على عودة الكاميرات التي تسجل الأنشطة النووية، وكذلك الوصول إلى الأماكن التي تم رفضها منذ فبراير 2021، كمواقع إنتاج الماء الثقيل أو أجهزة الطرد المركزي. لكن هذا الخبر الذي صرح به غروسي لم يظهر كاملاً في البيان الصحافي المشترك، توضح “لوموند”، مضيفة أيضا أن الغربيين اعتادوا على الفجوة بين الوعود وتنفيذها.
وأشارت الصحيفة الفرنسية إلى أنه ثمة التزاما آخر تحدث عنه غروسي، سيتعين توضيحه في اجتماع قادم بين الخبراء في طهران. وقد وافق الإيرانيون على “عمليات تفتيش إضافية بنسبة 50% في موقع فوردو الاستراتيجي، الذي تم فيه اكتشاف آثار يورانيوم مخصب بنسبة 83.7 في المئة، أي أقل بقليل من نسبة 90 في المئة اللازمة لإنتاج قنبلة نووية. في نوفمبر عام 2022، استأنفت إيران التخصيب هناك بنسبة 60 في المئة، في حين أن خطة العمل المشتركة الشاملة، لم تسمح بالتجاوز من عتبة 3.67 في المئة.
اعتبرت “لوموند” أن الغربيين يترددون بين عدة فرضيات، ولا يستثنون شكلاً من الاختبار الإيراني لحزمهم، مشيرة إلى أن الاستقبال الإيجابي للسيد غروسي يأتي قبل اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي يبدأ غداً الإثنين. وأكدت الصحيفة، بحسب “معلوماتها” والتي تؤكد تلك التي أوردتها صحيفة “ وول ستريت جورنال”، أن الأوروبيين تخلوا عن طرح قرار يهدف إلى إدانة الموقف الإيراني. وقد أعرب الأمريكيون بالفعل عن معارضتهم لهذه الخطوة التي تم اتخاذها في شهر نوفمبر الماضي. ويمكن للدول الأوروبية الثلاث (فرنسا، ألمانيا والمملكة المتحدة) والتي كانت تنتظر أيضا خلاصات رافائيل غروسي بعد زيارته لطهران، أن تكتفي ببيان صحافي مشترك.
وتابعت الصحيفة الفرنسية القول إن الإيرانيين يواصلون التجاوزات المحسوبة، مدركين ثمن الفشل المعلن لجميع الفاعلين في الملف. واعتبرت أن تجاوز عتبة 90 في المئة للتخصيب ستشكل عمليًا ورمزيًا لحظة حقيقة، لاسميا وأن إيران تمتلك، وفقًا لتقديرات خبراء الذرة أنفسهم، ما يكفي من المواد الانشطارية من حيث الكمية، لتجهيز خمسة صواريخ نووية، شريطة أن تكون هذه المادة مخصبة بنسبة 90 في المئة، ثم يتم احترام الوقت اللازم لتجميع هذه الصواريخ ودمجها، أي ما بين عام ونصف وعامين ونصف.
على الرغم من خطورة الموقف والانقطاع الطويل في مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية للأنشطة الإيرانية، وغياب أي اتصال دبلوماسي منذ سبتمبر 2022، لا يبدو أن هناك إحساساً بالإلحاح يحرك إدارة بايدن. وتنقل الصحيفة عن هيذر ويليامز، الخبيرة في مؤسسة RAND، وهي مؤسسة فكرية قريبة من الجيش الأمريكي، وعضو سابق في مجلس الاستخبارات الوطني المسؤول عن إيران، تنقل عنها قولها: “الولايات المتحدة في طريق مسدود. لا تبدو المفاوضات قابلة للاستمرار في هذه المرحلة. لقد تضاءل اهتمامهم بمرور الوقت مع تقدم البرنامج الإيراني. إذن، أعتقد أن إيران ليست شريكا جادا ملتزما بحسن نية. أخيرا، لا يمكن ببساطة إهمال قمع المتظاهرين في إيران لأشهر. هذا يجعل من الصعب للغاية الجلوس مع النظام الإيراني، علاوة على مشكلة الصورة البسيطة”، تقول الخبيرة الأمريكية.
وأشارت “لوموند” إلى تصريح جون كيربي، المتحدث الأمني في البيت الأبيض، يوم الثاني من شهر مارس الجاري، بأن المفاوضات مع إيران “ليست على جدول الأعمال”؛ وأيضا تشديد مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، خلال مقابلته مع شبكة “سي بي إس” في 26 فبراير، على الوقت والخبرة اللازمين لتحويل المواد الانشطارية المتراكمة إلى قنبلة، وتجهيز رأس حربي صاروخي. وقال: “على حد علمنا، لا نعتقد أن المرشد الأعلى في إيران قد اتخذ قرارا حتى الآن باستئناف برنامج الأسلحة الذي نعتبر أنه تم تعليقه أو إيقافه في نهاية عام 2003”.
روسيا والصين من بين الموقعين على الاتفاق النووي
تابعت “لوموند” التذكير بأنه على هامش اجتماع سياسي في كاليفورنيا في أوائل نوفمبر عام 2022، قال جو بايدن لإحدى المشاركات، متحدثا عن الاتفاق حول برنامج إيران النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة): “لقد مات، لكننا لن نعلن ذلك. قصة طويلة”. ويبقى القلق الرئيسي للولايات المتحدة هو منع المزيد من التصعيد. تركز الإدارة على الحرب في أوكرانيا والمنافسة المنهجية مع الصين. ويلعب هذان العاملان، كل على طريقته، في الملف الإيراني. فروسيا والصين من بين الموقّعين على خطة العمل الشاملة المشتركة، تذكّر “لوموند”.
