يغري نجاح المبادرة الصينية المفضية إلى استئناف العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وإيران بالذهاب في التحليل إلى اتجاهات وأبعاد شتّى. بعضها يزيد على ما يمكن افتراضه في اللحظة الحالية من حمولة ودلالات.
فالمبادرة بحد ذاتها تظهر ولوج الصين من الباب الواسع ديبلوماسياً، إلى منطقة الشرق الأوسط، وعدم الاكتفاء بزاوية الاعتبارات والمصالح الاقتصادية البحت.
في الوقت نفسه، إذا كانت المبادرة مثمرة بالفعل، وبالتالي صار من الممكن أن يتحادث ويتفاوض الجانبان السعودي والإيرانيّ بهدوء وبمكاشفة وحرص على عدم العودة إلى الوراء مجدّداً انتفت الحاجة الى مرجعية راعية لكل هذا، وعاد الدور الصيني بالنتيجة الى ما كانت عليه الحال قبل استئناف العلاقات بين البلدين، إلا من ناحية ما تكون قد جنته الصين من خبرة تفاوضية وسمعة ومعنويات.
لكن المبادرة هي جزء من مسار صيني «اهتمامي» بشكل منهجي متنام بالشرق الأوسط، وهي انعكاس لمسار تراجعي نسبي للهيمنة الأمريكية على المنطقة دون أن يعني ذلك في الوقت نفسه أن الاهتمام الصيني تعدّى تماماً مرحلة «الاستكشاف الجيوبوليتيكي» للمنطقة.
ولا يستفاد من تراجع الهيمنة الأمريكية اندثارها. وما من قوة أجنبية أخرى – أجنبية هنا بمعنى من خارج الشرق الأوسط – قادرة في الأمد المنظور على أن تقف ندّاً أو تفرض نفسها كشريك أساسي للهيمنة الأمريكية على هذه المنطقة الغنية – بشكل متفاوت بين بلدانها بطبيعة الحال – بمخزونها وانتاجها النفطيين.
هو اهتمام صيني بمنطقة لم تكن الصين مهتمة فيها بهذا القدر من قبل أبعد من العلاقات الاقتصادية – التجارية. لا هذا الاهتمام الحالي في الوقت عينه إلى ما توليه الصين من عناية بما هو أقرب إليها على الصعيد الجغرافي من تخوم وأمصار وحدائق خلفية وامتدادات لها توسع اليها النفوذ الإمبراطوري الصيني بالفعل أو بالخيال أو بطرق التجارة على امتداد العصور. في المقابل، للصين علاقات شائكة مع معظم جيرانها الأقربين، وخاصة مع الهند وفيتنام. ونفوذها في آسيا الوسطى عليه أن يتكامل مع النفوذين الروسي ومن ثم التركي. الشرق الأوسط يفتح لها مجالاً أكثر تعقيداً وأكثر رحابة في آن.
ولهذا خلفية مساعدة من زاوية تاريخ الطويل الأمد. حيث ظلت الصين «حضارة برانية» بإزاء الحضارة الإسلامية. هذا بخلاف الحضارة الهندية التي تحول الإسلامدار إلى حضارة خارجها وداخلها، يكاد يكون بنفس القدر.
تاريخياً، ينظر الى «لحظة» معركة نهر طلاس التي وقعت صيف العام 751 في قرقيزيا بين جيوش العباسيين – المنتصرين لتوهم على الأمويين – وحلفائهم التيبتيين والترك من جهة، وبين الجيش الصيني لسلالة تانغ وحلفائه من الترك من جهة ثانية، على أنها رسمت حدّاً فاصلا بين الحضارتين، وإن سمحت بتنمية التبادل بينهما، ومعه مدّ الحضارة الإسلامية بأثمن ما قدم من الصين باتجاه عالم الإسلام: صناعات الورق والبارود والحرير.
إذا كانت المبادرة مثمرة بالفعل، وبالتالي صار من الممكن أن يتحادث ويتفاوض الجانبان السعودي والإيرانيّ بهدوء وبمكاشفة وحرص على عدم العودة إلى الوراء مجدّداً انتفت الحاجة الى مرجعية راعية لكل هذا
ساهم أيضاً هذا النصر العباسي على الصينيين بدخول الإسلام شيئاً فشيئاً في عمق آسيا الوسطى، والانتشار في مختلف شعوب العائلة التركية – المغولية، ناهيك عن اعتماد الدولة العباسية تدريجياً على العنصر التركي في بناء جيوشها.
لاحقاً، تمكنت الصين وروسيا من تقاسم هذا المدى الإسلامي الآسيوي الأوسط، وصارت بلاد الأويغور، التركستان الشرقية، جزءاً من الامبراطورية الصينية، علماً أن معظم مسلمي الصين هم من إثنية أخرى، أي من قوم «الخوي» الأقرب إثنياً الى الأكثرية الإثنية في الصين، المكونة من قوم «الهان». بالتالي، بات الإسلام واحداً من التراثات الدينية والروحية الأساسية بين سكان الصين، أضف الى الطاوية والكونفوشية والبوذية وما يوصف على أنه الديانة الشعبية «الخليط» من دون أن تعيش الحضارة الصينية تمزّقاً داخلياً حول الإسلام يمكن أن يقارن بما عاشته وتعيشه الحضارة الهندية.
