من وحي نهر النيل، ذلك الملهم العظيم، ألّف الموسيقار الفرنسي كامي سان صانس، كونشرتو البيانو رقم 5 أو الكونشرتو المصري L’Égyptien، وهو آخر مؤلفاته في هذا القالب الموسيقي، ولم يؤلف من بعده أي كونشرتو آخر للبيانو. وقد أبدع كامي سان صانس الكونشرتو المصري سنة 1895، أثناء إحدى زياراته المتكررة إلى مصر، وتحديداً خلال وجوده في مدينة الأقصر، التي كان يقضي فيها فصل الشتاء عادةً، فالأقصر مشتى عالمي، وهي مدينة الشمس التي يقصدها الباحثون عن الدفء والنور، وجمال الطبيعة وعظمة التاريخ وجلال الماضي. هناك على أرض الأقصر الطيّبة، كانت أنغام الكونشرتو المصري تتهادى، وتتكون في ذهن الموسيقار الفرنسي الزائر، فيدونها على الأوراق ويُعدّل ويحذف، ويعيد الصياغة ويدون من جديد إلى أن اكتمل العمل، واتخذ شكله النهائي وصار جاهزاً للعزف، ولأن يسمعه الجمهور لأول مرة. وكان الحفل الأول الذي عُزف فيه هذا الكونشرتو في باريس سنة 1896، وقام كامي سان صانس بالعزف على البيانو بنفسه في ذلك الحفل، واستقبل الجمهور العمل استقبالاً رائعاً، وحظي كذلك بالتقدير النقدي، ومع مرور الزمن أصبح هذا الكونشرتو، من مؤلفات كامي سان صانس الخالدة، ومن القطع الكلاسيكية الرومانتيكية، البديعة والمختلفة، والمتميزة بانفتاحها على ثقافات وحضارات بلدان أخرى.
يعد الموسيقار الفرنسي كامي سان صانس، الذي عاش في الفترة من سنة 1835 إلى سنة 1921، من الأسماء الكبيرة في عالم الموسيقى الكلاسيكية، وهو من أعلام الحقبة الرومانتيكية، ويطلق عليه البعض لقب موزار فرنسا. وله فضل كبير على الموسيقى الكلاسيكية الفرنسية، ذلك أنه كان من بين الذين رفعوا من شأنها، ومكنوها من الوقوف في وجه الموسيقى الألمانية والنمساوية والمجرية، أو الوقوف إلى جانبها على الأقل، وكان كامي سان صانس من أهم الموسيقيين الفرنسيين، الذين انتزعوا من الآخرين الاعتراف بالتأليف الفرنسي، واعتباره منافساً موجوداً في ساحات التباري الثقافي بين البلدان. ومثل الكثيرين من عباقرة الموسيقى الكلاسيكية، أظهر كامي سان صانس موهبة مبكرة، ومهارة في العزف والتأليف منذ الطفولة، وقدم أولى حفلاته الاحترافية عندما كان في العاشرة من عمره. وإلى جانب التأليف كان سان صانس يعزف ببراعة على البيانو والأورغن، وفي بعض الأحيان كان يقود الأوركسترا بنفسه. ومن أشهر أعماله الخالدة أوبرا شمشون ودليلة Samson et Dalila، ورقصة المقابر Danse macabre، وشباب هرقل La Jeunesse d’Hercule، والمتتالية الموسيقية مهرجان الحيوانات Le Carnaval des animaux التي يحاول من خلال حركاتها الأربع عشرة، محاكاة أصوات الحيوانات وإيقاعها الحركي، كالأسد والديوك والسلاحف، والفيلة والكنغر والبجع وغيرها من الحيوانات. ويتميز كامي سان صانس بانفتاحه على الثقافات الأخرى البعيدة عن ثقافته الفرنسية، وسعيه إلى تقديم بعض من ملامحها في مؤلفاته الموسيقية.
في الأقصر التقى كامي سان صانس بنهر النيل، الحليوة الأسمر كما وصفه أمير الشعراء أحمد شوقي، في قصيدة النيل نجاشي، التي لحنها وغناها محمد عبد الوهاب في فيلم «الوردة البيضاء» سنة 1932.
