مأزق الأغنية الوطنية، المتعلقة بفلسطين بشكل خاص، أو الأغنية البديلة الموازية عربياً، يبدو لي في بعض الأحيان شبيهاً بالمأزق المتعلق بقصيدة النثر، إذ يبدو الابتعاد عن جانب كبير من قصائد النثر لا يختلف عن ذلك الابتعاد الذي تعمق في ربع القرن الأخير عن الأغنية الوطنية، وإن ظلت حالات متألقة، إما بذاكرة تحتضنها أو بفرق فنية استطاعت تجديدها بجماليات عالية ومناخات شبابية حداثية.
في ظني أن أحد المآزق الذي وقعت فيه الأغنية الوطنية التي ظهرت منذ الثمانينيات من القرن الماضي، أن فنانيها الذي بنوا أعمالهم اعتماداً على قصائد غنائية أصلاً، كُتبت تحديداً في الستينيات، إلى مطالع السبعينيات، لم يدركوا أن القصيدة الجيدة لا يمكن تحويلها دائماً إلى أغنية جيدة، فالقصيدة الأغنية (الجيدة) شيء، والقصيدة الجيدة أو المتطورة شيء آخر، وشهرة كثير من القصائد التي كُتبت مع نهوض قصيدة التفعيلة لا تكفي للذهاب بها إلى مناطق التأثير والتطوّر الغنائي بالضرورة، حتى رغم اعتمادها على أسماء شعرية كبيرة، إلا إذا كان هناك ملحن صاحب قدرة تركيبية لبناء عمل ملحمي عذب وفريد، بعيداً عن بنائية الأعمال الغنائية المعهودة.
هكذا، عاشت الأغنيات التي استندت إلى أعمال شعرية تنتمي لوضوحٍ وجمالٍ ورقةٍ، وجملٍ قصيرة بالدرجة الأولى، ومواضيع لها ملامحها ولها تأثيرها، أو مكانها في العقل الجمعي والروح الجمعية. وهذا أثمر منذ البداية، ما أهَّل هذه الأغنيات أن تنتشر بسرعة وأن تعيش إلى اليوم بقوة في وجدان من عرفوها ومن عثروا عليها من الأجيال الجديدة. تلك المرحلة أوجدَت هذا النوع من الملحنين- المغنين الكبار الذين ينتمون إلى أجمل ما في تاريخ العالم العربي من مواهب موسيقية تلحينيّة، فهناك الأغنية التي تمتلك موضوعها الخاص عبر القصيدة الملحَّنة، وهناك شخصية اللحن، التي لا تختلط بألحان أخرى، أو بأساليب الفنانين الآخرين الذين صعدوا في تلك الفترة، وإن بقي الأمر المنطقي نفسه سائداً، بشأن اختلاف المستويات حيناً، وقدرة أصوات على أن تكون متوازية مع غيرها بأصالتها، بسبب قوة أعمال هذه الأصوات اللحنية، الغنائية، أو فرادة كل منها.
لكن لنعترف أن النصوص المناسبة لأن تُغنى، حتى قبل تفكير أصحابها الشعراء بذلك، كانت جزءاً باهراً من الصعود الموسيقي الجميل الذي احتضنها ونهض بها موصلاً إياها إلى قمم أعلى.
هذا الأمر لم يستمر بالوتيرة ذاتها، بعد تطور شعر التفعيلة، إذ باتت القصيدة أكثر تركيباً، وذات جمل طويلة، إلّا في ما ندر، ولكن عدم انتباه الملحنين إلى هذا التغيُّر حوّل مجملهم إلى مُنغِّمين لهذه النصوص لا ملحنين لها. وبالتالي؛ بدا وكأن مواهبهم التلحينيّة انطفأت، وهي ليست كذلك في الحقيقة، فما حدث هو تراجع موهبة اختيارهم للنصوص، بسبب عدم وجود مقرّبين منهم يختارون لهم، أو يتحدثون معهم بصراحة حول الأمر، في وقت بدا كثيرون منهم غير قابلين لقبول أيّ رأي إلا إذا كان هذا الرأي معجباً بأعمالهم.
هذا الأمر يشبه إلى حدٍّ بعيد ما يحدث مع مخرج سينمائي كبير، أو منتج سينمائي، حين يفتقدان موهبة الاختيار ويذهبان باتجاه نصوص روائية أو سيناريوهات بعينها. وحين تشاهد الفيلم تجد أن هناك ممثلين كباراً، ومصورين، ومخرجين، وميزانية عالية، لكن مأزق الفيلم قائم في سوء اختيار حكايته.
