في خضم المشهد البرلماني الجديد، يتواصل الجدل في البلاد حول حملة الاعتقالات الأخيرة خاصة أن أي طرف رسمي لم يدل بما يحصل في البلد.
تونس ـ «القدس العربي»: مثّل انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان التونسي الجديد المنبثق عن دستور 2022 مناسبة لعودة الجدل حول خريطة الطريق الرئاسية التي انتهت آخر محطاتها بانتخاب هذا البرلمان. فالأمر الرئاسي الصادر يوم 8 آذار/مارس الجاري والذي تضمن جدول أعمال الجلسة الافتتاحية أثار ردود فعل عديدة، فالبعض اعتبر ان هذا الإجراء الشكلي هو دلالة على هيمنة السلطة التنفيذية على مفاصل البرلمان الجديد وتوجهاته العامة، وسط تساؤلات حول مدى قدرته على لعب وظيفته التشريعية المنوط بها بشكل مستقل بالرغم من الصلاحيات المحدودة وفق الدستور الجديد.
أما الملاحظة الأهم فتتعلق بتركيبة البرلمان الذي أفرز خريطة سياسية جديدة يهيمن عليها المستقلون والذين ينتمي جلهّم إلى منظومة ما قبل 2011.
إضافة إلى تمكن بعض الأحزاب السياسية الداعمة لمسار سعيد مثل حركة الشعب وحزب الشباب وحراك 25 يوليو وغيرهم من الحصول على مقاعد في البرلمان أقل مما كان متوقعا ومما تمّ التسويق له خلال الفترة الماضية.
ويعتبر البعض ان المستقلين قد تمكنوا من الوصول بسبب «الماكينة القديمة» المتكونة أساسا من التيار الدستوري بكل تفرعاته وذلك في ظل مقاطعة أحزاب المعارضة وغياب أحزاب كبرى وازنة على المستوى الانتخابي وقادرة على التعبئة الشعبية والانتخابية.
هل انتهت الحالة الاستثنائية؟
وبالتزامن أيضا عاد النقاش حول توصيف ما حصل يوم 25 تموز/يوليو 2021 وذلك بين فريقين سياسيين واحد يعتبر ما قام به رئيس الجمهورية انقلابا على الشرعية ويقتضي اعتبار ما نتج عنه لاحقا باطلا بما في ذلك عملية تشكيل البرلمان الجديد، وآخر يعتبر ما حصل مسارا تصحيحيا لمعالجة الانحرافات التي حصلت خلال العشرية التي تلت الثورة. وبالتالي فإن انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان بالنسبة للفريق الأخير، أي فريق الموالاة للرئيس قيس سعيد، هي خطوة هامة في سبيل بناء مؤسسات الدولة من جديد والخروج من الحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد منذ أكثر من السنة ونصفها.
وانقسمت الآراء أيضا بشأن تأكيد البعض على انتهاء الحالة الاستثنائية بتشكل البرلمان وممارسته لمهامه التشريعية التي كانت منوطة بعهدة رئيس الجمهورية خلال الفترة الاستثنائية والذي كان يمارسها من خلال المراسيم. فالبعض يعتبر أن استئناف البرلمان للدور التشريعي كاف للجزم بانتهاء الفترة الاستثنائية، فيما يرى فريق آخر بأن عدم تشكل الغرفة الثانية للبرلمان أي مجلس الجهات والأقاليم والمجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية العليا يجعل من القول بأن البلد قد خرج من مرحلته الاستثنائية أمرا مجانبا للصواب.
