إيطاليا دعمت وما زالت حكومات طرابلس، التي تحظى بدعم أممي، وتعمل بتنسيق مع الولايات المتحدة، وتقف في مواجهة المعسكر الداعم للواء خليفة حفتر.
استكملت رئيسة مجلس الوزراء الإيطالي جورجيا ميلوني جولة عربية محورها الغاز والهجرة غير النظامية. ويتصدر هذان الملفان جميع المحادثات التي أجرتها مع زعماء الدول التي زارتها خلال جولة على مراحل، شملت الشهر الماضي ليبيا والجزائر وتونس ثم مصر والإمارات الشهر الجاري. وبذلك تبوأت علاقات إيطاليا مع العالم العربي صدارة الأولويات الإيطالية، لاسيما في ظل الخلافات القائمة بين روما والعواصم الأوروبية الأخرى، في شأن التعاطي مع المهاجرين غير النظاميين. وتقول ميلوني إن بلدها لا يمكن أن يكون محطة الوصول لجميع موجات الهجرة المُنطلقة من شمال أفريقيا وجنوب الصحراء، «لأنها قضية تشمل أوروبا بأسرها» على ما قالت. وتمكنت ميلوني وحزبها اليميني المتطرف، من الفوز في الانتخابات الأخيرة بفضل خطابها المعادي للمهاجرين.
لكنها خففت من غلواء خطابها المتشدد، بعد اعتلائها سدة رئاسة الوزراء، إذ حملت في حقائبها نسخا من «خطة ماتّي» نسبة إلى رجل الأعمال الإيطالي الراحل إنريكو ماتيي، الذي قاوم احتكار الشركات النفطية السبع الكبرى أسواق الطاقة في العالم، عندما كان على رأس مجموعة «إيني» في سبعينات القرن الماضي. وكان قطب الرحى في محادثات ميلوني مع نظيريها في تونس وليبيا، كيفية اعتراض القوارب المُحملة بالمهاجرين غير النظاميين، بعدما عدلت عن خطة فرض حصار بحري على ليبيا كانت روجت لها خلال حملتها الانتخابية، واستعاضت عنها بـ«خطة ماتيي» التي وصفتها بكونها «ذات أبعاد شاملة»، أي أنها لا تقتصر على منع قوارب المهاجرين والحيلولة دون وصولها للسواحل الإيطالية. وتحمل الخطة مثلما أسلفنا اسم مؤسس مجموعة «إيني للطاقة» إنريكو ماتيي الذي وضع خططًا للتنمية في بلدان الجنوب.
خطة مثالية
وتعتبر ميلوني «خطة ماتيي» هذه مثالا للخيار التعاوني مع دول الساحل وبلدان جنوب المتوسط، خاصة من حيث إسهامها المتوقع في تراجع أعداد المغامرين بركوب البحر إلى أوروبا. على خلفية تلك الهواجس الأمنية الإيطالية الكبيرة أجرى وزيرا الداخلية اجتماعا وُصف بـ«المهم» على هامش زيارة ميلوني والوفد الموافق لها طرابلس. وشارك في الاجتماع مسؤولون أمنيون سامون من الجانبين، بينهم رؤساء إدارات الحدود ومكافحة التهريب والمخدرات والجريمة المنظمة العابرة للحدود والإرهاب، لكن لم يرشح شيء عن مضمون الاجتماع عدا إشارة الاعلام الرسمي الليبي إلى أن وزير الداخلية الطرابلسي عرض على نظيره الإيطالي خطة وزارة الداخلية لمكافحة الهجرة غير الشرعية والتهريب، من دون إعطاء تفاصيل عن الخطة. مع ذلك حصد الإيطاليون من الزيارة اتفاق استكشاف وتطوير لحقول النفط والغاز مع «المؤسسة الوطنية للنفط» بقيمة 8 مليارات يورو.