الرومانتيكي الكبير في الأقصر
في الأقصر التقى كامي سان صانس بنهر النيل، الحليوة الأسمر كما وصفه أمير الشعراء أحمد شوقي، في قصيدة النيل نجاشي، التي لحنها وغناها محمد عبد الوهاب في فيلم «الوردة البيضاء» سنة 1932. وللنيل في الأقصر سحره الخاص، الذي يبهرنا نحن المصريين المعتادين على رؤية النيل في مناطق الوطن الأخرى، فما بال العين الغريبة التي تطالع هذا السحر والجمال، ولنا أن نتخيل كيف كان النيل في ذلك الوقت سنة 1895 أثناء زيارة سان صانس للأقصر، ووقت تأليفه للكونشرتو المصري، فإلى اليوم لا يزال النيل في الأقصر، وفي مدن الجنوب، سالماً بشكل كبير من الأذى الهائل الذي طاله في شمال البلاد. ومن المؤكد أن سحره كان مضاعفاً في ذلك الزمن القديم، لا يحجبه بناء، ولا يشوش على همس أمواجه ضجيج، لذا نجد أن الموسيقار الفرنسي قد استمع جيداً إلى صوت النيل وإلى كل ما يقوله، وحاول التعبير عن ذلك من خلال موسيقاه. لكن سان صانس لم يكن أمام جمال النيل وحسب في الأقصر، فهناك تتجلى عظمة الحضارة المصرية القديمة في أوج أبهتها وكبريائها، حيث يوجد وادي الملوك وطريق الكباش، وأهم المعابد الفرعونية كمعبد الكرنك والدير البحري، ومعابد الإله آمون وحتشبسوت ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث، والكثير من الآثار الفرعونية الأخرى. ولعظمة هذه الآثار ولجلال الحضارة الفرعونية، ملامح نجدها في موسيقى سان صانس أيضاً، وإن كان ذلك من خلال بعض الإشارات القليلة، لكنها موجودة على كل حال، ولا تغفل عنها الأذن المصغية.
عندما أراد كامي سان صانس، أن يؤلف موسيقى من وحي مصر ومدينة الأقصر ونهر النيل، اختار أن يضع هذه الموسيقى في قالب الكونشرتو، وكونشرتو البيانو تحديداً، مع الأوركسترا بطبيعة الحال. والكونشرتو قالب موسيقي يميزه تصدّر آلة من الآلات الموسيقية، لكي تلعب دور البطولة فيه، فهناك كونشرتو البيانو وكونشرتو الكمان، وكونشرتو التشيللو على سبيل المثال. وفي الكونشرتو تكون الآلة الموسيقية التي يختارها الموسيقار هي البطل الرئيسي، وتكون بقية الآلات الموسيقية في الأدوار المساندة، تدعم الآلة الرئيسية وتساعدها على إظهار جمالياتها وقدراتها التعبيرية، وتتحاور معها وترد عليها أحياناً، وتحيطها بالكثير من التأثيرات الأخرى، وتخلق من حولها الأجواء اللازمة للتعبير عن موضوع القطعة الموسيقية. ولكامي سان صانس مجموعة من المؤلفات في قالب الكونشرتو، سواء كونشرتو البيانو أو كونشرتو الفيولينة أو كونشرتو التشيللو. وكما ذكرنا من قبل، كان الكونشرتو المصري خاتمة أعماله من كونشرتو البيانو، وهي مجموعة مكونة من خمسة أعمال فقط، وبشكل عام يكون الكونشرتو فرصة كبرى، تتيح للمؤلف الموسيقي إظهار مدى براعته في التأليف لآلة معينة، ووضع الجمل الموسيقية الصعبة، التي تتطلب مهارة عالية في العزف. ويرتبط كامي سان صانس بآلة البيانو على وجه الخصوص، لأنه من الآلات التي كان يجيد العزف عليها، وألف لها أجمل المقطوعات الموسيقية، وكونشرتو البيانو الخامس أو الكونشرتو المصري، خير مثال على هذه العلاقة الوطيدة بين الموسيقار الفرنسي والبيانو.
