في مؤتمر صحافي عقده هذا الأسبوع في طهران وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أغدق الثناء على نفسه وعلى وزارته. “سياسة عزل إيران فشلت”، قال عندما أحصى إنجازات دولته في مجال السياسة الخارجية. “قدمنا طلباً للانضمام إلى منظمة “بريكس” (منظمة الدول التي تنافس جي 7، والتي تشمل فيها روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا)… إيران على طرق العبور الرئيسية الرابطة بين الشرق والغرب، ونحن نتمتع بأفضليات وتسهيلات بفضل ذلك. سنفتتح السفارة في السعودية (افتتحت في اليوم التالي)، وبشكل عام بدأ نظام عالمي جديد في التبلور، نظام سيبتعد عن نظام القطب الواحد. والذي يركز فيه اللاعبون الرئيسيون في العالم على تعدد اللاعبين والأقطاب”.
عبد اللهيان يمكن وبحق أن يكون راضياً، ليس فقط بسبب إنجازات السياسة الخارجية الإيرانية؛ فقبل ثلاثة أسابيع استقال خصمه علي شمخاني، الأمين العام لمجلس الأمن القومي والشخص الذي شكل ونفذ السياسة الخارجية الإيرانية في الشرق الأوسط. شمخاني هو الذي راكم مع الصين استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، وقبل ذلك مع الإمارات، وبدأ في الانشغال في جس نبض لاستئناف العلاقات مع مصر. وما دام شمخاني في منصبه فلم يبق لعبد اللهيان إلا أن قص الشريط وتعزيز ما قام شمخاني ببنائه. ولكن عبد اللهيان حتى الآن لا يمكنه الاحتفال بكامل انتصاره؛ فحقيقة أنه وزير الخارجية لا تؤثر على مستشاري الزعيم الأعلى علي خامنئي، مثل كمال خرزاي وعلي أكبر ولايتي، الذين يلقي عليهما خامنئي مهمات مهمة ويتجاوز بذلك وزير الخارجية.
اعتاد خامنئي على اختيار مبعوثي دولته حتى في فترات سابقة. هكذا كان عندما أرسل ولايتي في 2018 للالتقاء مع بوتين بدلاً من وزير الخارجية في حينه محمد جواد ظريف، الذي اعتبر “حبيب الأمريكيين”. لذلك، لم يكن مناسباً لإدارة العلاقات الخارجية مع روسيا؛ أو عندما قام قاسم سليماني بدعوة الرئيس السوري بشار الأسد لزيارة إيران دون إبلاغ ظريف بهذا، الذي بسبب غضبه قدم استقالته والتي تم رفضها. وزراء الخارجية أو المستشارين الرسميين ليسوا الوحيدين الذين يهمسون في أذن خامنئي (84 سنة)؛ فقادة كبار في حرس الثورة وفقهاء شريعة وابنه مجتبى الذي يدير شؤون مكتب الزعيم الأعلى وصندوق الأموال الخاصة – هؤلاء القلة من أصحاب المصالح قادرون على التأثير على قلب خامنئي وتوجيه القرارات الاستراتيجية، ومنها المتعلقة بالمشروع النووي وعلاقات إيران مع الدول العربية والغرب.
قنبلة صوت
في هذا الأسبوع ألقى الوزير السابق ظريف قنبلة صوت عندما كشف في نقاش أجراه في شبكة “كلاب هاوس”، وقبل ذلك في منشورات في “إنستغرام”، بأن قرار البدء في المفاوضات حول الاتفاق النووي الأصلي اتخذه خامنئي في 2012، عندما كان أحمدي نجاد هو الرئيس الإيراني، وسعيد جليلي السكرتير لمجلس الأمن القومي، هذا رغم معارضتهما ذلك بشدة. المفاوضات الأولية التي جرت بلقاءات بين شخصيات رفيعة أمريكية وإيرانية في سلطة عمان تطورت إلى مفاوضات علنية أدت إلى التوقيع على الاتفاق النووي، وبعد تسلم الرئيس حسن روحاني للمنصب في صيف 2013. وكشف ظريف أيضاً أنه بعد التوقيع على الاتفاق، وصلت اقتراحات إلى إيران لاستثمارات بمبلغ 80 مليار دولار، صادقت على مليارين فقط منها.
“كان من الخطأ عدم إدخال الولايات المتحدة إلى السوق الإيرانية بعد الاتفاق”، قال ظريف. “هذه الخطوة ربما كان يمكن أن تمنع انسحاب واشنطن من الاتفاق في 2018”. وقال أيضاً إنه تلقى دعوة من ترامب لزيارة البيت الأبيض بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، ولكنه مُنع من تلبية الدعوة “ليس من المستوى الأعلى، بل من مستويات متدنية”، حسب قوله. وجه ظريف أيضاً انتقاداً لاذعاً، حتى لو بشكل غير مباشر، لقيادة الدولة عندما كتب بأن “الطموحات والأمنيات الإيرانية أكبر من القدرة على تجسيد سياستها الخارجية”.
