أتذكر محمد بن جنات أواخر الستينيات من القرن الماضي، وكنا طلبة حديثي العهد بالجامعة.. كنا نجلس في مقهى برازيليا في تونس العاصمة؛ حتى إذا وجد غفلة، ونحن نغادر، دس الجريدة السرية «العامل التونسي» ومنشورات حركة آفاق في جيبي. كانت الحركة اليسارية أيامها ذات بعد سياسي لا شك، لكنها كانت مشرعة على الحياة الثقافية؛ فقد كنا نتبادل الكتب ونتردد عل دور السينما ومعارض الرسم.. ونشهد الأمسيات الأدبية والشعرية والعروض المسرحية.
كنت منذ أن التحقت بحركة برسبكتيف أواخر الستينيات وأنا طالب في كلية 9 أبريل، أحب فلاديمير لينين؛ لا لفكره كما قد يقع في الظن، وإنما لحبه الشعر والأدب، وما يروى عن خفة روحه. وسم كتابه «ما العمل» عام 1902 بالعنوان ذاته الذي وسم به نيكولاي تشيرنيشفسكي روايته الوحيدة والشهيرة «ما العمل؟» عام 1863. وكان لينين يقول، إن هذه الرواية تهز المشاعر؛ وتمنح الإنسان الطاقة طول العمر، وهي فعلا كذلك، فقد تركت ميسمها في ذلك الجيل من الثوريين الروس في القرن التاسع عشر. جميل ما كان يدعو إليه صاحب الرواية، من أن سعادتنا في سعادة الآخرين، عندما تقترن مصلحتنا بمصالحهم. لكنني أتساءل هل يمكن أن يكون «رخماتوف» بطل روايته مثالا لنا اليوم، كما كان لمنظمة «نارودنايا فوليا» وأعضاء الحزب الاشتراكي الثوري؟ أليس هو شخصية خيالية في مدينة حقيقية؟ ربما هو عود الكبريت الذي لا تطفئه الريح؟ ولم يكن في إمكان البوليس القيصري أن يقبض عليه، أو أن يودعه السجن.. وهو الذي هرب من المجتمع الذي نشأ به ودرج؛ ليقوضه عام 1917.
كنت أرى لينين أقرب إلى ماركس من ستالين المخيف.. ماركس صرصار لافونتين.. الحالم بالجنة الأرضية مثل العراقي سعدي يوسف.. كان لينين صديقا حميما لمكسيم غوركي. وكان كما يقول عنه غوركي، صاحب نكتة مرحة، يمتلك ـ وهو الذي عاش أكثر من مأساة حتى في عائلته بعد شنق أخيه ألكسندر ـ قدرة هائلة على الإصغاء لمحاوريه، وممازحتهم.. بل قدرة على الضحك من أعماق قلبه، بسذاجة وطيبة؛ وهو يمسح دموعه عندما يستبد به الضحك ـ ويقول لمن حوله.. إنه لشيء حسن أن نرى الجانب المسلي من إخفاقاتنا وإحباطاتنا.. كنت كلما تذكرته، أتعجب من هؤلاء السياسيين الذين يبزغون كالفطْر «شحم الأرض» أو الكمأ المغبر من احتجابه في التراب.. المستدير كالقلقاس.. الذي لا ساق له ولا عرق.. فهم دائما مكشرون عابسون، وكأنهم يهرون للحراش..
أستحضر كل هذا وأنا أعيش على وقع «القضية» التي شغلت التونسيين جميعا، وأعني قضية المهاجرين الأفارقة ضحايا الفاقة والضيم والاستعمار.. الباحثين عن «الفردوس المفقود» عندنا في تونس، أو في الضفة الشمالية من المتوسط.. وكنت أود لو عالجت السلطة والمعارضة هذه القضية بأريحية الضيافة كقول الفرزدق:
وجَدْت الثرى فينا إذا التُمِسَ الثرى/// ومَنْ هو يَرْجُو فَضْلَه المُتَضَيف
كان الفينيقيون في بلاد الشام يصنعون صورة أدونيس الرب المقتول، من شمع أو طين محروق.. يمددونه فوق سرير من الفضة، ويغطونه بالحشائش الخضراء.. حيث تقف فينوس إلى جانبه.. وزهر «الأدونيس» الأحمر يشع في سلال مجدولة من الفضة حوله.. ثم تقبل النساء ويطفن به نائحات مغنيات.