فحالة الاستثناء حسب هؤلاء مستمرة ما دام الحكم الجديد يسير على خطى من سبقه في سياسة شؤون البلاد والعباد خلال العشرية الماضية، في عدم المسارعة بتشكيل المحكمة الدستورية العليا. فتلك المحكمة كان من المفروض أن تعلن منذ سنوات معدودات عن وفاة الرئيس الأسبق الباجي قايد السبسي وعن حصول الشغور في منصب رئيس الجمهورية وان تدعو رئيس البرلمان محمد الناصر لرئاسة الجمهورية مؤقتا. لكن شيئا من ذلك لم يحصل وتم إيجاد توافق لتحقيق ذلك في غياب المحكمة الدستورية العليا وقد كان بامكان أي طرف سياسي أن يعارض عملية تسلم الرئيس السابق محمد الناصر للسلطة خلفا لقايد السبسي باعتبار عدم دستورية العملية.
وما زال الخطر قائما على استقرار الدولة إلى اليوم ما دام من هم في السلطة يواصلون سياسة حركتي النهضة ونداء تونس في تعطيل تشكيل المحكمة الدستورية العليا والاستفراد بتأويل نصوص الدستور رغم أن تركيبة هذه المحكمة ستكون موالية في كل الأحوال وذلك من خلال قراءة بسيطة لفصول الدستور الجديد المتعلقة بهذه المحكمة. كما أن الترسانة الهائلة من القوانين والمراسيم التي تم سنها خلال السنوات الماضية والتي يؤكد كثير من خبراء القانون بأن الكثير منها يتعارض مع الدستور وجب الحسم بشأنها من المحكمة الدستورية العليا دون سواها.
ويكتنف الغموض أيضا مسألة الغرفة الثانية للبرلمان أي مجلس الجهات والأقاليم، وهناك أسئلة عديدة تتعلق بتاريخ انتخاب هذا المجلس وكيف سيتشكل تحديدا وما هي صلاحياته وكيف سيقع حسم الخلاف في حال حصل تنازع بينه وبين مجلس نواب الشعب فيما يتعلق بالاختصاص. وهل من الضروري أن تكون في تونس غرفتا برلمان وهي الدولة الموحدة المتجانسة باعتبار أن برلمان الغرفتين لا يوجد في أغلب الأحيان إلا في الدول الفدرالية حيث توجد غرفة لتمثيل المواطنين على أساس انتمائهم لعموم البلد، في حين تمثل الدول المشكلة للاتحاد في الغرفة الثانية ويتم الدفاع عن مصالحها في هذه الغرفة.
ولعل ما سيزيد الأمر تعقيدا هو مسألة الولاء الأعمى للجهة والدفاع عن مصالها الذي تفرضه طبيعة هذه الغرفة النيابية الثانية والغاية التي أنشئت من أجلها بموجب دستور سنة 2022. إذ سيتسبب هذا التوجه، وفق البعض، في تغذية وإحياء النعرات الجهوية التي سعت دولة الاستقلال إلى القضاء عليها لترسيخ كيان تونسي موحد ومندمج لا يمكن أن يطاله التفكك الذي يهدد البعض في الجوار.
لقد بدا للبعض وكأن هناك طرفا خارجيا ما يرغب في استهداف النسيج الاجتماعي المتماسك لتونس الذي يميزها عن الكثير من بلدان محيطها التي تعاني من النعرات القبلية والجهوية وحتى العرقية بين عرب وأمازيغ وطوارق وغيرهم. ويدرك القاصي والداني أن النسيج الاجتماعي غير المتماسك بفعل التعصب للجهة أو القبيلة أو العرق أو غيره، والذي سيترسخ، حسب البعض، بتشكل مجلس الجهات والأقاليم، هو الذي يمهد طريق الهيمنة على البلد ويسهل في مقبل السنوات عملية السيطرة عليه والتحكم فيه سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
وفي خضم هذا المشهد البرلماني الجديد، يتواصل الجدل في البلاد حول حملة الاعتقالات الأخيرة التي طالت سياسيين ورجال قانون وإعلاميين ورجال أعمال وغيرهم خاصة وأنه لم يخرج أي طرف رسمي ليتحدث إلى التونسيين حول حقيقة ما يحصل في البلد. في حين تتهم أوساط المعارضة سعيد بمحاولة إسكات كل معارضيه من خلال التتبعات القضائية. ويقول المحامي والناشط السياسي صبري الثابتي لـ«القدس العربي» إن «الشبهات المتحدث عنها والتي يتم بسببها الاحتفاظ بهؤلاء خطيرة ويعاقب عنها في حال ثبوتها بالسجن لفترات طويلة وهو ما يستوجب التريث والبحث الدقيق عن الأدلة وإقناع الرأي العام بجدية التتبعات وبأنها تنبني على قرائن وأدلة لا يرقى إليها الشك».