علاقة الصين مع الإسلام، ومن خلاله مع مجتمعات وثقافات آسيا الوسطى وإيران ثم الشرق الأوسط، بقيت على رغم من زخم التبادل التجاري والثقافي علاقة برانية الى حد كبير. وليست هي حال الهند، ولا حال أوروبا أيضاً، التي شكلت المرحلة الإسلامية جزءاً معتبراً من تاريخ شبه جزيرتها الإيبيرية ذات حقبة مديدة، وجزءاً معتبراً من تاريخ حوض الدانوب في مرحلة تالية، والتي تحول فيها الاشتراك في التيمات الدينية بين المسيحية وبين الإسلام الى فضاء مرير وخلاق من فضاءات الصراع.
مع الصين حضر بالأحرى مفهوم التوازي. عالمان متوازيان. عالم الصين وعالم الإسلام. شبه متاخمين وغير مقفلين في الوقت نفسه الواحد عن الآخر. جمع بينهما «السلام المغولي» في القرنين الثالث عشر والرابع عشر في مدى امبراطوري واحد لم يعمّر طويلاً. ثم عادت كل حضارة من بعده إلى الانطواء والتوازي، الواحدة بإزاء الأخرى.
هذا التوازي الحضاري الصيني – الإسلامداري ليس بمعطى يمكن إخراجه من الحسبان بسهولة عند طرق باب الصين اليوم وعلاقتها بآسيا الوسطى ثم بالشرق الأوسط. وحتى لو أن قضية الأويغور، هي بمعنى من المعاني، قضية تحريكية لوجدان «الجامعة الإسلامية» بإزاء الهيمنة الإثنية الهانية في الصين، إلا أنها، على كثرة الظلم اللاحق فيها بقوم الأويغور، مسألة تتساكن بحذر، مع المحددات الطويلة الأمد للتوازي الحضاري بين عالم الصين وبين عالم الإسلام، الإسلامدار الأوسع.
في مقابل هذا التوازي المديد، وهذه العلاقة البرّانية بين الحضارتين، رغم أهمية التبادل بينهما، ليس من اليسر توصيف ما تريده الصين من منطقة الشرق الأوسط «جيوبوليتيكياً» اليوم، بشكل يميز فيه عما تريده اقتصادياً.
هذا لأن مصدر قوة وضعف الدور الصيني في هذه المنطقة الآن هو في جدّة هذا الدور. في أنه دور جديد للغاية، يكاد يكون بلا ماض، لقوة قديمة للغاية. دور جديد يريد شيئاً أكثر من الاكتفاء بالتوازي بين حضارتين واحدة مركزها في شرق القارة والثانية في جنوب ووسط وغرب القارة الآسيوية نفسها.
يمكن في المقابل البناء على أن دور الصين الراهن والمستقبلي في الشرق الأوسط لم يعد يختزل في الجانب الاقتصادي البحت لأن الصين تجد نفسها أكثر فأكثر في موقع القوة المؤهلة أكثر من سواها لحجز الموقع الثاني لها على الصعيد الاستراتيجي العالمي، أي على مستوى الاستقطاب الهيمني والهيمني المضاد.
وهذا الموقع شاغر منذ زوال الاتحاد السوفياتي. فمن يومها، يمكن الأخذ والرد لمعرفة من هي القوة الثالثة والرابعة والخامسة في العلاقات الدولية والتراتبية الهيمنية العالمية، لكن المرتبة الثانية «محجوزة للمجهول». مع بقاء روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي النووية، هي الأقرب إليها، وهو ما قد تكون روسيا متجهة الى تبديده في حربها الأوكرانية الآن. أما أوروبا، التي كانت تجربتها «الوحدوية» تمني النفس في وقت سابق، بأن يكون لها عملياً، الموقع الثاني في المراتب الاستراتيجية على الصعيد الكوكبي، فهي لم تستطع التأليف بشكل موقف بين مصالح أقطابها الرئيسيين، وهؤلاء تراهم حائرين الى العودة للتصرف كل واحد منهم على حدة كدولة قومية، وبين القناعة بأن أحجامهم متواضعة ومتوسطة في عالم اليوم ان هن لم يتصرفوا كقوة فوق قومية. الصين في المقابل، لها قوة أنها في الوقت عينه دولة – أمة، ودولة – امبراطورية، ودولة – حضارة. لكن هل يمكن ترجمة كل هذا باباً للتحول الى لاعب دولي أساسي في الشرق الأوسط، أي في البلدان التي تشكل قلب حضارة الإسلامدار، وحيث لم يعد هناك رابطة امبراطورية جامعة، لا عباسية ولا عثمانية ولا تعاضدية من أي نوع؟ هنا، التوازي بين حضارتين صار يعقبه التفارق بين ما هو أقرب ما يكون الى «النسق» الصين، وبين أقرب ما يكون الى «التشظي» الشرق الأوسط. فهل تحضر الصين في الشرق الأوسط كباعث أو مشجع على «إعادة التنسيق»؟ على إعادة اتخاذ منطقتنا شكل النسق؟
أم أن الاستثمار في التشظي هو ما يدفعها مثلها في ذلك مثل سواها؟ جواب من الآن؟ بالمطلق هذا أمر ممتنع. لكن بلى، يمكن، اعتبارياً على الأقل، تعلّم شيء ما من الصين كنسق. هذا لأن منطقتنا باتت أشبه ما تكون بالصفر نسق، وفي وقت هناك في ميل إلى نمو الأقلمة في معظم مناطق العالم الأخرى. هل تحيي الصين فينا نسقاً؟ أم هذا إسراف في التفاؤل بلا رصيد؟ بل يمكن أن تحيي فينا الشوق الى النسق.
كاتب من لبنان