53 ألف مهاجر
لكن في الواقع ما زالت السلطات الإيطالية اليمينية المتشددة، ترى في السواحل الليبية ثقبا أسود، إذ أفادت إحصاءات بثها رئيس عمليات القيادة لسلطات الموانئ الإيطالية الأدميرال جوزيبي أوليشينو، أن غالبية المهاجرين الذين انطلقوا من دول المتوسط، جاؤوا من ليبيا التي سجلت نسبة زيادة بلغت 70 في المئة، أي بواقع 53 ألف مهاجر خلال العام 2022 إذ شهدت إيطاليا وصول 105 آلاف مهاجر عن طريق البحر، وذلك بمعدل زيادة بلغ 56 في المئة قياسا على العام 2021.
ولا تقل أهمية عن زيارتي ليبيا والجزائر، الزيارة التي أدتها رئيسة الوزراء الإيطالية إلى أبو ظبي الأسبوع الماضي، في إطار ما دعاه رئيس الإمارات محمد بن زايد «الشراكة الاستراتيجية» بين بلده وإيطاليا. ومن بين الملفات ذات الاهتمام المشترك «الدور الحاسم والمهم للغاية» الذي يمكن للإمارات أن تلعبه في تحقيق الاستقرار في ليبيا»، وحل الصعوبات المالية في تونس. وهذان الملفان مترابطان، إذ أن حل الصعوبات المالية في تونس والمحافظة على استقرارها يٌخففان من ضغوط الهجرة غير النظامية، ويشجعان فئات من الشباب التونسي على البقاء في البلد. وحصدت ميلوني من زيارتها الإمارات، كما زيارتيها للجزائر وليبيا، اتفاق تعاون بين مجموعة الطاقة الحكومية الإيطالية «إيني» وشركة بترول أبو ظبي الوطنية «أدنوك» بهدف الحد من الانبعاثات وتحسين أمن الطاقة، وتسريع النمو الاقتصادي والصناعي منخفض الكربون في الإمارات. كما وقع وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني إعلان نوايا حول استراتيجيا المناخ مع وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة الإماراتي.
«الدفق الأخضر»
وتعتبر روما أحد الزبائن الأساسيين للغاز الليبي، إذ تصدر ليبيا الغاز إلى إيطاليا منذ 2007 عبر خط أنابيب «الدفق الأخضر» الذي يقدر طوله بـ520 ميلا بحريا. ويعتمد هذا المشروع المشترك بين «المؤسسة الوطنية للنفط» ومجموعة «إيني» الإيطالية، على عقود طويلة المدى مرتبطة بسعر النفط.
وقدر الخبير النفطي الليبي طارق شلماني الدخل العادي من صادرات الغاز الطبيعي في السنوات الماضية بـ1.1 مليار دولار سنويا. ويمكن أن يرتفع إلى 3.3 مليار، إذا ما استقرت أسعار النفط عند حدود 100 دولار للبرميل.
ولا يمكن لليبيا بحكم تلك العقود طويلة المدى ان تتنصل من تعهداتها وتبيع غازها في السوق الفورية، ما يُحقق لها أرباحا تصل إلى 11 مليار دولار. غير أن هذا السلوك يُسيء إلى سمعتها في الأسواق، وربما يُعرضها إلى متابعات قضائية لدفع تعويضات كبيرة، أو الحجز على أصول تابعة لها.
خسائر كبيرة
ويؤكد الخبراء أن الاقتصاد الليبي عانى من خسائر كبيرة نتيجة عدم التطوير الداخلي وغياب الأمن، فضلا عن الركود الاقتصادي وعدم استقطاب استثمارات جديدة تمكن من تطوير القطاع الخاص. وستواجه ليبيا تحديا كبيرا إذا ما تعثر إنتاج النفط والغاز في الفترة المقبلة بدوافع سياسية، لأنها بحاجة إلى العوائد لتمويل مجهود إعادة الاعمار. وتحتاج ليبيا إلى نحو 500 مليار دينار ليبي (102.5 مليار دولار) في السنوات العشر المقبلة، لكي تتمكن من إعادة إعمار البلد.