بدل هذه «الحدة» التي لا مسوغ لها سوى حالة المناكفات السياسية التي نعيشها منذ أكثر من سنة ونصف السنة، وكل يتربص بصاحبه.. والقضية أعمق من أن تطرح من منظور «هذا أسود» و»هذا أبيض».. غير أننا لا نرى بعيوننا على قدر ما نرى بعيون المجتمع الذي نعيش فيه.. حتى الأعمى لا يُستثني، فصوت محدثه الحاد أو الأجش، يثير في نفسه إذ يدرك أنه موضوع نظر، ردودا واستجاباتٍ غرزها المجتمع فيه.. هي عادة ردود واستجابات خاصة بعالم المبصرين، حيث لا قيمة للألوان، إلا من حيث هي حاملة لرسالة أو مشحونة بمعنى، وليس من حيث هي مجرد ظواهر بصرية.. اللون مرئي بقدر ما هو متخيل؛ ونحن نراه بالبصر مثلما نراه بالبصيرة.. اللون عرفان صوفي سيماء.. ضرب من السحر.. والطلمسات.. قد يكون من غايته إحداث أمثلة وخيالات قد لا يكون لها وجود في حقيقة الحس.. لوحة الألوان الستة الرئيسية عند العرب هي: الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق والأبيض والأسود.. من بين هذه الألوان يتميز الأبيض والأسود.. عنصران رئيسيان من عناصر الجمال يحيلان باستمرار إلى صورة الحور العين القرآنية.. ويتضايفان ويتكاملان.. الأبيض ليس مجرد لون.. بل هو ليس بلون أصلا، وإنما هو خلاصة الألوان كلها.. كلمة بياض تشمل عند العرب المجسدات والمجردات معا.. الحليب والماء والنهار والضوء والقمر والعين والقلب والسيف.. اليد البيضاء هي يد الإحسان والنعم والقدرة.. الموت الأبيض هو الطبيعي.. الفجأة. والسهل والرجل الأبيض هو النقي.. وبيض صفحة.. كتبها بفن وعناية.. القلب الأبيض هو البريء الطاهر.. وبيضة النهار: بياضه. وبيضة الخدر جاريته.. الأسود هو أيضا ليس بلون.. هو هذه المادة التي تجعل من اللون احتفالية تتراسل فيها الحواس وتتشابك.. متعة العقل والقلب معا.. العيون السود.. والشعر الأسود.. سمات الجمال التي تستدعي لطافة السريرة.. وغموض المجهول.. وخلوة الليل.. وطمأنينة الروح.. والحبر الأسود هو الذي يثبت الفكرة.. والعاطفة الجياشة على الصفحة البكر البيضاء.. ويسبغ معنى على المادة الغفل.. فيثير الحلم.. ويشحذ المخيلة.. يخفي ويظهر.. يكتم ويفصح.. تيه وعودة.. الأسود سحر مفتوح على المطلق.. يحيل على نفسه مثلما يحيل على ألوان أخرى، فهو الصفرة والخضرة أيضا.. مقدس.. الكعبة الملفوفة بالسواد.. الحجر الأسود.. وإذا كان الأسود في متخيلنا نذير الموت والفراق.. والموت الأسود هو الموت خنقا.. فقد كان الأبيض أيضا كذلك أو شبيها به.. ومنه قول الشاعر القديم:
إذا كان البياض لباس حزن /// بأندلسٍ فذاك من الصوابِ
ألمْ ترني لبستُ بياض شيبي/// لأني قد حزنتُ على شبابي
لكن هزيود وهو معلم الكثيرين.. لم يكن يعرف الليل ولا النهار.. ذلك أنهما شيء واحد.