هذه ليست المرة الأولى التي يسمع فيها ظريف انتقاداً شديداً لخصوم سياسيين وبشكل غير مباشر أيضاً لمن قام بتعيينه في المناصب الرفيعة. أقواله توضح في كل مرة بأن عملية اتخاذ القرارات في الدولة معقدة أكثر من الدارج اعتقاده في الغرب وإسرائيل. لخامنئي الكلمة الأخيرة، لكن هذه الكلمة تنضج ببطء وفي أروقة القوة في الدولة، وتتعرج بين أصحاب المصالح وأصحاب النفوذ قبل أن تصل إلى الحسم. يبدو أن الأمر المهم في الأقوال التي وجهها ظريف ضد خصومه ومنتقديه (الذين ما زالوا يعتبرونه خائناً رغم أنه عمل حسب توجيهات الزعيم الأعلى) هو “إذا كان هذا الاتفاق خيانة فلماذا لا ترمونه وتدفنونه؟”.
هذه هي الأمور التي تشغل متخذي القرارات في واشنطن وإسرائيل والدول الأوروبية والوكالة الدولية للطاقة النووية في هذه الأيام. هل إيران مستعدة لاستئناف المفاوضات حول الاتفاق؟ ماذا سيكون جوهر الاتفاق الذي يمكن التوصل إليه معها؟ أو هل يتعلق الأمر بكسب الوقت و”دفنه”؟ هذه ليست أسئلة جديدة. فقد ثارت منذ صيف 2021 أثناء التجميد الطويل الذي وصلت إليه المفاوضات قبل الانتخابات في إيران، عقب انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران.
عند استئناف المفاوضات وخلال سنة تقريباً، كان يبدو أن الاتفاق آخذ في التبلور إلى أن انضمت واشنطن للتفاؤل الذي ساد في أيلول الماضي. هذه الأجواء أدت إلى التفكير بأن الاتفاق مسألة أيام، أو على الأكثر أسابيع. ولكن بعد ذلك، اندلعت مظاهرات النساء في إيران، وتوقفت المفاوضات، وبعد ذلك اندلعت الحرب في أوكرانيا. واشنطن، على الأقل حسب تصريحاتها، نقلت المفاوضات إلى الساحة الخلفية، لكنها تجنبت دفنها. وقد واصلت التمسك بالسياسة القائلة بأن قناة الدبلوماسية هي الطريق الأفضل لمنع إيران من الوصول إلى السلاح النووي، إضافة إلى تصريحها بأن “كل الخيارات مفتوحة”، أي الخيار العسكري أيضاً.
في الوقت نفسه، استمرت الاتصالات الدبلوماسية غير المباشرة بواسطة المبعوثين؛ فمرة بطلب وساطة قطرية، ومرة عر العراق خدماته، لكن سلطنة عمان كانت كما يبدو الدولة الأكثر نشاطاً في الموضوع. فقد نجحت في التوصل مؤخراً إلى تبادل للأسرى بين إيران وبلجيكا، وهي في هذه الأثناء تنشغل بإطلاق سراح أسرى لديهم الجنسية الإيرانية والأمريكية من السجون في طهران.
“فايننشال تايمز” نشرت أيضاً بأن المبعوث الخاص للولايات المتحدة لشؤون الاتفاق النووي، روبرت مالي، هو الذي كان يبدو أن مهمته وصلت إلى نهايتها قبل بضعة أشهر، والتقى مع سفير إيران في الأمم المتحدة سعيد ارواني عدة مرات. استأنفت الإمارات العلاقات الدبلوماسية مع إيران في آب الماضي بعد التوقيع على عدة اتفاقات للتعاون الاقتصادي معها. في هذا الشهر، أعلنت قراراً قبل نحو شهرين بالانسحاب من التحالف الدولي برئاسة الولايات المتحدة، الذي استهدف بشكل رسمي ضمان حرية الملاحة في الخليج. ولكنه عملياً موجه ليكون قوة صد لنشاطات إيران.
يبدو أن هذه التطورات قد أدت بوزير الخارجية عبد اللهيان إلى الإعلان بأن “مراسلات تجري بين إيران والدول التي وقعت على الاتفاق النووي لاستئناف الاتفاق. وأنه قد تم تحقيق تقدم جيد”. في الوقت نفسه، قال إن “الاتفاق النووي هو خارطة الطريق لرفع العقوبات عن إيران”. واشنطن نفت وجود مراسلات بينها وبين إيران، لكنها لم تنف الاتصالات التي تجريها شخصيات رفيعة لدفع المفاوضات قدماً.