فالشك في المادة الجزائية يؤول لصالح المتهم، أي إذا احتار القاضي بين الإدانة والبراءة عليه بإخلاء سبيل المتهم وإيقاف التتبع لعدم كفاية الأدلة وليس العكس باعتبار أن القاعدة تقضي أن مجرما حرا بحالة سراح أفضل من بريء في السجن. والمتهم بريء إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي بات استوفى جميع درجات التقاضي أو انقضت آجال الطعن فيه ولم يقم المعني بالطعن لدى المحكمة الأعلى درجة.
ورغم هذه القواعد الثابتة في المادة الجزائية والتي يدافع عنها الطيف الحقوقي التونسي ويسعى إلى ترسيخها منذ عقود، إلا أن البعض ما زالوا يجزمون بارتكاب الجرم لمجرد الشبهة ومن دون حصول محاكمات عادلة يتم فيها ضمان حق الدفاع للمتهمين. وقد زادت مواقع التواصل الاجتماعي من انتشار هؤلاء الذين ينصبون المشانق الافتراضية ويستهدفون أعراض الناس ويتشفون في خلق الله دون الاستماع إلى الطرف الآخر ودون الاعتراف له بحقه في الدفاع.
وفي هذا الإطار يقول الثابتي «إن المادة الجزائية تقوم على مبدأ التقاضي على درجتين بالنظر إلى خطورة الأحكام الصادرة عنها والتي فيها عقوبات مالية وأخرى سالبة للحرية وثالثة سالبة للحياة، والأخيرة لم تعد تطبق منذ سنوات باعتبار أن تنفيذ أحكام الإعدام لم يحصل في تونس منذ بداية التسعينات». كما تخضع الأحكام الصادرة عن محكمتي الدرجة الأولى والثانية، حسب محدثنا، إلى رقابة محكمة ثالثة مهمتها مراقبة تطبيق القانون بدون النظر في الوقائع إلا إذا عادت إليها القضية للمرة الثالثة من محكمة الدرجة الثانية فحينها تصدر محكمة التعقيب أو محكمة النقض كما تسمى في بعض الدول حكمها البات والنهائي.
ويضيف الثابتي قائلا: «وقبل ذلك تتعهد النيابة بالبحث في الأدلة مع أجهزة الأمن من الشرطة العدلية التي تجمعها لتحيل النيابة الملف إلى قاضي التحقيق الذي يحقق مع المشتبه فيهم ثم يوجه التهمة إن وجدت أو يحفظها. وقرارات قاضي التحقيق قابلة للطعن فيها لدى دائرة الاتهام التي يمكن لاحقا تعقيب قراراتها أو نقضها. فالمسار طويل جدا حتى يقع الوصول إلى المرحلة التي يتم فيها اعتبار شخص ما بأنه مجرم. ومن المستغرب حقا أن يتم اليوم استباق أعمال القضاء وإصدار أحكام الإدانة في مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض المنابر الإعلامية خاصة وأننا ما زلنا في مرحلة الشبهة ولم نصل حتى إلى مرحلة الاتهام فما بالك بالإدانة».
تونس لا تقلد احد …! تونس سباقة في توجيه العالم نحو الخروج من تعاسته ……! و التاريخ سيشهد بذلك …!