مع ذلك يعتقد شلماني أن ليبيا تستطيع تعزيز مكانتها في السوق الدولية كمنتج مهم للغاز، ولكن ذلك يحتاج إلى خطة لتطوير بنيتها التحتية وفتح الباب لمزيد من أعمال التفتيش والاستكشاف. وحسب معلومات من إدارة الإنتاج في «شركة الخليج للنفط» (قطاع عام) أن لدى ليبيا احتياطي ضخم من الغاز الطبيعي غير مستكشف حتى اليوم. وأماطت «المؤسسة الوطنية للنفط» مؤخرا اللثام عن استراتيجيا، تتضمن زيادة في إنتاج الغاز ليصل إلى 3.5 مليار قدم مكعب يوميا بحلول 2024، وبكلفة في حدود 60 مليار دولار من الموازنة الحكومية، والباقي يوفره مستثمرون من المجموعات النفطية العالمية. واستبقت مجموعات دولية نتائج الحرب الروسية الأوكرانية لتبدأ مفاوضات مع المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، للبحث في إمكان الرفع من الامدادات الليبية من الغاز إلى الدول الأوروبية.
حوارات مع جميع الأطراف
يتضافر هذا البُعدُ الاقتصادي مع جهود تبذلها روما للمساهمة في حل الأزمة الليبية، إذ أكد وزير الخارجية والتعاون الإيطالي أنطونيو تاياني أن استقرار ليبيا مهم لإيطاليا، وأن بلاده تجري محادثات مع جميع الأطراف في ليبيا، سعيا إلى تحقيق الاستقرار. ويُعدُ هذا التطور تحولا لافتا في التحالفات الإقليمية، إذ أن إيطاليا دعمت وما زالت تدعم الحكومات المتوالية في طرابلس، التي تحظى بدعم أممي، وتعمل بتنسيق مع الولايات المتحدة، وتقف في مواجهة المعسكر الداعم للقائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر، واستطرادا فهي في خلاف مع داعميه، وخاصة الامارات ومصر. لكن الفترة الأخيرة عرفت انقلابا في التحالفات، بعد انفتاح تركيا على كل من مصر والإمارات.
ولدى الحديث عن حقول الطاقة في ليبيا لابد من الإشارة إلى خطر جاثم تسعى السلطات الليبية إلى التعتيم عليه، وهو وجود عناصر من الشركة العسكرية الروسية «فاغنر» في حقول النفط الليبية باتفاق مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وماىزالت الشركة، التي يديرها يفغيني بريكوجين، «طباخ» الرئيس بوتين، تنتدب المرتزقة من روسيا لإرسالهم إلى ليبيا وجبهات أخرى. ويقول أحد الإعلانات باللغة الروسية ما معناه «ما زالت الانتدابات مستمرة، وهناك كثير من فرص العمل، والشرط المطلوب هو امتلاك جواز والقدرة على السفر إلى الخارج». كما يتحدث الإعلان عن مهمة تستمر بين 9 و14 شهرا، في الصحراء، من دون ذكر اسم بلد معين. لكنه يوضح أن الحرارة في تلك البلدان تصل إلى 40 درجة وفي الصيف إلى 60.
هواجس أمريكية
والأكيد أن تمدُد «فاغنر» المستمر في أفريقيا يُثيرا قلقا كبيرا لدى الأمريكيين، إذ تحدث مؤخرا قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) مايكل لانغلي، عن أنشطة المجموعة في ليبيا ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، مشيرًا إلى «آثار تُزعزع الاستقرار» في كل دولة وضعت أقدامها فيها عبر «تكتيكات وحشية» و«انتهاكات لحقوق الإنسان» وفقًا لموقع «ديكود 39» الإيطالي.
جاءت تصريحات لانغلي في لقاء مع الصحافة من روما بمناسبة زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال مارك ميلي إلى إيطاليا، وذلك للمشاركة، مع القادة العسكريين من 43 دولة، في مؤتمر رؤساء الدفاع في أفريقيا. وصرح قائد (أفريكوم) في هذا الإطار بأن «الدبلوماسية والتنمية والدفاع نهجٌ شامل ثلاثي الأبعاد للولايات المتحدة في أفريقيا». من هنا يبدو أن أفريقيا باتت مسرحا لصراع كبير بين روسيا وأمريكا والظاهر أنه سيتوسع إلى بلدان أخرى.