لا نعرف ما الذي يقصده عبد اللهيان بمفهوم “تقدم جيد”، لكن بعد فترة قصيرة على أقواله، قررت الوكالة الدولية للطاقة النووية إغلاق اثنين من ملفات التحقيق التي تتعلق ببقايا اليورانيوم المخصب والتي اكتشفت في مواقع لم تبلغ عنها إيران، وملف التحقيق المتعلق باليورانيوم المخصب بمستوى 83.7 في المئة، الذي بخصوصه اقتنعت الوكالة الدولية للطاقة النووية بأن الأمر يتعلق بخطأ تقني.
حتى الآن، بقي ملفان لم تحصل الوكالة الدولية للطاقة النووي على أي تفسير مقنع بخصوصهما. والبيان الذي صدر هذا الأسبوع عن سكرتير الوكالة، رفائيل غروسي، لا يعفي إيران من الخروقات ومن عدم الإبلاغ، ويؤكد أن كمية اليورانيوم المخصب لدى طهران زادت الربع خلال ثلاثة أشهر، وهي تبلغ الآن نصف طن من اليورانيوم المخصب بمستوى 20 في المئة ونحو 100 كغم بمستوى 60 في المئة. بحساب إجمالي، فإن كمية اليورانيوم المخصب في يد إيران بلغت 23 ضعف الكمية التي كانت لديها عند التوقيع على الاتفاق النووي.
يسارعون إلى العزلة
إسرائيل كما هو متوقع، خرجت عن أطوارها واتهمت الوكالة الدولية للطاقة النووية بالاستسلام لأكاذيب إيران. المتحدث بلسان وزارة الخارجية، ليئور خياط، صاغ بياناً مسمماً كتب فيه بأن “التفسيرات التي قدمتها إيران عن وجود مادة نووية في المكان غير موثوقة وغير محتملة من ناحية تقنية. تستمر إيران في الكذب على الوكالة وتخدع المجتمع الدولي. خضوع المدير العام للوكالة، والوكالة نفسها، للضغوط السياسية الإيرانية يخيب الآمال، خصوصاً أن المعلومات الموجودة في الملف تشير، بصورة لا يمكن تفسيرها بطريقة أخرى، إلى خرق صارخ لإيران لاتفاقات الرقابة”. رد غروسي على ذلك وقال: “لن نغير معاييرنا يوماً ما. نحن نتمسك بها ونطبقها”.
ولدعم غروسي، هبت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، التي كتبت في بيانها قبل اجتماع مجلس المحافظين في الوكالة في هذا الأسبوع: “نرغب في التعبير عن التقدير للوكالة الدولية للطاقة النووية وعملها المهني النزيه، خاصة في قضية الرقابة على المنشآت الإيرانية”. مسار التصادم الدبلوماسي الذي تسرع إسرائيل الخطى عليه أمام الدول التي وقعت على الاتفاق، لا سيما الولايات المتحدة، غير جديد، ولكن يبدو أنها تبذل الجهود الحثيثة في هذه المرة كي تعزل نفسها في الساحة الدولية، التي يتقدم فيها إحياء المفاوضات بشكل جيد كما يبدو.
على فرض أن إيران مستعدة الآن للتقدم نحو الاتفاق الجديد، يطرح سؤال: أي اتفاق سيكون؟ هل التفاهمات التي تم التوصل إليها حتى أيلول 2022 (التي تشبه بشكل مبدئي الاتفاق الأصلي)، وتشكل الأساس للاتفاق الجديد، سيتم تجديدها، أم سيكون اتفاقاً جزئياً تحصل بحسبه إيران على الأموال المجمدة في العراق وكوريا الجنوبية – 20 مليار دولار بالإجمال، وتحصل على رفع محدود لبعض العقوبات مقابل تجميد مخزون اليورانيوم الذي تحتفظ به، وإعادة الموافقة على الرقابة بالمستوى الذي كان موجوداً قبل تقييد دخول المراقبين؟
ليس واضحاً إذا كانت إيران مستعدة أصلاً لتبني هذه المعادلة التي ستبقيها تحت نظام العقوبات الذي لا يمكنها من الاستغلال الكامل للإمكانيات الاقتصادية الكامنة في استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية والإمارات، وتطبيق الاتفاق الضخم الذي وقعته مع الصين. بالنسبة لإيران، ربما يكون الاتفاق الجزئي أسوأ من الاتفاق الكامل. وإذا استندنا إلى تصريحاتها الثابتة، فهي تسعى لرفع كامل للعقوبات مع معرفتها للثمن الذي عليها أن تدفعه.
تسفي برئيل
هآرتس 9/6/2023