الإصغاء إلى صوت النهر
يستغرق عزف الكونشرتو المصري 27 دقيقة تقريباً ويتكون من ثلاث حركات، والبيانو هو بطل العمل بطبيعة الحال، وتصاحبة مجموعة الوتريات من كمان وفيولا وتشيللو وكونترباص، ومجموعة الهوائيات الخشبية ذات الدور البارز في هذا العمل، وتحديداً الفلوت والأوبوا، بالإضافة إلى الكلارينيت والباصون، وللنحاسيات دورها المهم أيضاً وإن كان قصيراً، ويتصدرها البوق الفرنسي، وفي الخلفية يوجد الترومبيت والترومبون، ومن الآلات الإيقاعية توجد آلة التيمباني التي تتدخل في أوقات قليلة بلمساتها الرائعة. أجواء الكونشرتو هي أجواء رحلة نهرية قام بها كامي سان صانس، في ذهبية من ذهبيات الأقصر، أو «دهبية» كما ننطقها بالعامية المصرية، والذهبية نوع من أنواع المراكب الشراعية. ومن يستمع إلى هذا الكونشرتو يجد أن الموسيقار يحاول أن يعبر عن المياه والهواء، عن جري تلك المياه وانسيابيتها ومداعبة الهواء لها، كما يعطي إشارات خاطفة تقول إن هذه الموسيقى تعبر عن حضارة أخرى، وبلد شرقي وطبيعة مصرية وتاريخ عظيم، فعندما تكون الموسيقى رقيقة ناعمة، فهي تعبر عن جمال النهر والأرض الطيبة، وعندما تكون الموسيقى قوية عالية، فإنها تعبر عن عظمة التاريخ المتجلية في الأقصر والآثار الفرعونية المهيبة. ولم ينس سان صانس أن يعبر عن البشر، فهم أصل المكان وروحه وهم الذين يصنعون الحضارات، فمن غناء أهل النوبة وموسيقاهم الخلابة، استلهم سان صانس جملة موسيقية بديعة، أو ربما نقلها نقلاً، من أغنية نوبية سمعها من أحد المراكبية وهو يشدو بها، والأغنية غير معروفة على وجه التحديد للأسف، لكن المعروف أنها أغنية حب نوبية. تأثر الموسيقار الفرنسي الكبير بغناء المراكبي، وعشق أنغامه إلى درجة أن وضعها في عمله هذا ليخلدها، وليتم ذكر ذلك المراكبي النوبي دائماً، الذي كان يغني بتلقائية وهو يمارس عمله على ظهر المركب. وهذا يذكرنا أيضاً بأغنية النيل نجاشي، وما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي، عن الفلايكي نسبة إلى الفلوكة وهي المركب أيضاً، في مقطع من الأغنية يقول: «رد الفلايكي بصوت ملايكي».
كان كامي سان صانس يصغي بأذنيه وقلبه وروحه إلى النيل، وإلى كل شيء في مدينة الأقصر، ويستمع بشكل عميق إلى صوت المياه وصوت الهواء، وصوت البشر الذين يجهل لغتهم لكنه يفهم أنغامهم ومشاعرهم، ونشعر أحياناً بأنه كان يصغي حتى إلى صوت الحجر وما تقوله التماثيل العظيمة، والكنوز المدفونة في باطن الأرض، ولم يفت الموسيقار الكبير المغرم بمحاكاة أصوات الحيوانات والتعبير عنها موسيقياً، أن يصغي إلى نقيق الضفادع وصوت صرصور الليل ويقدمهما في لحظات سريعة من الكونشرتو. لا يتوقع المستمع أن يصغي إلى موسيقى شرقية مصرية في هذا العمل، وإن كان كونشرتو البيانو الخامس يعرف باسم الكونشرتو المصري، فهذا لا يعني أنه يحتوي على أنغام مصرية، هذا عمل كلاسيكي ينتمي إلى الحقبة الرومانتيكية، وهذه موسيقى غربية الروح والتكوين، تعبر عن ثقافات مختلفة عن الثقافة الغربية وأماكن أخرى بعيدة عنها، لكن بصوت غربي ومن خلال نظرة غربية، والتأثيرات الشرقية المصرية في هذا العمل محدودة للغاية، وصاغها الموسيقار بأسلوب غربي بحت.
كاتبة مصرية