هل حرَمنا هذا الأمر غنائيّاً من الصعود المتواصل لكثير من تلك المواهب التي ملأت حياتنا؟ أظن هذا، بحيث بتنا في نظر هؤلاء إلى حدّ بعيد، إن كنا قريبين منهم، ملزمين بالاعتراف مرغمين بجمال أعمالهم، مع أنها تقع في حيز التنغيم الرتيب في كثير من الأحيان، وسيولة لحنية بلا قوام، واعتماد فواصل موسيقية بلا شخصية عذبة وآسرة، ولكن إصرار كثيرين منهم على مواصلة الدرب، والأغلب اعتماداً على ردود فعل المتصفّحين في وسائل التواصل الاجتماعي، جعلهم يهدرون طاقاتهم بطريقة محزنة حقّاً.
لا أريد أن أبتعد فأتحدث عن أصوات تُغني منذ عشرين أو أربعين عاماً، ولكنها لا تملك حتى أغنية ناجحة واحدة، أو تملك أغنية واحدة/ صدفة لا غير. هؤلاء للأسف، يبدو الافتقاد إلى موهبة الاختيار مأزقهم الرّهيب.
مقابل هؤلاء، برز جيل جديد من المؤدِّين، ولا أقول المغنين الذين وجد بعض أعمالهم صدى واسعاً بين الشباب؛ هؤلاء أسسوا لنمط مضاد، وكل نمط مضاد مشروع، ولكن أكثره هنا لا ينتمي إلى الظاهرة الموسيقية، بل إلى الظاهرة الاجتماعية؛ وما يحدث أن الموسيقى هنا ليست هدفاً بحدّ ذاتها، بل وسيلة مبسّطة لإيصال قول أو فكرة ما، بعيداً عن بنية الشعر وبعيداً عن بنية التأليف الموسيقي، وإن كانت بين حين وحين تظهر أغنية تستحق أن تنتمي لعالم الغناء أياً كان حجم جنونها. لكن، وكما يبدو، فإن الظاهر الأعم لهذا التيار لن يكون جزءاً أصيلاً من الإرث الموسيقي أو الغنائي، فالتشابه اللحني والانفراط النصّي، الأشبه بثرثرة بين صديقين ملولين غير متنبّهين لما يقوله الواحد منهما للآخر، أو رصفاً لجمل دلالاتها قائمة في كل مفردة وما توحي به، أكثر من دلالتها كوحدة لغوية جمالية. بعض هؤلاء اعتمدوا على غيرهم في الكتابة وأنتجوا شيئاً جميلاً، لكن الأغلب، اعتمدوا على أنفسهم في وقت لا يملكون فيه موهبة الكتابة، ويكررون هنا خطأ بعض المغنين في الثمانينيات الذين اعتمدوا على نصوص رائعة لغيرهم في البداية ونجحوا، ولكنهم انتهوا في التسعينيات إلى مغنين يثيرون الحزن بكلام كتبوه وأصروا أن يغنوه، فكانت النتائج مرعبة. لكن ما سدّ الفراغ بصورة رائعة بروز فنانين شّقوا ما يمكن اعتباره الطريق الثالث من أمثال زياد الرحباني، وجوليا بطرس، وعلي الحجار، في أغنيات «لم الشّمل» وغيرهم.
على المستوى الشخصي أتابع كل جديد وأفرح به حين أرى تكامله، حين أرى حجم العمل والجهد المبذول فيه، لكنني لا أتخيل أبداً أن الأجيال القادمة بعد عشرين عاماً ستقف في قاعة وتغني معاً في مناسبة غير غنائية واحدة من الأغنيات المتكئة على قصائد – رغم روعتها- لم يدرك مغنوها وملحنوها أنها رائعة كقصائد ولكنها غير صالحة كأغنيات، وأن إلقاء شعرائها لها أجمل من ألحانهم، كما لن تغني تلك الأجيال أغنيات لا قوام موسيقياً لها ولا منطق جمالياً لنصوصها.
سيقفون ويغنون «موطني.. موطني»، ويغنون «أحلف بسماها وبترابها»، إن بقي عرب على قيد عروبتهم وترابهم وإنسانيتهم في ذلك الزمان.
وبعـــد:
أعرف أن قلّة قليلة من المغنين استطاعت تجاوز هذه المآزق، وبعضهم ظهر في الألفية الجديدة وقدّم شيئاً أصيلاً ناجحاً، ومحترماً حقاً، وبعض الفرَق استطاعت أن تُحيي أعمالَ راحلين مثل الشيخ إمام، كما يحدث في تونس، ولذا لا يستطيع المرء إلا أن يتفاءل بأجيال قادمة ستحيي أعمال موسيقيي الأغنية الوطنية، التي ظهرت في الثمانينيات تحديداً، كما يتم إحياء أعمال سيد درويش وإمام، لا لشيء إلا لأنها أعمال متكاملة جمالياً ولحنياً، وتمتلك تلك المعجزة المذهلة التي لا يعيش أي عمل يفتقدها، وهي الأصالة.
الله! كم أتمنّى لو كنت أنا من كتب هذا الكلام الذي يجيب عن تساؤلات راودت مرارًا تفكيري ولم أتمكّن من القطغ بشأنها!
تحيّات عابرة للمسافات…