المجاز في ثقافتنا حقيقة.. ولعله كذلك.. لكل شعب.. لكل زمن إلههُ.. حتى لكأن أي إله هو طموح بشري يتحقق.. وقد يكون محور المعركة بين أمريكا والصين هذا الإله الوضعي المنشود الذي يريد أن يتفرد بحكم العالم.. كان الفينيقيون في بلاد الشام يصنعون صورة أدونيس الرب المقتول، من شمع أو طين محروق.. يمددونه فوق سرير من الفضة، ويغطونه بالحشائش الخضراء.. حيث تقف فينوس إلى جانبه.. وزهر «الأدونيس» الأحمر يشع في سلال مجدولة من الفضة حوله.. ثم تقبل النساء ويطفن به نائحات مغنيات.. كان نواحهن المرعب يملأ الميادين العامة.. الإنسان خلق صورتين له ولمعبوده: الوجه والقفا.. وجهان لعملة واحدة.. ولعل إله أرسطو هو الإله الحقيقي.. يتحرك ولا يحرك.. كل من يتحرك بشوق إلى أصله.. هو الذي ولد ولم يولد.. أتذكر الآن ما قاله لنا سميح القاسم، في بيت الشعر في تونس.. عندما كشف الإسرائيليون عن أرشيف الدولة، بعد خمسين عاما.. وجدوا وثيقة هي حوار بين بن غوريون وبعض أقطاب الأحزاب الدينية اليمينية.. كانوا يطالبون الحكومة بضخ المال لهم «دفاعا عن يهوه».. فقال بن غوريون «نحن اليهود اخترعنا يهوه لينفق علينا.. لا لننفق عليه».
قرأت أن الأوروبيين إنما تمكنوا بفضل التصنيع من جسر الهوة بين البادية والمدينة، وتحويل الصراع في أوروبا من صراع أفقي لا تاريخي ـ وهو صراعنا نحن اليوم ـ إلى صراع عمودي طبقي.. والتصنيع وحده أبو الحداثة.. والمفكر توني نيغري نحت بديلا لمفهوم البروليتاريا «حشود المستضعفين» (المولتيتود).. لعله قرين مصطلح «الزواولة» عندنا أو «الغلابة» عند أشقائنا المصريين.. وهؤلاء المهاجرون هم أبناء افريقيا مثلنا.. ومثلنا هم من الكادحين المستضعفين.. لكن أكنا نحن الطلبة من«البروليتاريا»؟ قال لي محمد بن جنات إن الكلمة نقلت إلى العربية أول مرة عام 1920 في مؤتمر شعوب الشرق في باكو. وقد كُتب في إحدى لافتاته «يا صعاليك العالم اتحدوا». قال كلمة «بروليتاريا» تقلبت في أدوار لغوية شتى، قبل أن تستقر على مفهومها الطبقي المعروف. وهي مشتقة من الأصل اللاتيني.. الإرث والوراثة، وكان لها معنى مخصوص في عهد القيصر الروماني سيرفيوس حيث تم تقسيم المجتمع إلى خمس طبقات أو فئات حسب أملاكها. ووزعت مقاعد مجلس الشعب عليها محاصصة. وبقيت فئة معدومة لم ترث شيئا فأطلقت عليها هذه الكلمة.. هم رفاق يا مصطفى وليسوا أصدقاء Prolitari. أما أن تمكر اللغة وتموه وتخاتل من أجل ترويض هذا الحيوان أو ذاك، أو من أجل تدجين هذه القوة الطبيعية الغاشمة، أو تلك على ما نحو كان يفعل أسلافنا الغابرون، وقد أعوزتهم التقنية، فلاذوا باللغة وبالتصوير على جدران الكهوف بدم الحيوان وغيره.. أو بالنحت.. فهذا مكـْرٌ محمود. لكن أن تمكر اللغة، بمعنى أن تغالط وأن تزيف تبطل الحق وتُحق الباطل؛ فذاك لا علاقة له باعتباطية العلامة اللغوية، بل له علاقة باعتباطية المعنى.. ولا شيء يبرر العنصرية لا عندنا ولا عند غيرنا.. فالأسود أبيض.. والأبيض أسود..
كاتب وشاعر تونسي
بل غصة المهاجرين، لأن السياسة الليبرالية للغرب المتوحش الذي سرق الثروات الطبيعية من الشعوب المستضعفة هذي سنين وسنين وسنين هو المتسبب الأول في تفقير هذه الشعوب ومن ثمة هجرة الناس من الفقر إلى الغنى الموجود عند نفس هذه الدول الغربية التي تطرد المهاجرين بلا رحمة أو شفقة ???????
شكرا منصف، فقد أنصفت الأسود والأبيض والأصفر والأحمر والأسمر، في أربع جهات الأرض والسماء والذين
لم يكن لهم خيار آخر في ألوانهم، كما والديهم ولون عينيهم، ومكان ولادتهم، فكيف بأرزاقهم ؟
مقالك في تتبع آحداث قرن تفجر مفاجأة كبرى : بصراع الأفكار الجديدة و للثورة الحلم الجميل،والثورة المضادة
أنتجت حربين عالميتين مدمرتين، لم نخرج بعد من إرتداداتهما بعد ٧٧ من العقاب للجميع .