كما تشير الصحيفة الفرنسية إلى أن المحادثات مع إسرائيل مكثفة ومستمرة، حيث سيكون وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ومستشار الأمن القومي تساحي هنغبي في واشنطن خلال الأيام المقبلة لمناقشة الخيارات. وكان البلدان قد أجريا في شهر يناير الماضي أكبر مناورة عسكرية مشتركة في تاريخهما، أطلق عليها اسم “جونيبر أوك”. وتجاوز السفير الأمريكي في إسرائيل، توم نايدس، اللغة الرسمية عندما أوضح في 17 من شهر فبراير الماضي، أن الدولة اليهودية “تستطيع ويجب أن تفعل كل ما هو ضروري ضد إيران، وأن بلاده وراءها”. وأعطى الدبلوماسي انطباعا بأن شيكاً على بياض يُمنح لإسرائيل للتعامل عسكريا مع المسألة الإيرانية، وهو ما لا يتوافق مع حالة التفكير في واشنطن.
واعتبرت “لوموند” أنه لا يوجد خيار عسكري مفضل، ولا يوجد خيار دبلوماسي في الأفق، ولا توجد مضاعفة حاسمة للعقوبات على الطاولة، خاصة وأن تحالف المصالح بين موسكو وبكين وطهران، الذي تعززه معاداة أمريكا، يوفر طرقا التفافية. لذلك تظل الولايات المتحدة في موقف رد الفعل وقصر النظر، بينما اختفى الملف الإيراني من النقاش العام في وسائل الإعلام والكونغرس، الذي يعادي إلى حد كبير إحياء الاتفاق النووي.
ونقلت “لوموند” عن كيلسي دافنبورت، مديرة سياسة حظر الانتشار في رابطة الحد من التسلح، قولها: “لا توجد خيارات جيدة للتعامل مع تقدم البرنامج النووي الإيراني ، حيث إن الإرادة السياسية لتنشيط خطة العمل الشاملة المشتركة قد تلاشت. لكن الوضع الراهن غير مستدام. يجب أن تتصرف إدارة بايدن بإحساس متزايد بالإلحاح الدبلوماسي. أعلم أن التفاوض مع إيران لا يحظى بشعبية، لكن لا يوجد بديل. من أجل خفض التصعيد، يجب على الولايات المتحدة والأوروبيين التركيز على تدابير صغيرة، مما يسمح على سبيل المثال بتعزيز مراقبة الأنشطة الإيرانية، مقابل رفع محدود للعقوبات. يمكن أن يوفر هذا وقتا ومساحة لمفاوضات أوسع”.
مضت “لوموند” إلى القول إن المسؤولين في إدارة بايدن يتأرجحون بين النتائج المثيرة للقلق والمصطلحات. ففي حديثه يوم 28 فبراير الماضي، أمام لجنة في مجلس النواب، وضع كولن كال، وكيل وزارة الدفاع، بهدوء شروط حالة الطوارئ، قائلا: “التقدم النووي الإيراني منذ خروجنا من خطة العمل المشتركة الشاملة كان ملحوظا. في عام 2018، عندما قررت الإدارة السابقة الانسحاب من الاتفاق، كانت إيران بحاجة إلى اثني عشر شهرا لإنتاج المواد الانشطارية لصنع قنبلة. الآن سيستغرق الأمر حوالي اثني عشر يوما”. وهو تقدير إرشادي لتقلص الوقت، والكارثة التي أحدثها قرار دونالد ترامب الأحادي في عام 2018، بقطع التزام بلاده وتقديم مبرر لإيران لانزلاقها، كما تقول “لوموند”.
ويتزامن هذا التسارع مع تغيير في موقف النظام الذي يوحّد نادي المنبوذين مع موسكو، توضح “لوموند”، مشيرة إلى قول كولن كال، وكيل وزارة الدفاع إن “روسيا أصبحت تعتمد بشكل متزايد على إيران من خلال مطالبتها بالمزيد من الطائرات بدون طيار والصواريخ وغيرها من المعدات”. منذ ذلك الحين، سيتوقف الكرملين عن قدرته على ممارسة الضغط على طهران أو رغبته في ذلك، لإقناع النظام الإيراني بالعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. ومع ذلك، عند الجانب الأمريكي، من المستحيل تصور مفاوضات جادة وحاسمة حول هذا الموضوع، طالما استمرت طهران في تسليم المساعدات العسكرية لروسيا، ولو لأسباب تتعلق بالسياسات الداخلية ومعارضة الكونغرس الحازمة.
ويكمن الأمل بين خبراء إيران، في الحسابات المعقدة للغاية المنسوبة إلى النظام، تقول “لوموند”، مشيرة إلى تصريح هيذر ويليامز أن “تكون مرتبطة بسوريا وروسيا وكوريا الشمالية، ليس هو النادي الذي تريد إيران أن تكون فيه. يمكنها القبول به لعدم وجود خيار آخر. لكني أعتقد أن الجمهورية الإسلامية تود أن تُعامل بطريقة ما كأمة طبيعية. العزلة تفيد النظام، لكن ليس العزلة الكاملة. يريدون أن يكونوا قادرين على تحديد قواعد علاقاتهم المتبادلة مع العالم. ما يزالون يريدون التجارة مع ألمانيا، ونقل الأموال إلى تركيا، وبيع النفط للهند، وما إلى ذلك”.